هند والعسكر.. رواية من قهوة

هند والعسكر.. رواية من قهوة

هند والعسكر.. رواية من قهوة

مثل أغنية لا تشبه غير الحزن، وكما كتابة تعيد إنتاج الألم، وعلى هيئة رقصة لا تخجل من صراحتها، أتت الرواية الأولى للقاصة والكاتبة الصحافية السعودية الدكتورة بدرية البشر "هند والعسكر". وجاءت الرواية امتداداً - بدرجة ما - لمجموعتها القصصية الثانية "حبة الهال" الصادرة عام 2004م، من حيث الإفلات من أزمة الاستسلام للغة التي أصابت كثيراً من الروايات العربية، ربما بفعل النجاح الكبير لرواية "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي – بما في ذلك الروايتان التاليتان لأحلام نفسها-، ومن حيث العناية بوصف عالم المرأة "النجدية" بلغة شائقة، والحرص على إطلالات على هامش التاريخ – والواقع- النجدي أكثر من متنه، في تعبير – ربما غير مقصود- إلى وقوع المرأة غالباً في الهامش بدلاً من المتن، وكذلك من حيث البعد عن الترويج للعمل عبر سقوط العبارة إلى درك الجنس المكشوف في مشاهد تعري أبطال الرواية وتغطي ضعف كاتبها الفني.
وبعد أن اختارت "حبة الهال" عنواناً لمجموعتها القصصية الثانية، فإن العبارة التي حملها غلاف الرواية تقول "تاريخ نساء هذا البيت ولد في فناجين القهوة، كل منهن لها حكاية في قلب فنجان، إن لم يجلبها الغيب معه صنعن هنَّ الحكاية، يتداوين بها من مرّ الزمان، فتطيب لهن الحكاية مع القهوة المرّة. كل واحدة منهنّ خرجت من رحم حبة هيل طويلة أودعت فيها حكايتها"، والرواية لذيذة رغم مرارتها تماماً مثل القهوة العربية.

الحكاية
وحيث لا أنوي إعادة كتابة الرواية فسأوجز الحكاية، هند هي الشخصية الرئيسة التي تنسج حولها خيوط الرواية، وهي في الوقت ذاته البطل الناطق فيها، فكل الرواية تحكيها هند لنا – أي نحن القرّاء- بما يجعلنا أسرى نظرتها لما يجري. وفي الإطار ذاته اتخذت الرواية طريق البوح أكثر من غيره وهو ما أسهم في تناقص مساحة الحوار – وهي ميزة تتفوق بها هذه الرواية على كثير من نظيراتها في السعودية-، وعانت هند منذ طفولتها من مواقف أمها المتسلطة الجامعة بين تفضيل الأولاد على البنات والانتماء لخطاب ديني متشدد، واللافت أن مواقف الأم لا تكاد تحيد عن هذا الخط العام في مختلف المراحل التالية، كما عانت من أبيها الضعيف في مواجهة الأم – غالبا ً- رغم رفقه بأبنائه وحنانه على بناته، وقد منحت هند فقرات خاصة للحديث عن شخصيات إخوانها وأخواتها، وجاهدت في تفسير سلوكياتهم ومواقفهم حتى تلك المعادية لها، لكن هذا التفسير ظل يحمل طابع هند ووجهة نظرها.
وأخفقت هند المراهقة في الاحتفاظ بعلاقة سرية بشاب بعد أن انكشف أمرها معه، فزوجت رغماً عنها لقريبها منصور الذي أنجبت منه وعرفت معه حياة قاسية انتهت بالطلاق، فتحولت إلى العمل بصفتها إخصائية اجتماعية في مستشفى في الرياض، وتعرضت في المستشفى إلى مواجهة مجتمع المرأة السعودية العاملة بمتناقضاته العديدة، قبل أن تتطور علاقتها بوليد شقيق إحدى زميلاتها باتجاه الحب ثم الزواج الذي سيتم فيما بعد النص.
والى جوار هذا الخط الرئيس تخبرنا هند بالعديد من القصص من الماضي والحاضر، التي تقاطعت مع قصتها، مثل قصة والدتها التي تطورت من فتاة بسيطة إلى امرأة أشد حزماً مما ينبغي، وأكثر قسوة في تعاملها مع محيطها، ومثل قصة أخيها إبراهيم الذي انطلق من إهمال والديه ومرّ بالعلاقة العاطفية العابرة مع فتاة تخلت عنه للزواج بغيره قبل أن يصل إلى الانتماء للمجموعات الدينية إلى أن ينتهي إلى الإرهاب، ومثل قصة "جهيّر" زميلتها في المستشفى، المتميزة بتشددها الديني وانتقادها المتكرر من خلال خطاب وصائي حيال الزملاء والزميلات، قبل أن تفجر المفاجأة بالهروب مع موظف أجنبي في المستشفى وتتزوجه، وفي هذا القصة بالذات تبرز سمة أخرى من سمات "حبة الهال" حيث عناية بدرية البشر بردة فعل المجتمع تجاه الفعل أكثر من الفعل نفسه.

