صعود السوق المالية: هل تدخلت الدولة أم لم تتدخل؟
ما حدث قريب جدا لحالة توقف.. توقف عن النبض: ونبض أي سوق هو البيع والشراء.. لكن ما حدث هو رغبة في البيع وزهد في الشراء، فقد تراجع التداول من حيث عدد الأسهم المبيعة لنحو 86 في المائة مقارنة بشهر مضى، وبنسبة مقاربة مقارنة بقيمة الأسهم المبيعة. وقد بادر معالي وزير المالية بالقول إنه لن يكون هناك تدخل، لكن التدخل الذي أعلن عنه بالأمس قارب أن يكون مثاليا بالفعل.. فهو عبارة عن حزمة من السياسات الجديدة. بل حملت عددا من العناصر التي حولت "التهديد" إلى "فرصة".. وأقصد هنا أن تدخلت الحكومة بأن وضعت سياستها فيما يخص تعامل المقيمين محل تقويم. وهذا يحمل في ثناياه أن إمكانية دخول عشرات الآلاف من المتعاملين الجدد إلى السوق.. وهذا يعني تنشيط التداول.. وهكذا قام الإعلان عن نية الحكومة تعديل بعض سياساتها الأساسية المتعلقة بالسوق.. مقام "صانع السوق" الذي افتقدناه منذ أن تراجع المؤشر إلى ما دون 15 ألف نقطة.. فقد حفز السوق للتحرك من سكونها.. لكن كشف لنا خانة غير مغطاة في سوقنا المالية الواعدة وهي غياب صناع السوق.. ثم إن النقاط الثلاث التي عبر عنها الخبر الذي صدر عقب جلسة المجلس الاقتصادي الأعلى مساء الثلاثاء عبرت الثالثة منها أن السوق هي محل متابعة.. وعندما تبلورت المتابعة في رؤية محددة مساء الأربعاء هنا أدركنا جميعا أن تدخل الدولة كان حاذقا بالفعل وباستخدام أدوات السياسة الاقتصادية السيادية: بالسماح للمقيمين بالتعامل"..
الاقتصاد المحلي
وكما يدرك الجميع فالاقتصاد السعودي يحتل المرتبة الأولى بين الاقتصادات العربية من حيث النتاج المحلي الإجمالي ويمثل 25 في المائة من مجمل إجمالي النتاج المحلي الإجمالي العربي، وأن السوق المالية السعودية تمثل 55 في المائة من إجمالي الأسواق العربية من حيث الرسملة.. كما أن الاقتصاد يعيش أجواء طفرة نتمنى جميعا أن تصل ثمارها إلى كل مواطن ومقيم.. وهذه الطفرة لا تستند فقط إلى الارتفاع الكبير في إيرادات الخزانة من عوائد النفط، الذي أدى إلى زيادة الإنفاق، وارتفاع الإنفاق الرأسمالي للحكومة من 27 في المائة في عام 2005 إلى ما يقارب 38 في المائة في عام 2006.. بل كذلك إلى إقبال القطاع الخاص على الاستثمار في إطلاق مشاريع جديدة وتوسيع مشاريعه القائمة.. فقد شهد العام الماضي تسجيل الاقتصاد السعودي لأعلى تدفق للاستثمارات الأجنبية المباشرة على الإطلاق. ولا يمكن قولبة القضية بأنها رغبة لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية بل الدافع هو تنمية الاقتصاد المحلي وتوليد المزيد من فرص العمل.. فقد كان هذا محور مبادرات اقتصادية رعاها خادم الحرمين الشريفين عن كثب، منها على سبيل المثال مشاريع الغاز ومدينة الملك عبدالعزيز الاقتصادية، التي تقول مصادر الهيئة العامة للاستثمار، أنها –أي المدينة- ستولد 1500 فرصة استثمارية ونصف مليون فرصة عمل. كما أن برنامج الإصلاح الاقتصادي سيحسن هيكلية الاقتصاد السعودي لتصبح أكثر توازنا، وفي هذا السياق نجد أن هذا البرنامج أفرز قطاعا لصناعة التأمين وآخر للخدمات المالية وثالثا لقطاع الاتصالات وتقنية المعلومات ورابعا للسياحة وخامسا للكهرباء والتحلية، ووضع لكل من هذه القطاعات جهازا تنظيميا يرعى القطاع وينميه ويرتقي بهيكليته.. ولا يفوتنا أن البرنامج الإصلاحي كذلك اجتراح نظاما لمكافحة الاحتكار وتشجيع المنافسة.. ونحن جميعا بانتظار خطوات قادمة تحمل في طياتها مزيدا من المؤسسات التي ترتقي بالشفافية والمساءلة وتدفع البرنامج التنموي ليحقق تطلعات في تحقيق تنمية متوازنة طالبت بها خطط التنمية المتعاقبة وأقرتها استراتيجية التنمية الحضرية.. وهذه خطوات ستحسن كفاءة توزيع الدخل وتعزيز الطبقة الوسطى.
