حمزة شحاتة.. شاعر وناثر مال إلى الفلسفة والتأمل وهام بالليل وحماره جمع أعماله!
شاعر لافت وناثر متميز، عده النقاد الكاتب الوصفي الأبرز في النثر الأدبي السعودي، صور في كتاباته ما اضطرب في وجدانه من فلسفة أو نقد أو سخرية، شغف بالجدل والمناظرة كي يدرك كثيرا من المعارف، كما أفاد من اختلاطه المزاجي بالناس ومن رحلاته على الهند ومصر والتقائه بأدباء ومثقفي هذين البلدين، فاكتملت لديه عوامل النضج العقلي والفني بدءا بالاستعداد الذاتي وانتهاء بالتزود المعرفي والعلمي والأدبي، يسعى إلى هذا الزاد قارئا وسامعا ومتحدثا ومجادلا.
حمزة شحاتة نجح بامتياز في كتابة المقالة الوصفية وأدار الوصف في أدق مناحي التفكير النفسي، ليصل إلى إظهار خفايا ما يضمره العقل وتحتفل به الروح في مواجهة الحياة.
لخص الناقد الدكتور محمد العوين تكوين شحاتة الثقافي ومجالي تفكيره وخصائص التصوير لديه في كتابه عن المقالة في الأدب السعودي الحديث بقوله: في شخصية هذا الأديب جانب كبير من الميل إلى الفلسفة والتفكير، فهو مغرم بتحديد المعاني وتقسيمها، وتطغى عليه مفهومات العقل فيبدو في مقالاته شبه من طرائق المتكلمين في الفلسفة والمعنيين بمذاهب الحكمة وأساليب تلقين الأخلاق، وهو يستعين بالتصوير لتقريب معانيه وبسطها وتفصيل القول فيها، وراء كل كلمة أو استطردا لفتة عقلية ذكية، فيه تجربة وعمق وتأمل ونفاذ نظرة، واستقلال في منهج التفكير.
كتب شحاتة عن الجمال والأخلاق والفن برؤى فلسفية، كما يميز في رؤاه الفلسفية وأفكاره وأسلوبه وطريقة عرضه بالاستقلال والتفرد، وإذا تتساوق لديه معاني الفلسفة في جمل الخيال، ولطيف الصور يكون النص الوصفي مليئا بالتشخيص البين، والتحديد الدقيق للصورة المرسومة، والعمق، وصدق التجربة، والثقة المطلقة بالنفس والاتكاء على الحدس والإسقاط والتنظير.
ويكاد في هذا النهج يكون مدرسة مستقلة في الوصف الغني السهل المتدفق المنهل في أسلوب جزل بليغ، اجتهد في صنعه، واعتنى بألفاظه، وناغم بين كلماته، وأوجد أبعادا متوازنة من الموسيقى والتطريب في خواتيم الجمل ونهايات المعاني.
ويلفت العوين في إشارته إلى الجانب التصويري الوصفي عند حمزة شحاتة إلى ذلك الغنى المفرط في الأفكار وإلى ذلك الاجتهاد البيّن في نظمها وبنائها ورعاية معمارها الفني، كما أنه صانع صورة يملك ريشة ثرية بالألوان والزخرف في غير إسراف.
ووراء هذا التميز نفسية يسيطر عليها المزاج والملال والسأم، كما أن النبع الخفي الهادئ الذي يمده بطاقة خلاقة من التساؤل والضجر والبحث عن الإجابة، هو الحزن، حيث يظل منقبض الصدر يحس أنه دائما غريب في الحياة أو عابر سبيل أو متفرج حيل بينه وبين ما يدور تحت أنفه من الحوادث، كما أن لديه من ثمرة تأمله هذه ألوانا من الحكمة والدرس أفادها من تجاربه وولعه بالتفكير وإخفاقه في الحياة وحصيلة معاناته مع المجتمع ومع المرأة والزوجة والحبيبة ومع المال والحظوظ.
