ألمانيا تقرر: لا تنازل عن الطاقة الذرية
تستعد الحكومة الاتحادية برئاسة أنجيلا ميركيل لتعويض ما سبق وأهملته الحكومتان السابقتان لها وهو وضع تصور لمفهوم متفق عليه حول سياسة الطاقة في ألمانيا يكون دليلا لنظام وأسلوب توفير الطاقة خلال السنوات والعقود القادمة. غير أن مؤتمر "قمة الطاقة" الذي تخطط رئيسة الوزراء أنجيلا ميركيل لعقده في مطلع نيسان (أبريل) المقبل لا يكفي. فمثل هذا المؤتمر لا يمثل سوى بداية فقط لعودة الاهتمام بقضايا تأمين التزود بالطاقة وتقديرات الأسعار، والتوافق مع البيئة.
ويشكل تحسين كفاءة الطاقة في التوليد وكذلك التوفير في استهلاك السيارات والصناعة والمنازل جزءاً من مفهوم الطاقة المستدامة، كما هو الحال بالنسبة لنهوض الدولة بالبحث العلمي. و توضح الاهتمام بإصدار تقرير واقعي عن " الحالة القائمة بالفعل " في مجال الطاقة في ألمانيا مدى جدية المستشارة ميركيل في معالجة هذه القضية إذ يمكن لهذا التقرير أن يكون أساساً للنقاش الموضوعي المدعوم بالحقائق.
ومن المفترض أن تبدأ الحكومة الاتحادية في عملية المراجعة تلك بدراسة الأوضاع في أسواق الطاقة الحالية وبالأهمية المستقبلية المتوقعة للنفط والغاز والطاقة الكهربائية بالنسبة للاقتصاد والمستهلكين في ألمانيا. ومن المعروف أن الاحتياطيات المحلية من الغاز والنفط قد استنفدت تقريباً. ولهذا فإن الاعتماد على المستورد من الطاقة أمر مفروغ منه، وسيزداد هذا الاعتماد، بكل ما فيه من عواقب اقتصادية وسياسية، كشفها للعيان النزاع الأخير حول إمدادات الغاز بين روسيا وأوكرانيا. ولا يبدو أن ثمة في الأفق نهاية لارتفاع الأسعار الذي يشعله جوع لا يشبع للمواد الخام والنفط لدى بلدان كالصين والهند.
ومن المؤكد أن الفحم البني والفحم الحجري المحلي لا يستطيعان أن يشكلا ثقلاً موازياً، فهما يشكلان، في أحسن الأحوال، قاعدة مهمة، وإن كانت ضيقة للإمدادات المستخدمة بشكل أساسي في توليد الطاقة. ولكن استخدام الفحم لا يحل التناقض في الأهداف مع السياسة البيئية. فخلال عملية تحويل الفحم البني والحجري إلى حرارة وطاقة يجري إطلاق ثاني أكسيد الكربون الضار بالبيئة، في الوقت الذي لا بد فيه من تقليص حجم مثل هذه الغازات المنبعثة، في ضوء التزام ألمانيا والاتحاد الأوروبي بوعود قاطعة في هذا الاتجاه.
وبالنتيجة فإنه من الضروري الحد من استخدام الفحم، أو على الأقل، اتخاذ ما يلزم من إجراءات للحيلولة دون إطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو. غير أن التقدم التقني لم يبلغ بعد مرحلة تجزئة ثاني أكسيد الكربون وتخزينه بشكل آمن. أما إذا كان من الممكن أن يحدث ذلك، فالأمر مفتوح على كل الاحتمالات. ولكن الوضع سيبقى على حاله حتى عام 2020 على الأقل قبل أن ينضج ويصبح قابلاَ للتسويق.
أما الطاقة المتجددة، المدعومة بالمليارات من قبل مستهلكي الطاقة، فلا تزال أبعد من أن تستخدم بصورة اقتصادية مجدية، فحتى لو تم دعم المنتجين الألمان لمثل هذه الطاقة في مرحلة التطوير والتسويق، فإن هذا لا يعني أنه سيكون بالإمكان إنتاج طاقة كهربائية كافية وبأسعار منافسة من طاقة الرياح وأشعة الشمس، كما أن الطاقة المتجددة تشهد أيضاً ارتفاعاً في الأسعار. كما أنها بالكاد تشكل اليوم مع الطاقة الكهرومائية 10 في المائة من إجمالي الطاقة المنتجة، وإن كان من المتوقع أن تتضاعف هذه النسبة بحلول عام 2020.
