نريد أن نحكم عقولنا قبل عواطفنا
حينما تطير البالونات إلى أقصى مستوى لن يسمع المستمتعون بالرحلة أي هتافات تحذر من خطر الهبوط بسرعة أعلى من سرعة الصعود.
ومنذ مرت أسواق الأسهم الخليجية، خاصة دبي والرياض بطفرة الأسهم التي بدأت صعودها تدريجيا منذ عام 2002، ثم زادت سرعة الصعود أو بلغة أدق زادت نسبة التغير في نسبة الصعود، وحقق الكثيرون ثروات ما خطرت على بالهم، انتهى منطق العقل والتجربة والمعرفة ووُلد دور بعض شباب المحللين وتبعهم الكهول الذين وجدوا بالتجربة الميدانية القصيرة أن أقوال المحللين المتخصصين من أمثال نيمورا وكردت سويس وغيرهم من بيوت الخبرة العالمية تخالف الواقع ما دامت كانت أسعار الأسهم في تصاعد مستمر.
وحتى على المستوى المحلي حذر بشر بخيت من تجاهل المنطق المالي وكذلك عمار شطا. وحتى أمثال الدكتور الربعي حذروا وحاولوا لفت الأنظار. يقول الدكتور الربعي في عموده، ("الشرق الأوسط" السبت 11/2/2006): "نحذر قبل فوات الأوان من أية كارثة اقتصادية في أي دولة خليجية بسبب عدم انضباط بعض البورصات والسماح بالتضخم والمضاربة.
ولا نريد أن تتكرر تجربة الكويت في أي دولة خليجية، فقد أدت الفوضى وعدم الرقابة قبل عقود من الزمن إلى نشوء كارثة المناخ التي كلفت البلاد مليارات الدولارات. وأكثر من ذلك كلفتها الاستقرار السياسي والأزمات الاجتماعية. ولم يحدث هذا الانضباط والشفافية في البورصة الكويتية إلا بعد أن دفع المجتمع كله ثمناً غالياً.
لقد نجحت الأسواق والمضاربات والمساهمات في إدخال الطبقة المتوسطة، بل محدودة الدخل في البورصات الخليجية، لذلك فأي كارثة، لا سمح الله، لن يدفع ثمنها الكبار والمقتدرون بل عموم الناس. وفي وضع كهذا لن تستطيع الدولة التدخل بسبب التكلفة المالية الباهظة بل المستحيلة، ولن تستطيع التفرج بسبب التكلفة الاجتماعية الباهظة".
ثم يتابع الدكتور الربعي: "نعرف أن هذا الحديث غير مرغوب فيه، وفي نشوة الطفرات المالية يبدو إغراء المال أقوى من استخدام العقل، بل إن الناس ليس فقط لا تريد الحديث في هذا الموضوع، بل لا تريد حتى التفكير فيه".
وقد كتبت ("الحياة" 21/02/2006) حينما اقترب المؤشر من عشرين ألف نقطة، كيف نوفق بين ما يقوله رجل في مكانة الدكتور الربعي تجربة وتأهيلاً واهتماماً بالشأن العام، وبين ما يقوله شبابنا في الدول الخليجية كافة عن مستويات أسعار الأسهم؟
إن الذي لا ينتبه إليه كثير من المحللين الشباب وأحيانا الشيوخ في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية، أنه ليس لهم تجربة ميدانية طويلة مع تقلبات أسواق الأسهم، صعوداً وهبوطاً.
ولو عُدنا الى موضوع أسواق "الأسهم فقط" ومستويات الأسعار التي تنذر بانتكاسات سريعة وبنسب كبيرة في فترة وجيزة، فأرجح ولا أجزم، أن سبب الإفراط في التفاؤل بمستقبل أسعار الأسهم هو أن هؤلاء الشباب لم يمروا بتجربة "سوق المناخ" في الكويت في صيف عام 1983، حينما ذابت الأسعار التي كان يقال لنا في وقت نشوئها وتصاعدها إنها معقولة، بأسرع من ذوبان الثلج الذي يوضع تحت الشمس في "الصفاة" في الكويت في أي يوم من أيام آب (أغسطس).
ولم يمروا أيضا بيوم "الإثنين الأسود" الموافق 19 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1987، حينما انهارت أسعار الأسهم الأمريكية فجأة ودون سابق إنذار بنحو 20 في المائة خلال ساعات، ثم تبعتها أسواق أوروبا التي لم تقفل إلا بعد ساعات، وتبعتهما الأسواق الآسيوية، في صباح يوم الثلاثاء، أي في مساء يوم الإثنين في الولايات المتحدة، بنسب متماثلة.
ولم يمروا بتجربة "ذوبان" أسعار الأسهم في آسيا عام 1997.