ملاحظات فنية
الملاحظة الأولى من الناحية الفنية في هذه الرواية أنها تأتي استمراراً لاتجاه المدرسة الواقعية الغالبة على الرواية السعودية في السنوات الأخيرة، من حيث الاقتراب من الواقع (الحقيقة) مع توافر فاصل ما عنها، إلا أن ما يُحسب لهذه الرواية هو الاحتفاظ بحد أدنى من الشروط الفنية متمثلة في تناسق الفكرة ومنطقيتها، وحضور اللغة الأدبية، وتنامي العاطفة، وتوافر الخيال –خصوصاً في حكاية هند عن علاقتها بوليد-، وأقول يُحسب لها لغلبة الحس الفكري في هذا النوع من الروايات الناقدة للمجتمع على حساب العناصر الفنية كما عند تركي الحمد مثلاً.
الملاحظة الثانية هي ما أسلفت الإشارة إليه حيث أحادية الخطاب، وبالتالي أحادية الرؤية، حيث لجأت المؤلفة إلى ما يعرف فنياً بطريقة "الترجمة الذاتية" في سرد النص، حيث يأخذ الكاتب موقع شخصية رئيسة – أو حتى ثانوية- ويكتب بضمير المتكلم، غير أن الكاتبة حاولت تعويض ذلك من خلال إعطاء مساحات للتعبير عن وجهات نظر الآخرين تجاه هند، إلا أن هند ظلت شخصية مسيطرة على القارئ حتى في شرح مبررات الآخرين، وهو ما أكدّها كشخصية مهيمنة لا على مسار الأحداث، بل حتى على تفسيرها.
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى كون "العنصر السائد في النص" – حسب التعبير النقدي المتخصص - هو الشخصية، أكثر من الحادثة والبيئة والفكرة، مع حضور العناصر الثلاثة الأخرى لكن ضمن عنصر مهيمن هو الشخصية الرئيسة: هند.
الملاحظة الثالثة اتسمت الرواية بالتشويق الفني، وليس المقصود هنا بالتشويق مجرد الانتقال بالأحداث بصورة متسارعة، وإنما كون الرواية زاخرة بالحياة، وأنها صورة مموهة عنها، إضافة إلى ممارسة التعمق في تفاصيل هذه الصورة بالغة القرب من الواقع. وفي تقديري أسهم في تعزيز عنصر التشويق الفني قصر الرواية، إذ تناسبت مساحتها مع أحداثها، إضافة إلى النهاية التي زاوجت بين كونها نهاية سعيدة لهند وبائسة لإبراهيم، ومفتوحة لأغلب الشخصيات الأخرى.
الملاحظة الرابعة هي نمطية الشخصيات – وهو ما يعبّر عنه فنياً بالشخصية المسطحة - باستثناء "إبراهيم"، إذ لا تجد تحولات كبيرة في بقية شخصيات الرواية. كالتي تقع للشخصيات النامية، بل إن الحوادث المختلفة تأتي بتأكيد السمات العامة للشخصيات، وهو ما يطمئننا – أو يطمئن هند - إلى صحة الاستنتاجات حيال شخصيات الرواية، وفي رأيي هذه ملاحظة مبررة أولاً بحكم أن النص جاء في سياق البوح البعدي، أو حكاية ما كان لا ما هو كائن أو ما سيكون، وثانياً كون الرواية هي رواية البطل المتحدث الذي يخضعنا لوجهة نظره في الشخصيات، ومن طبيعة الإنسان تنميط الشخصيات المحيطة به، بقطع النظر عن اتفاق أو اختلاف الآخرين معه في نتائجه المستقرة حيال الآخرين، وهذه النقطة نتيجة منطقية مباشرة للجوء المؤلفة إلى أسلوب "الترجمة الذاتية" سالف الذكر في الملاحظة الثانية.
الملاحظة الخامسة أن الكاتبة عنيت بصورة لافتة بتصوير البيئة المحلية للرياض بمعناها الاجتماعي أكثر من الطبيعي، فحرصت على توكيد شيوع الخطاب الديني المتشدد، وطبيعة موقع المرأة في البيئة الاجتماعية بالنسبة لنفسها وأهلها وزميلاتها، أكثر من حرصها على الوصف الطبيعي للبيئة إذ لا يجد القارئ تفصيلاً دقيقاً للأماكن التي تشهد الحدث باستثناء عنايتها بتفصيل الحديث عن المنظر الطبيعي في اللقاء البريّ بين هند ووليد، لكن هذا لا يلغي سهولة وضع النص – وذاكرته - ضمن إطار زماني ومكاني محدد.
وبمناسبة هذه النقطة من اللافت أن المؤلفة ربطت الخلاص للبطلة من مختلف الضغوط التي تواجهها بالحب الذي لا يكتمل إلا بمفارقة الرياض، المدينة والمجتمع، وكأنها – بوعي أو دونه - توحي للقارئ باستحالة تخلص هند من مشاكلها العميقة والمركبة دون تغيير بيئتها المحلية، وإذا نظر القارئ إلى هند بحسبانها ذاتاً رمزية فإن الأمر يثير أسئلة مهمة.
الملاحظة السادسة تتعلق بالحبكة، فالرواية اتسمت بحبكة متماسكة مما جعل النص ينحو في أكثر من مناسبة إلى وقوع الحدث مصادفة واتفاقاً أكثر من كونه تطوراً هادئاً لعوامل فاعلة، إلا انه يمكن القول إن بعض هذه الأحداث كان تطوراً طبيعياً أنتج استعداداً ينتظر المصادفة، كما حدث في انجذاب هند لوليد، أو سرعة انتماء إبراهيم للخطاب الديني. ولعل من المثير هنا طرح السؤال إلى أي مدى ينتظر الإنسان في مجتمعنا مصادفة ما ليعبّر عن تطوره الهادئ وغير الملحوظ.
الملاحظة السابعة أن الرواية وإن لم يبدأ بعد الحديث عن كونها سيرة ذاتية للمؤلفة، لكن الشخصية الرئيسة ذات طابع قريب منها، وهي ملاحظة متكررة في أغلب الروايات السعودية أخيراً – أستثني هنا تجارب غازي القصيبي ما بعد "شقة الحرية" -، إذ لا يشعر القارئ أن المؤلف السعودي قادر على ممارسة قدر من التباعد عن شخصيته وظروفه وبيئته لصالح إنجاز عمل فني، وهذه الملاحظة بالذات تجعل القارئ يتعاطى مع العمل من خلال معطيات غير فنية، بما يشجّع بالتالي على استنتاجات غير نقدية، إذ يسهم التقارب بين شخصية البطل والمؤلف في افتراض أن الرواية لم تأت لحاجة فنية وإنما لضرورة رقابية.

