التيه الدولوزي

التيه الدولوزي

الاختلاف ليس مجرد نزوة للمغايرة، أو مصادمة المألوف والسائد، إنها فلسفة عصبها النقد تستهدف تغيير بنية وعي الفرد، وهي نزعة متطرفة دون شك بالنظر إلى دعوة رموزها إلى نقض سقف الأفكار العقلانية المعاصرة، واتكائها الدائم على تقويض ركائز فلسفية تقليدية اعتمدها المفكرون في ممارساتهم كحقائق قارة، فاختلاف دريدا، وأركيولوجية فوكو، وتيه دولوز، مراودات فلسفية لا تتقصد بناء الحقيقة بقدر ما تستهدف زعزعة المسلمات بشكل مستمر، ولهذا السبب بالذات احتج مجموعة من المفكرين الإنجليز على تكريم جاك دريدا عام 1992 لأنهم لا يعتقدون بوجود مسافة بينه كناقد وبين المشعوذ.
 إذاً، فلسفة الاختلاف نزعة ضد التقديس والثبات، وكل فكر ومعتقد بمنظورها قابل لإعادة الفحص والتفكيك، أو هذه هي ميزة العقل الفلسفي العلمي الحديث في اعتماده على التشكيك وتهديم الأوهام، ووفقا لهذا المنزع التدميري بشّر ميشيل فوكو بعصر دولوزي، وكان يعني الإشادة بجيل دولوز الناقد الذي لا يمل من الترحال عبر الأفكار، إذ لا يستقر داخل المعقول مهما بدا مقنعا، ولا يطمئن للمحسوس مهما كانت صرامته كواقع، فقد أراد زعزعة أركان الفكرة القائلة بإن ثمة تاريخا وتواترا زمنيا، إيمانا بالمتعدد كما عبر عنه في " ألف ربوة " الذي قطع به الصلة مع الفلسفة التقليدية.
 هكذا صار دولوز مهجوسا بتدمير آليات التمثل، حتى وصل به الأمر إلى استحداث مقابلة تقوم على " التكرار والاختلاف " لإبطال فكرة " العود الأبدي " عند نيتشة، واستبدال " الهوية " كحنين ومستقر بمفهوم أو جوهر " التكرار " الذي يحدث ساعة تتوافر الطاقة، ولا يقوم على زيف التشابه، وبما هو هوية بديلة تقوم على الصيرورة، وتبديد سلطة الهوية في آن، أي الاتكاء على تكرار حقيقي يخدم التمايز، وتتحقق بموجبه فلسفة الاختلاف كما تقول برحابة الصدر المنفتح على المتشتت والمتعدد.
 هذا هو البدوي الرّحال دولوز، كما أسس فلسفته على محوري الرغبة والتيه، حيث التمجيد الصريح للايقين، ومساءلة الفكر الإنساني في صميم اعتقاداته، حتى العدمي أو الشكوكي الأكبر نيتشة لم يقاربه بانبهار بل باستراتيجية مكتظة بعلامات الاستفهام، رغم خضوعه للفكر النتشوي، أو هكذا كان يصنف كنموذج عصياني، خصوصا في تصديه لنقد الذات، واعتبارها مجرد جملة من الأوهام المتراكمة، وتبنيه الصريح مفهوم " اللا أخلاقية " أو الإقامة " فيما وراء الخير والشر ".
 وقد أهلّه ترحاله الدائم بين الأفكار لأن يكون ممرا لكل الفلاسفة، وجسراً لمعرفة أدق تصوراتهم وأوهامهم، فقد كان اختراقيا في قراءاته، ولا يقر المحاكاة أو تمثل الجاهز من الأفكار مهما بدت ساطية، فقد زحزح المنظور البنيوي لفردينان دي سوسير الذي يعلي من شأن الدال، في محاولته للإطاحة بالمصادرات التي ينهض عليها حقل اللسانيات، وتحدى اختزالات هيغل وماركس الشمولية والكلية، بحماسته أو انتمائه للعقلانية المعاصرة، بما هي جدلية دائمة ولا اكتمالية، تحترز كفلسفة اختلاف من الحنين لأي مشروع توحيدي، وتسخر من يوتوبيا " المركزي " الذي يؤدي بالضرورة إلى فاشية استبدادية مقيتة، تتعارض مع متوالية الإنشقاق والتعدد.
 هذه هي الفلسفة التي اعتقدها ومارسها دولوز كفعل انزياح، بما تعنيه من إنتاج دائم للمفاهيم المتجددة، فكل شيء زائف ولا يمكن الركون إلى استقراره، وبالتالي فهو مباح، إذ لا توجد حقيقة كاملة، وعليه حاول إيجاد فلسفة شبيهة بتطورية الفكر العلمي الذي يمارس تجدده باستمرار، كما بشر به باشلار مثلا لإبراز القيم المعرفية الكفيلة بإدراك مظاهر التجدد، أي رفض أحادية النظام المعرفي، وتسليح الكائن بأفق عقلي جديد، وتوسيع مجالات البحث عن المعاني، وهذا لا يقوم إلا على فكرة " نقد النقد " أي العودة بالعقل إلى مكامن أخطائه وتغيير الشروط التي تسببت في تعويقه وإعطاب آلياته وبنياته، وهذا هو عصب النقد الفلسفي كما يتمثل في الاختلاف.
 إذاً هي محاولة لتقويض مفهوم الحق المطلق، وفضح حقيقة الخطاب السلطوي، وتفكيك مركباته أو مراوغاته كما يتمظهر بعناوين مختلفة، والأهم أن دولوز أراد مقاربة المعرفة العقلية ذاتها التي كانت عصب الحداثة الغربية، ليزيحها عن وهم الإنغلاق على حقيقة يراد لها الاكتمال، والذهاب بالجدل حتى إلى قدسية بنياتها الأفلاطونية والهيغلية لتقويضها، وخدش التصورات الميتافيزيقية، ولو بفلسفة نخبوية بعض الشيء، أو هذه هي أعلى مراحل الفلسفة بتصوره، أي التجدد في إنتاج المفاهيم شريطة فهمها، وتقديمها كمعنى ولكن ليس كحقيقة كاملة، أو هكذا أراد الحياة حربا ضد كافة أشكال الاستبداد والفاشية من منطلق كراهيته لكل ما هو سلطوي، والقبول الواعي بمواجهة الأشكال المتجددة من " اللايقين ".

الأكثر قراءة