ولم يمروا بتجربة العالم أجمع في أواخر 1999 حينما انفجرت فقاعة "الإنترنت" أولاً، وتدريجياً ولمدة أربع سنوات إضافية انخفضت أسعار بقية الأسهم بما في ذلك أسهم الشركات المتزايدة أرباحها بنسب أعلى عن كل فترة من فترات الخوف التي تلت انتكاسة عام 1999.
وماذا كان يقول لنا شباب المحللين وما يسمى "التحليل الفني" في الأعوام 1987 و1997 و1999 عن مستويات أسعار الأسهم؟
قبل تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1987 كانوا يقولون إن الدين الأمريكي العام لا يهم، والمؤشرات الاقتصادية التي أدت إلى مصائب 1929 تغيرت جذرياً ولا يصح حتى التفكير فيما حدث في الماضي.
وقبل انهيار 1997 كانوا يقولون إن اقتصاديات اليابان و"نمور" آسيا تخالف القوانين الاقتصادية التي تم استنباطها من تجارب الاقتصاديات الغربية، ولذلك ستكون في صعود مستمر لأن الكفاءة الإنتاجية في داخل اليابان و"النمور" في تصاعد مستمر.
وقبل نحو ثمانية أشهر، كتبت ("الحياة" 21/6/2005): في فترة بدأت أواخر 1973 وانتهت أو كادت في نهاية 1980 أثرى عدد من مواطني دول الخليج ومن بعض المقيمين فيها ثروة لم يستطع تكوينها غالبية أفراد الأسر التجارية المعروفة كما لم يفز بها النفر القليل من المتعلمين.
لماذا؟
لماذا زادت ثروة من بدأوا من الصفر أو نحوه دون علم أكاديمي ولا تجربة تجارية طويلة بأضعاف نسبة الزيادة التي حدثت بنسب متفاوتة بالنسبة لمن عُرفت أسماؤهم من التجار؟ ولماذا لم يظفر بجزء من تلك الثروة عدد يذكر من المتعلمين؟
مهما كانت "احتمالات" الخسارة الكاملة عالية، فإن كامل الخسارة لن يغير شيئاً ذي بال بالنسبة إلى مستوى معيشة من لم يكن يملك ابتداء أكثر من قوته اليومي.
إضافة إلى ذلك فإن كل من لم يكن عنده ما يزيد على قوته سيندفع أكثر نحو هذه المتاجرة التي أعطته ثروة ضخمة خلال أيام معدودة أو بضعة أسابيع، على الأقل خلال أوائل فترة "الطفرة".
وفي السنتين الأخيرتين 2005 و2003 اغتنى عدد من الناس عن طريق المضاربة في الأسهم، دون معرفة علمية ودون تجربة للأسباب نفسها التي أدت إلى تكوين ثروات شخصية لعدد أكبر من الناس في فترة "الطفرة". يتردد الذين يملكون شيئاً يخشون فقده ويندفع الذين لا يملكون شيئاً ضاربين بعرض الحائط ما قد يقال إن هذه أسعار معقولة أو غير معقولة. ولا يهمهم ما يقال ولا يوقفهم أو يخفف سرعة اندفاعهم شيء حتى يبدأوا تحقيق خسائر أموال كونوها حديثاً والآن يخشون فقدها كما خشي فقد أموالهم من لم يبدأوا معهم.
ثم نسمع ومنذ بداية تصحيح اللامعقول إلى المعقول، ماذا حدث، لماذا لم تحذرنا "هيئة سوق المال"؟ ولكن "هيئة سوق المال" التي لم يمر على إنشائها أكثر من سنة ونصف السنة، وتعرف من تجارب أمثالها في العالم أجمع أن التحذيرات في حد ذاتها لا تغير من الواقع شيئا ما دام من حققوا الأرباح يسمع بهم من يحلمون بتحقيق نسبة صغيرة منها.
هذا منطق يتناقض مع المطالبة بعدم التدخل لإبطاء سرعة الارتفاع والمطالبة في وقت آخر في إيقاف سرعة الهبوط.
صحيح أن الهيئة لم تكن عندها من التجربة الطويلة لأن تكون مستعدة في كل لحظة بالرد على كل الشائعات؛ وربما حتى لو كانت عندها آليات تصحيح الشائعات التي رواها من يستفيد منها، لكان الأمر مثل الذي يود "يسد السيل بعباته".
وفي هذا المقام، نحمد لله، الذي وفق لهذا الوطن هذه القيادة التي اتخذت القرارات الصائبة لتصحيح المفاهيم وإعطاء السوق الثقة في الوقت المناسب لإعطائها.
وكذلك ينبغي شكر شركة المملكة القابضة التي أعلنت وقت كتابة هذا الموضوع على عجل (مساء الأربعاء 15/03/2006) قرارها باستثمار عشرة مليارات ريال في سوق الأسهم السعودية.
* نظرا لضيق المساحة في عدد أمس لم ينشر مقال معالي الدكتور علي كاملا، ونعيد اليوم نشره مع الاعتذار عما حدث من أخطاء في مقال أمس.