خاتمة
في الخلاصة تمثل الرواية، من وجهة نظري، إطلالة أولى ناجحة للمؤلفة في عالم الرواية، لكن يبدو أن حالة الاحتقان الثقافي التي يعانيها المشهد المحلي بحكم ملابسات عديدة يمتزج فيها السياسي مع الاجتماعي تحت قبة أيدلوجية، هي الحالة التي أدت إلى إخراج الرواية السعودية من ميدانها الفني ذي الطابع النخبوي إلى ميدان السجال السياسي ذي البعد الجماهيري، وهو ما قاد إلى تقييم تراجع فيه الفني لصالح غيره، وبات من أساسيات النظر في العمل الأدبي مراجعة الخلفية الفكرية للكاتب، ما لم أقل افتراض النيّات والحكم عليها.
ومن هنا فمن المنتظر أن يتم الخوض في هذه الرواية – كالروايات السابقة - من زوايا تتجاوز الاعتبارات الفنية إلى غيرها، ومما لا شك فيه - عندي على الأقل - أن بدرية البشر زوّدت خصومها في التيار الإسلامي بذخيرة كافية في هذه الرواية لشن المزيد من الهجوم على قلمها الجميل.

* هند والعسكر، بدرية البشر، دار الآداب- بيروت، 2006م.

الأكثر قراءة