ولعل من المناسب الإشارة إلى أن برنامج الإصلاحات الاقتصادية الذي يرعاه خادم الحرمين الشريفين أخذ يؤتي أكله في تحسين مناخ الاستثمار عبر فتح قطاعات جديدة للاستثمار من جهة وإطلاق مبادرات اقتصادية لافتة من جهة أخرى.. ولابد من بيان أن ذلك عبر إرادة واضحة بينها الخطاب الملكي أمام مجلس الشورى في مايو 2003 الذي بيّن فيه الملك فهد بن عبد العزيز (يرحمه الله) عناصر البرنامج الإصلاحي بما في ذلك الجانب الاقتصادي.
الاستماع للهيئة
"كن حكيما في اختيار محفظتك.." سيقرأ المتعاملون هذه العبارة وسواها مما دأبت هيئة السوق المالية على تكراره مرات ومرات.. سيقرؤونها بقدر أعلى من التمعن.. ورغم أن التجربة كادت أن تكون مريرة وخصوصا بعد أن تدنى المؤشر عن مستوى 15 ألف نقطة. فقبل التجربة التي مرّ بها السوق السعودية على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية.. قبل هذه التجربة أصبح هناك من يعتقد أن قيمة الأسهم يمكن أن تتصاعد دون حدّ، وأن التحليل المبدئي هو مجرد تمارين في جمبازية..
ولعل من المناسب، ورغم مغامرة التكرار، القول إن ما كانت تطالب به هيئة السوق المالية عبر إعلاناتها التوعوية لم يك مجرد شاب وسيم يرمي سهما.. بل رسالة موجهة لعقولنا جميعا مفادها أن شراء سهم هو قرار استثماري في المقام الأول، وأن الشخص المكلف مسؤول دائما عن قراراته، وما دام الفرد منا يحرص على تحقيق استقلاليته الاقتصادية، فعليه أن يحمل قراراته في البيع والشراء محمل الجدّ.. وأن عليه أن يتعلم أمرا أو اثنين قبل أن يدخل أي سوق، فمثلا عندما يقرر الفرد منا شراء قطعة أرض وهو "غشيم" بأمور الأراضي فبالتأكيد سيسأل ويستشير.. وإن لم يفعل فهو الملام.. وعليه أن يتحمل نتيجة قراره أيا يكن.
وليس من شك أن شيئا من المضاربة مطلوب كما هو الملح في الطعام، لكن يبدو أن سوقنا قد وقعت تحت سطوة المضاربين، وهذا السبب حلق بعيداً في أسعارها: فنجد أن مكرر الربح قد أخذ يرتفع ليلامس "السماء" لبعض الشركات.. بل كنا نجد أن بنكا يعلن أرباحا قياسية اليوم، لنجد أن سعر سهمه ينخفض بعشرة ريالات في اليوم التالي! وأصبحت طرائق المضاربين ومنهجياتهم (إن لم نقل حيلهم) هي منى شريحة عريضة من المتعاملين في السوق. وأخذت منتديات الأسهم على الإنترنت تحظى بإقبال بحثا عن الإشاعات والتسريبات والادعاءات التي تتجاوز التنجيم والتخمين.. ثم تعدى الأمر كل ذلك وأصبحنا نتلقى رسائل قصيرة على الجوال تنص على ما يباع وما يشترى ومتى وبأي سعر.. وللعجب كان هناك من يعتقد أن من يرسل تلك الرسائل "عليم" بخبايا السوق وبالمعلومات الخفية والداخلية، بل وحتى بالتقارير والقوائم المالية قبل أن تكتب!
وفي هذا السياق، فمن المناسب بيان أن هيئة السوق المالية ما زالت تخطو خطواتها الأولى لمراقبة وتطوير السوق الكبرى والواعدة في المنطقة العربية والشرق الأوسط برمته.. وأقول "خطواتها الأولى" باعتبار أن ثقافة الاستثمار في الأوراق المالية هي أمر طارئ في بلادنا مقارنة بممارسة عمرها قرون عدة في الدول ذات الاقتصاديات المتقدمة. والآن، وبعد أن عكس المؤشر اتجاهه إلى الأعلى فلعل من المناسب دعوة أصحاب العلاقة المباشرة وهم يتجاوزون ثلاثة مليون متعامل إلى الاطلاع على نظام السوق المالية والتمعن في فصوله جميعا وخصوصا صلاحيات الهيئة وما يتعلق بالإفصاح واستخدام المعلومات الداخلية، وبعد ذلك مراجعة اللوائح التي أصدرتها الهيئة منذ أشهر وخصوصا لائحة سلوكيات السوق، والتعاميم المتتابعة وخصوصا ما يتعلق بالإفصاح بالنسبة للشركات المدرجة وضرورة أن تعين كل شركة ضابط اتصال مع الهيئة، وأهمية أن تمتنع الشركات المدرجة عن المضاربة واستخدام أموالها لتدير محافظ للأسهم إلا من خلال مدير للمحفظة أو أن تسمح لها أغراضها بالقيام بذلك.. والغرض من المراجعة ليس دخول امتحان بل التعرف على ماهية هذه الهيئة الجديدة نسبيا، وما لها من صلاحيات. وبالتأكيد، فهيكلية السوق لم تكتمل بعد.. لكن هناك دور على الهيئة يجب أن تقوم به.. وهناك أدوار يجب أن يقوم بها المتعاملون والوسطاء ومصدرو الأوراق المالية.. وهناك بالتأكيد دور لجهات حكومية أخرى لمراقبة الشركات لتقوم بممارسة الأغراض التي أسست من أجلها.