إن التخلي عن الطاقة الذرية في هذه المرحلة من مراحل تزايد أسعار الطاقة سيلعب دور تنشيط لعمليات التفاعل اللاحقة، وبخاصة أن السبع عشرة محطة من المحطات الذرية لتوليد الطاقة الكهربائية العاملة تغطي نصف حاجة ألمانيا إلى الطاقة. وبعكس الرياح والشمس تقف هذه المحطات، ليل نهار، على أهبة الاستعداد.
أما إذا تم إخراج محطات الطاقة الذرية هذه من الشبكة بحلول عام 2021، كما هو مخطط، فسيحدث نقص في إمدادات الطاقة، وسيؤدي ذلك، مع استمرار الطلب، إلى زيادة أسعار الطاقة على البيوت والمنشآت، كما سيؤدي إلى مزيد من التبعية لموردي الغاز الأجانب، أو ربما لرفع حرارة الطقس، وقد تكون النتيجة مزيجا من كل ذلك.
إن من يتمسك بخيار التخلي عن الاستفادة من الطاقة الذرية، يتسبب في إلحاق أضرار بالبلاد لأنه يدفع بذلك إلى زيادة التكاليف على المستهلكين المحليين من جانب واحد، ويمنح في الوقت نفسه ميزة نسبية للبلدان المجاورة، التي تتوسع في بناء المحطات الذرية. لقد استردت محطات الطاقة الذرية المقامة تكاليف إنشائها إلى حد بعيد ولهذا فهي تستطيع أن تنتج الطاقة الكهربائية بتكلفة اقتصادية. أما المشغلون لهذه المحطات فمستعدون لدفع الثمن المطلوب لقاء إبقائها في الخدمة لفترة أطول.
إذن ما الذي يدفع البلاد للتخلي عن هذه الميزة المزدوجة دونما أي تفكير؟!
إن الأخطار المرافقة بدون شك لإنتاج الطاقة من خلال الانشطار الذري، لا تشكل وحدها سبباً كافياً لذلك. كما أن محطات الطاقة الذرية الألمانية تعتبر من أكثر محطات الطاقة أماناً في العالم، يضاف إلى ذلك أن الرقابة الذرية المشددة من شأنها أن تزيد من درجة الأمان. كما أن الوقود لهذه المحطات متوافر لعقود، إن لم يكن لقرون قادمة.
إن ارتفاع أسعار اليورانيوم الناجم عن قصور في الإنتاج أحياناً، لا ينعكس بالضرورة على تكاليف الطاقة، لأن تكاليف الكليات المستخدمة من اليورانيوم في توليد الطاقة لا تكاد تذكر بالقياس مع التكاليف الباهظة لبناء المحطات الذرية، وهذا عكس المحطات الغازية لتوليد الكهرباء التي لا يكلف بناؤها كثيراً، ولكن جدواها الاقتصادية تبقى مرهونة بأسعار المواد الخام. ولهذه الأسباب بالذات جرى في بريطانيا تقليص هذه المحطات، وأعيد إحياء محطات الطاقة القديمة العاملة بالفحم الحجري بدلاً منها. وسيجري في بريطانيا أيضاً بناء محطات ذرية جديدة بهدف تحقيق المتطلبات المناخية دون تعريض إمدادات الطاقة للخطر.
وتبقى ثمة مسألة هي مسألة تخزين النفايات، التي ينبغي أن تدفن في أماكن آمنة لعشرات الآلاف من السنين، ومن أجل هذا يجب على الحكومة أن تتخذ الإجراءات اللازمة لبناء أماكن تحصين حصينة، والبدء من جديد في إجراء البحوث في مجال الذرة.
ترى ماذا كان يمكن أن تكون عليه حالة البلاد اليوم، لو تم حظر البحوث في صناعة السيارات وتجديد موديلاتها عام 1970 بحجة أن التنقل بالسيارات يشكل خطورة وهو بالتالي المسؤول عن وفاة ألوف الناس في حوادث السير؟!
إن خيار الطاقة الذرية خيار لا مفر منه على الأقل إلى أن يتم التوصل إلى بدائل يمكن الركون إليها، ولهذا لا بد من تطويل أعمار محطات الطاقة الذرية. أما من يرفض ذلك، فهو يضر بمصالح البلاد.