فتور سوق العقارات يشكل خطورة على الوضع الاقتصادي
يبدو أن هناك سحبا سوداء في سماء الاقتصاد الأمريكي. هذا ما قاله خبراء في مجال الأسواق المالية متسائلين عما إذا كان هذا المناخ الاقتصادي المضطرب سيلحق مزيدا من الأضرار بأكبر اقتصاد في العالم؟ وتتشابه مسألة وضع تصورات وتوقعات اقتصادية عن الأسواق مع عملية التنبؤ بأحوال الطقس فكلاهما يعتمد على حسابات رياضية معقّدة ولكن أيُها يكون قادرا في أغلب الأحيان على تكوين صورة أقرب إلى الواقع ؟
في النهاية وكما يحدث غالباً يحدث كل شيء في الحقيقة بشكل مخالف تماما لكل التوقعات. لكن هذا لا يعني أننا نقلل من شأن خبراء الاقتصاد أو خبراء الأرصاد الجوية الاقتصادية ونتهمهم بالعجز أو عدم الكفاءة بل إن الأحداث هي ما تكون في الغالب التي لا تدع مجالاً لأحد لكي يتوقعها أو يتنبّأ بها.
إلا أن التنبؤات التي أشارت أخيرا إلى حالة فتور في المناخ الاقتصادي نظراً للمعطيات الاقتصادية التي تم الإعلان عنها خلال الأسابيع الماضية، لم تكن طائشة أو متهورة إلى حدٍ بعيد. ومن المفترض ألا يكون سبب هذه التوقعات معدل النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية المخيب للآمال خلال الربع الأخير من عام 2005، والذي سجّل بالفعل نحو 1.1 في المائة فقط، مقارنة بالقوة الهائلة التي تميّز بها خلال الربع الثالث بنسبة 4.2 في المائة. إلا أن الربع الأول من عام 2006 بدا جيداً إلى حدٍ ما. وكذلك فإنه ليس من الضروري أن يشير حال منحنى الفائدة في الأسواق المالية الآن والمنحرف نحو اليمين بأنه فأل سيئ. ففي بعض الحالات خلال السنوات الماضية كان يؤدي انقلاب بنية الفائدة بالفعل إلى كساد، ولكن ليس على وجه الدقة دوماً. وليس من الضروري أن يكون الاندماج ما بين فوائد مرتفعة على المدى القصير وفوائد متدنية على المدى الطويل نسبياً مؤشراً لسياسة مالية، والتي أصبحت أكثر صرامة. ومن الجدير بالذكر هنا، أن تدني معدل أسعار الفائدة على المدى الطويل يعكس حجم التقديرات الضئيل بمخاطر التضخم من جانب ممثلي السوق.
تعتمد هذه التوقعات بضعف الوضع الاقتصادي خلال النصف الثاني المُقبل من العام الجاري على تطوّر سوق العقارات الأمريكية، حيث لم تشهد السوق الأمريكية من قبل عقب جسارة الازدهار فتوراً بهذا الشكل، فوضع المنازل والشقق غير المباعة يزداد اتساعاً، وتشهد الأسعار كساداً، أو في كثير من المناطق انخفاضاً، وتكدّرت أجواء سوق الإنشاءات .بينما كان الانطباع المُسيطر على المناخ أخيرا يشير إلى ارتفاع أسعار العقارات بأسرع من الدخل الإجمالي، حيث أصبحت أسعار تملّك الشقق في بعض المناطق، مثل نيويورك، ولوس أنجلوس، باهظاً إلى حد لا يمكن تحمله.