سوق الأسهم
أما فيما يتعلق بسوق الأسهم فثمة أمور لابد أن نعيها جيدا قبل ولوج السوق، ومنها أن السهم ورقة مالية تباع وتشترى - في الأساس - بقصد الاستثمار وليس المضاربة، وأن السهم هو حصة مشاعة في شركة، وأن الشركة كيان قانوني له أغراض محددة نص عليها نظامها الأساسي وعقد التأسيس.. وأن لهذه الشركة مجلس إدارة يمثل الملاك، ولها إدارة تنفيذية مرجعها مجلس الإدارة.. وأن الجميع يعود للجمعية العمومية.. وأن هناك نظاما يمثل إطار عمل أي شركة وهو نظام الشركات السعودي.. وفوق ذلك أن الشركة مطالبة بنشر قوائم مالية وفق معايير محاسبية مقننة ومقرة.. ومع ذلك، يبدو أن شريحة عريضة من المتعاملين لا تكترث لكل ذلك! فهل الجهل عذر؟! سؤال يكتسب في هذا الوقت بالذات أهمية بالغة، بعد أن سمعنا خلال هذه الأسبوع بالذات عن حالات إنسانية مؤلمة بالفعل، ومن تلك الحالات شخص وضع في السوق مائة ألف ريال، كل ما يملكه منها عشرين ألفا فقط، أما البقية فقد اقترضها من هنا وهناك.. ثم وضعها في إحدى شركات "الخشاش"، وقد تبخر حتى يوم أمس ما يزيد على 60 في المائة من المبلغ.. والأمل محدود في أن يسترد رأس ماله! مثل هذا الشخص نتعاطف مع أبنائه وأسرته، لكن علينا أن نضعه في دورة تأديبية قبل أن تتاح له حرية دخول السوق: فقد اقترض أكثر مما ينبغي، ووضع كل ذلك في سوق واحدة، وفي شركة واحدة، ولم يسأل رغم عظم المغامرة عن وضع السهم الذي أودعه كل آماله وما يمتلكه وما لا يمتلكه. هل نتجاوز الواقع إن زعمنا أن في مثل هذه التصرفات سفه واضح؟! إذا علينا أن نحد من هذه الممارسات. وهذا بالتأكيد لن يتحقق طوعا، بل يجب أن يحضر كل من يريد أن يتعامل في السوق دورة توعوية لمدة نصف نهار تبين له أساسيات التعامل بالأسهم. وعلينا أن نتذكر أن سوقنا المالية ستصبح خياراتها أكثر تنوعا وتعقيدا مع مرور الزمن، وخصوصا بعد أن يصبح تداول السندات (الصكوك) متاحا للعموم.
ختاماً
هل ما حدث في الفترة المسائية أمس تغيير جوهري في مسار المؤشر؟ أم مجرد تفاعل مع ما صدر من قرارات؟ الأقرب أن ما حدث هو تغيير جوهري، فالسوق كانت بحاجة إلى "قبلة حياة" وليس لأكثر من ذلك، فهي سوق ترتكز إلى أساسيات متينة واقتصاد واعد تسنده خزينة عامة عامرة وانخفاض واضح في الدين العام وإقبال من المستثمرين محليين ووافدين. ومع ذلك، لابد من الإقرار أن السوق ما زالت ناشئة وبحاجة إلى مزيد من الطروحات حتى يلعب دورا فاعلا في تحقيق استراتيجية التنويع الاقتصادي.. فالكفة راجحة لعدد صغير من الشركات لها سطوة احتكارية أو شبه احتكارية في أسواقها.. والمؤمل أن يشهد العام الحالي طرح العديد من الاكتتابات التي ستجعل السوق أكثر عمقا وتنوعا.. بما يوجد فرصا للاستثمار ووعاء لحشد المدخرات.. ومع أن سوقنا ناشئة إلا أن انطلاقة برنامج الإصلاح الاقتصادي تعول عليها: فهذه السوق هي منصة انطلاق برنامج التخصيص وأداة فاعلة لتوزيع الثروة ولتوفير قنوات كفوءة لتوفير التمويل للمشاريع الواعدة.. وكان تدخل الحكومة رشيدا، فالتفاف ملايين المواطنين حول السوق ثروة لا يمكن التفريط بها أو تركها عهدة في أيدي المضاربين.. فهي سوقنا المالية نتدخل فيها بحذق وعند الضرورة، كما نتدخل في أسواق السلع والخدمات عموما بهدف الحفاظ على الصالح العام.