الاستعباد والاستبعاد

الاستعباد والاستبعاد

نود أن نجادل بأنه ما لم يتم تغيير الثقافة السائدة عبر قرارات "حازمة وأليمة" لايمكن بأي حال من الأحوال خلق بيئة عمل صحية تزدهر فيها السعودة وتؤتي أكلها ويجني ثمارها الوطن. وعودا إلى التاريخ، يمكن القول: إن الرق قد انتهى رسميا في بداية عقد الستينات، لكن ثقافة الاسترقاق أو الاستعباد المصاحبة لم تتلاشى على مايبدو. فبعد عقد واحد فقط، منتصف السبعينيات، بدأت ملامح المجتمع في التحول شيئا فشيئا من رعوي وزراعي إلى مجتمع حضري وصناعي يعتمد في مجمله على العمالة الوافدة. لكن العمالة التي استقدمت كحل اضطراري لمعضلة التنمية وشاركت في بناء أكبر وأسرع نهضة تنموية عرفها التاريخ، لم تقتصر على المصنع والمتجر بل امتد وجودها، والأصح استشرى، إلى كل منزل تقريبا وشاركت، أيضا، في إطعام وتربية أسرع تضخم بشري في العالم. بيد أن دخول العامل الوافد إلى مجتمع مازال يعيش ثقافة الاستعباد أفرز سلوكيات تدل في جوهرها على علاقة غير صحية بين العامل وصاحب العمل يطلق عليها "علاقة السيد / العبد" [Master/SlaveRelations]. ومما "زاد الطين بلة" مصطلح "رب العمل" الذي عزز بدوره من ثقافة الاستعباد وترسيخ مفاهيم معوجة استمر أثرها حتى يومنا هذا في مجتمع يؤمن بأن الرب هو الرزاق.
جاءت "السعودة" مع بداية عقد الثمانينيات على استحياء ولم تتمكن من مجابهة ثقافة تأصلت وترسخت عبر عقود فكان مجيئا بطيئا بطيئا. استطاعت السعودة حينها أن تنفذ إلى القطاع العام ولكن ليس إلى عقل وقلب وجيب القطاع الخاص. لم يستطع رجال الأعمال التخلص من هيمنة ثقافة الاستعباد بل يمكن القول إنهم استطابوها وأصبحت جزءا من نسيجهم الفكري وثروتهم المعنوية. من ناحية أخرى، جاء معظم العمالة الوافدة من شعوب "مستعمرة حتى قفاها" وزرعوا أسلوب الخنوع والتذلل، بسبب الاستعمار والحاجة، لدى كثير من أصحاب الشركات والمؤسسات الذين لم يفيقوا من ثقافة الاستعباد، فتضامن الجميع في استبعاد السعوديين لأسباب متعددة تختلف باختلاف ثقافاتهم وأهوائهم.
ويمكن لنا أن نقسم العمالة الوافدة إلى ثلاث ثقافات: (1) عمالة وافدة بثقافة متقدمة وتشمل العمالة الغربية وامتداداتها. (2) عمالة وافدة بثقافة مشوشة وتشمل العمالة من البلدان الآسيوية والنامية. (3) عمالة وافدة بثقافة ملوثة وتشمل معظم العمالة من الدول العربية. الأولى، تملك التقنية والعلم والخبرة والإرث المتقدم في التعامل، والأهم من ذلك أن وجودها مؤقت مهما طال بها الزمن، وهذه لا تستعبد ولا تستبعد السعوديين. الثانية، العمالة الآسيوية أوعمالة الدول النامية والتي أدت بها الحاجة إلى الغربة والبعد عن أوطانها بسبب لقمة العيش لها ولأمم أمثالها من خلفها وهي على استعداد لعمل أي شيء للحفاظ على مصدر كسب العيش والبقاء لأطول وقت ممكن فتفننوا في استبعاد السعوديين. أما الثقافة الثالثة فهي العمالة العربية والتي بالرغم من حاجتها الماسة للعمل وكسب العيش ورغبتها الملحة للبقاء أطول فترة ممكنة لا تزال تعيش ثقافة ملوثة بحقد على "عرب الخليج" نتاج موروث الكراهية الذي تم تسويقه في عواصم الحواضر العربية في عقد الخمسينيات والستينيات الميلادية من بلاد الثورة ضد بلدان الثروة. العمالة الوافدة من البلدان العربية لا تستعبد السعوديين فحسب، بل لا تمانع في استعبادهم لو صح لها ذلك لأسباب لا تخفى على فطنة أحد. في المقابل، يجيء السعوديون الراغبون في العمل مثقلون بثقافة مشوهة، أبناء قبائل وعوائل لم يخطر ببالهم يوما أنهم سيقفون في طوابير العمالة ويدرجون في قوائم البطالة. شباب قيل لهم إنهم أحسن شباب الأرض يولدون فيخدمون (بفتح الدال) ولا يخدمون (بكسر الدال)، ويكبرون فيديرون ولا يدارون. هذا الإرث الثقافي الذي يموج في مجتمعنا لا يمكن تعديله بين عشية أو ضحاها، ولا يمكن تبديله في زمن العسرة والسنوات العجاف، كما لا يمكن تبديده إلا بقرارات حازمة أقوى من خيال الشعر ومماحكات النثر.
فيروزيات بتصرف: "الآن الآن وليس غدا .. أجراس السعودة فلتقرع"

- باحث سعودي
[email protected]

الأكثر قراءة