وتُعد سوق العقارات بالغة الأهمية بالنسبة للحجم الاقتصادي الإجمالي، نظراً لمجموعة من الأسباب: منها، إن الكثير من الناس هناك، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، يحصلون على قوت عيشهم نتيجة العمل في قطاع الإنشاءات، أو كسماسرة عقارات، أو حتى كمهندسين معماريين. ومن ناحية أخرى يعتمد الحجم الاستهلاكي الخاص بصورة كبيرة على سوق العقارات. وهذا ما يتضمّن "تأثير الموجودات": فقد استفاد الكثير من ملاّك المنازل خلال الأعوام الأخيرة الماضية من ارتفاع قيم ممتلكاتهم العقارية، وانخفاض فوائد القروض العقارية، بهدف إعادة التمويل بأساليب أكثر تلاؤماً مع التكلفة. ورفع البعض الآخر من معدلاته الاستهلاكية من الدخل الإجمالي المُتاح تحت ضغط الانتعاش الكبير لزيادة العبء على حجم الادخار. وكان من الممكن ردع شهية استهلاك المواطن الأمريكي بقوة عن طريق تأثير الموجودات، تلك الشهية التي عملت حتى الآن على دفع الاقتصاد للأمام. بالإضافة إلى أن انخفاض أسعار العقارات أدى إلى أن يشعر مالكو المنازل بالفقر من جديد، وأن عليهم التقليص من حجم استهلاكهم لصالح الادخار.
ولا يمكن القول إن هذا المشهد المسرحي قد انتهى بعد. وفي النهاية سيقرر مدى حجم تعديل الأسعار المُحتمل، فيما إذا كان سيصيب الوضع الاقتصادي الأمريكي جبهة من هطول أمطار متفرّقة، أم ستضربه عاصفة قوية. ولكن في حالة قُدّرت الأمور أن تحقق التعادل، أي بأن تصبح المنازل والشقق ذات أسعار محتملة من جديد، عن طريق التقاء أسعار عقارية مستقرة إلى حدٍ ما، ودخل إجمالي مرتفع مرةً أخرى، عندها فقط يمكن القول أن الوضع الاقتصادي لن يغرق في محيط من الكساد. ولكن في حالة بدت التوقعات المصرّح بها حول حدوث فقاعة من الأسعار في سوق العقارات صحيحة، حينها لابد من مواجهة الأسوأ.
ولا بد من عدم الانتقاص من شأن أي من المؤشرات الموجودة، التي تتحدث عن الاستهلاك، وحول مدى تقدّم الازدهار، لدى محاولة القيام برسم التنبؤات الواقعية حول مخاطر الوضع الاقتصادي: فسوق العمل اليوم تجد نفسها ضمن حالة جيدة ، حيث تم تحقيق نحو 200 ألف فرصة عمل إضافية خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وانخفض معدل البطالة إلى نحو 4.7 في المائة، وهي أدنى نسبة منذ خمسة أعوام. وبدأ العرض المتدني باستمرار المقدّم للأيدي العاملة بالانعكاس على ارتفاع معدلات الأجور، وبالتالي فإن سوق العمل لا تشهد ارتفاعاً في حجم فرص العمل فقط، بل مزيداً من فرص العمل المرتفعة الأجر. مما يعني أن سوق العمل تصدر الكثير من الدوافع، والحوافز المهمة للتأثير على الوضع الاقتصادي بصورة إيجابية، وقادرة على معادلة عواقب ضعف سوق العقارات حتى فترة زمنية معينة.
ولا يمنح هذا المناخ الاقتصادي المضطرب في أمريكا سبباً للقلق حول السياسة الاقتصادية. وهذا ما يسري أيضاً على السياسة المالية، والتي أدت إلى إحداث نقلة في تطوّر أسعار سوق العقارات من خلال الفوائد المنخفضة. وعليها الآن موازنة تسارع عملية التضخّم ضد انكماش محتمل في الوضع الاقتصادي. ولكن من جديد هذا ما ينطبق على الحكومة، والكونجرس، حيث كان عليهما أن لا يرتكبا الخطأ بمحاولة ضبط الوضع الاقتصادي عن طريق الضغط على الأمور الحساسة. وعلى الأغلب يمكن وضع أُسس معدل مرتفع من النمو في المستقبل عن طريق إعادة هيكلة الأجور التقاعدية، والضرائب، وكذلك دمج الأموال الحكومية.