قال عنه عزيز ضياء في كتابه "حمزة شحاتة قمة عرفت ولم تكتشف إن شحاتة من جيل قرأوا كثيرا في الفلسفة" والأدب العالمي، مثل السياسة لأرسطو طاليس، وشيئا مما كتب عن مدينة أفلاطون الفاضلة، وعديدا من الروايات مثل ابن الطبيعة للكاتب الروسي هاتزبياتشيف، وتاييس، والزنبقة الحمراء "لأناتول فرانس" وكتابه "مائدة أبيقور" في فلسفة اللذة، وما كتبه شكيب أرسلان عن "أنا تول فرانس" في مباذلة، وقرأوا أيضا "أنا كرنينا" والحرب والسلام لتولستوي، أما أدب المهجر وعلى الأخص من أدبائه جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة فليس بيننا من ينكر أثرهم في بداية مرحلة هذه الثقافة الذاتية.
ولد حمزة شحاتة في مكة المكرمة عام 1328هـ ونزح إلى جدة صغيرا ودرس فيها في مدرسة الفلاح، عمل في الهند، ثم في جدة، ونزح إلى مصر واستقر بها، وقد جمعت مقالاته في كتاب بعنوان (حمار حمزة شحاتة) وأصدرته دار المريخ في الرياض، وقد بدأ الكتابة في سن مبكرة حيث كتب في صوت الحجاز، وله كتاب "رفات عقل" جمعه عبد الحميد مشخص ونشرته قبل 27 عاما "تهامة"، وكان يوقع بعض كتاباته تحت اسم مستعار "خنفشي".
وفي كتاباته وصف شحاتة نفسه بالليل وربما لأن مشابهة تصل بين الاثنين من حيث السمرة والطول والصمت، وقد تلعب بـ (هول الليل) ويحسب أن أقواما تخافه، وتهاب سلطته النقدية وحدة بصيرته كما يخافون الليل وأهواله وخفاءه وما يطويه من أسرار، وأطنب الكاتب كثيرا في وصف الليل والدفاع عنه وانتقاص من يثلمه فرأى أن في جنحه يهمس العاشقون، ويلهم المبدعون، ويتفكر المتأملون، ويصمت فيه الكل خضوعا للسنة الأزلية في الحياة مدافعا بذلك تهمة من يشنأ عليه هذا اللقب وانتقاصه إياه بالسواد والبلادة والغفلة كما فعل محمد حسن العواد به وهجائه له بقصائد ورد عليه شحاتة بقصيدة منها:
أنا الليل يغشاك بالهول والظلمة
والليل يفزع الجيناء
أنا والليل منذ كنا شبيهين
جلالا وقوة وحياء
وعن ذلك يقول في مقالة له بعنوان "هول الليل" نُشرت في صوت الحجاز عام 1355هـ: "بيني وبين هول الليل" مشابهة فأنا طويل مثله, وفي طباعي جفوة ووعورة تصرف الناس عن الاطمئنان إلى العشرة. فأنا وحيد مظلم النفس, أنطوي منها على ما يشبه القبر العميق المهدم, وفيَّ ميل إلى الصمت, الصمت الطويل, ولو اخترت لكنت أبكم, وكل ما يهمني أن أسمع وأرى, وفيَّ ميل إلى الأذى ككل الناس, ولكن أمقت الشر وأعافه, وأذاي من نوع الفكاهة والسخر, وأنا حزين منقبض الصدر أحس دائما بأني غريب في الحياة, أو عابر سبيل أو متفرج حيل بينه وبين ما يدور تحت نفسه من الحوادث, ويستفزني المراح أحيانا فأسخر بالحياة, وأستجيب لبواعب السرور لحظات. وهذه اللحظات نادرة في حياتي, وبالرغم من أنني لا أزال غض الإرهاب".