الرئيس الأرجنتيني يتبع إجراءات سريعة لإبعاد شبح التضخم
هدأت نبرة شكوى الرئيس الأرجنتيني( نيستور كيرشنير) من الوضع الاقتصادي في بلاده ، فالأرجنتين حققت خلال الأعوام الثلاثة الماضية نموا اقتصاديا بلغ نحو 9 في المائة سنوياً كما انخفضت نسبة البطالة في البلاد من 21 في المائة عام 2002 إلى 11 في المائة عام 2005 . وبالتوازي مع ذلك نجح (كيرشنير) في إقناع الدائنين الأجانب قبل نحو عام على تخفيف المديونية بأعلى نسبة حتى الآن. وتتزايد حاليا نسب من حصص الأرباح في الصناديق الحكومية كما يشير الميزان التجاري للبلاد إلي حدوث زيادة في الدخل.
ولكن برغم كل هذا يبقى الخطر الأكبر على الاقتصاد الأرجنتيني في شبح التضخم المتزايد الذي يلقي بظلال كثيفة وممتدة على أداء حكومة كيرشنير . ففي العام الماضي، ازداد ارتفاع الأسعار إلى 12.3 في المائة، أي ضعف قيمة العام الذي سبقه، وضعف القيمة المُسجّلة في باقي دول أمريكا اللاتينية. وبالنظر إلى أسعار المواد الغذائية، والتي تُسجّل حصة كبيرة جداً من المشتريات، خاصةً من قِبل الدول الفقيرة، فقد ارتفعت إلى أقصى حد بنسبة 15.7 في المائة.
وأفضل ما يمكن أن يفعله كيرشنير هو إصدار قرارات " بمنع" التضخّم. وهو الأسلوب الذي درج عليه كيرشنير سابقا حين اتخذ قرارات منفردة حول التجارة الحكومية على المدى القصير نفذها على الفور رئيس الحكومة صاغرا دون نقاش. ويحاول كيرشنير منذ أشهر فرض سياسة ضبط الأسعار عن إجبار الشركات على دفع أعباء ثقيلة من الضرائب الخاصة وغير ذلك من القوانين . وبهدف ضغط الأسعار المحلية للمواد الغذائية القابلة للتصدير فرضت الحكومة نسبة 20 في المائة من الضرائب على معدلات استيراد هذه المواد. وتم رفع قيمة الضرائب المفروضة على التصدير وخاصةّ على المنتجات النفطية، نظراً لارتفاع الأسعار عالمياً.
ويواجه كيرشنير بنفسه بعض الشركات فعندما رفعت شركة شل للبترول أسعار البنزين قبل نحو عام قاد كيرشنير حملة مقاطعة تلك الشركة وبالفعل قاطعت كل الدوائر الحكومية جميع محطات البنزين التابعة لـ "شل" في الأرجنتين ما أجبر شركة شل علي التراجع عن قرار زيادة الأسعار .
وتكرر هذا السيناريو نفسه مع ( ألفريدو كوتو) أحد أصحاب سلسلة محلات تجارية كبرى حيث توقع إمكانية ارتفاع الأسعار مرةً أخرى في عام 2006 نحو 12 في المائة، برغم أن الحكومة أشارت إلى قيمة أقصاها 11 في المائة. وعندما اتهم كيرشنير رجل الأعمال كوتو، وغيره من التجّار بالعمل على رفع الأسعار. تحرك الحرس الحكومي بسرعة لجلب كوتو، وغيره من مديري الأسواق التجارية بسرعة إلى مدينة كوتاو، حيث يوجد القصر الحكومي، وهناك أقسموا خطياً على خفض أسعار نحو 200 صنف من البضاعة التي تُعد من الحاجات الأساسية. والآن يقول مديرو (كوتو) و ( وول مارت) و ( كارفور) وغيرها من سلسلة الأسواق التجارية، إنهم سيحافظون على ثبات أسعار تلك البضائع على مدار العام.
وتعمل الحكومة حالياً على توسعة نموذج اتفاقيات الأسعار "الاختياري" على جميع القطاعات الأخرى. سواء كانت شركات كبرى مثل شركة
ماستيلون للألبان و شركة أركور للأغذية المعلّبة أو قطاعات المجموعات المتعددة الجنسيات مثل ( دانون) و ( أوني ليفير) و(كولجيت - بالموليف). ودعت وزارة الاقتصاد الأرجنتينية مديري هذه الشركات بهدف توقيع اتفاقيات لضبط الأسعار . ودخلت أخيرا تجارة اللحوم إلى بؤرة اهتمامات (كيرشنير) بعد أن ارتفعت أسعار لحوم البقر بصورة كبيرة وهو الذي يعتبر غذاء أساسيا في الأرجنتين كما أنه أكثر المنتجات المعروفة في قطاع التصدير . وتشهد لحوم البقر طلباً كبيراً من الخارج حيث ارتفعت إيرادات تصدير لحم البقر في عام 2005 وحده نحو 32 في المائة إلى قيمة قياسية بلغت 1.4 مليار دولار. ولعل ( كيرشنير) يحق له الفخر بأن ازدهار التصدير ما هو إلا ثمرة من ثمار نجاح سياسته بتخفيض سعر العملة الأرجنتينية ( البيزو ). لكن موجة ارتفاع الأسعار العالمية للحوم البقر سحبت معها أيضا أسعار اللحوم داخل الأرجنتين نحو الارتفاع فزادت أسعار لحوم الأبقار خلال شهري تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر) نحو 8 في المائة تقريباً. وأصبح منتجو اللحم أكثر إلحاحاً على زيادة الأسعار مما أزعج ( كيرشنير) انزعاجا بالغا وهدد بفرض مزيد من ضرائب التصدير. وهو ما انتقدته ( أناليا كويرجو) ممثلة رابطة شركات اللحوم بشدة وقالت :" يبدو أن كيرشنر لا يفكر بعقله".
ويحتدّ النزاع حاليا بين الجانبين لأن معظم شركات اللحوم وتربية المواشي رفضت توجيهات الرئيس وتجاهلت أمر تجميد الأسعار المحلية فقررت الحكومة من جانبها وجوب الحصول على موافقة حكومية قبل قيام الشركات بتصدير لحوم البقر. وبما أن الحلول المناسبة غير موجودة، فإن المصدرين يستسلمون وتتعرض عقود التزويد حالياً للخطر، وكثير من عقود التزويد أصبحت في خطر. بعد أن بات قطاع صناعة اللحم أكثر طوعاً واستسلاماً.
ويُبدي الكثير من الخبراء شكوكهم حول قدرة استمرار سياسة (كيرشنير) المُضادة للتضخّم على المدى البعيد. ويقول ( رودريجو سيباستيان بارك) الخبير الاقتصادي في ( بنك ريو ) : " توجّه الحكومة تركيزها دوماً على تشريع قوانين الأسعار على المزيد من القطاعات، والمنتجات، بدلاً من ابتكار وسائل مالية أو نقدية لحل الأزمة مثلما تفعل شيلي أو البرازيل أوالمكسيك". وتتبع الأرجنتين منذ الأزمة المالية التي حدثت مع نهاية عام 2001، سياسة خفض أسعار العملة المحلية( البيزو ) الأمر الذي يعمل على حماية الصناعة المحلية من المنافسة الخارجية وأن تمنح المزيد من الدعم لقطاع التصدير. وعقب الخرق الذي أصاب الناتج المحلي الإجمالي بنحو 18 في المائة خلال فترة الكساد الاقتصادي خلال الفترة ما بين 1999 حتى 2002، سمحت السعات التي تميّزت حينها بعدم استغلالها إلى الحد الأقصى بانتعاشٍ سريع في الإنتاج، دون خلق ضغط تضخمي على غير المعتاد. وبالفعل بعد أن تسارع الطلب الداخلي خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة الماضية بنحو 11 في المائة بالمعدل سنوياً، تُعد السعات اليوم لكثير من الفروع الصناعية مُثقلة.
وبرغم ارتفاع حجم الاستثمارات بقوة، لا تزال الحاجة ماسة إلى المزيد من المشاريع. ولم يعد الكثير من الشركات أخيرا تتطلع إلى المزيد من الاستثمارات الجديدة، نظراً للضوابط على الأسعار، وغيرها من التدخّلات الحكومية. فضلاً عن الضوابط على الأسعار التي يفرضها الرئيس، وبالكاد تحظى الأرجنتين باستثمارات خارجية بالنظر إلى ارتفاع أسعار النفط في الخارج. وكذلك فإن الغاز الطبيعي، والطاقة اتسما بانخفاض سعريهما. وبناءً عليه، فإن حجم الاستثمارات الخاصة باقتصاد الطاقة متدنية. وكان على مجموعة النفط الإسبانية الأرجنتينية، ريبسول- YPF ، أن تعترف منذ أيام، بأن حجمها الاحتياطي الأساسي من النفط في الأرجنتين يُسجّل معدلاً أقل من السابق بنسبة 25 في المائة.