الخيار الآسيوي
الخيار الآسيوي
الجولة التي يبدأها اليوم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى بعض الدول الآسيوية وعلى رأسها الصين والهند يمكن أن تشكل نقلة نوعية في علاقات المنتجين والمستهلكين. و لا يعود ذلك لأن جانب الطاقة سيحتل موقعا رئيسيا في المباحثات التي تجري في هذه الدول، التي تتزايد احتياجاتها باستمرار بسبب معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة التي تعيشها وغياب القدرة المحلية أو حتى القارية في تلبية هذه الاحتياجات، وإنما لأن الدول الآسيوية تتجه الى تغيير التركيبة التي ميزت نادي المستهلكين منذ بروز الصناعة النفطية بوجهها الحديث وتأسيس منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) الساعية إلى تأمين حقوق المنتجين في مواجهة الشركات النفطية الأجنبية ومن ورائها حكوماتها.
فالدول الغربية ظلت هي المستهلك الرئيسي والقادرة على دفع قيمة مشترواتها من النفط، لذا كانت معدلات النمو الاقتصادي في هذه الدول والكميات التي تستهلكها من النفط تعتبر مؤشرات لحجم الإمدادات التي ينبغي أن تدخل إلى الأسواق، وهو ما يؤثر في الأسعار من الناحية الأخرى. ولهذا أصبحت السياسات التي تعتمدها سواء ما يتعلق منها بترشيد الاستهلاك أو قوة الدولار وهو عملة تجارة النفط العالمية لها انعكاساتها على الدول المنتجة. ومثلت مرحلة الصدمتين النفطيتين في عقد السبعينيات، مع تزامن الصدمة الأولى مع الحرب العربية الإسرائيلية في تشرين الأول (أكتوبر) 1973 والثانية مع قيام الثورة الإيرانية ذروة هذه العلاقة المتشابكة بين المنتجين والمستهلكين، إذ سعى الأخيرون إلى تقليل الارتفاع الحاد في الأسعار والنقص في الإمداد الحقيقي منه والمفتعل.
خلال هذه الفترة سعت "أوبك" إلى لفت أنظار المستهلكين الرئيسيين في الغرب إلى ضرورة العمل على تغيير بعض قواعد النظام الاقتصادي العالمي وجعله أكثر حساسية واستجابة إلى متطلبات واحتياجات دول العالم الثالث. وبما أن سلاح النفط كان لا يزال مشرعا بصورة أو أخرى، فإن الحوارات التي جرت إنما تمت من باب ممارسة العلاقات العامة ودون إيمان حقيقي بجدواها، لذا فعندما هبت رياح السوق في أشرعة المستهلكين، تم قبر فكرة النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وأصبح على المنتجين إغراء المستهلكين عبر مختلف أنواع الحسومات والتسهيلات في الدفع كي يمكنهم تصريف براميلهم النفطية.
وتشعبت وسائل معالجة الدول الغربية لقضايا الطاقة لديها ووجدت أنها يمكن أن تدر عليها دخلا كبيرا يتجاوز ما يحصل عليه المنتجون من خلال الضرائب العالية التي تفرض على النفط ومشتقاته، كما حظي النفط بمعاملة تمييزية ضده بصفته الملوث الأول للبيئة، وأسهمت زيادة فاعلية استخدام المركبات والآلات في تقليل الاستهلاك بصورة ملحوظة.
على أن السنوات الأخيرة منذ مطلع العقد الماضي بدأت تشهد تحولات تسارعت خطاها وذلك ببروز االمستهلكين الآسيويين وعلى رأسهم الصين والهند وإذا أضيف إليهم البرازيل وروسيا، فإن هذه الدول أصبحت أكثر تأثيرا فيما يخص قضايا الأسعار والطلب من الدول الصناعية الغربية التقليدية. وهذه النقلة في تركيبة نادي المستهلكين يمكن أن تحدث تحولات في علاقات طرفي معادلة سوق النفط.
فالقادمون الجدد لا يزالون ينتمون إلى نادي الدول النامية ولو بفارق عن البقية، كون هذه الدول قطعت أشواطا في ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل إن دولة مثل الهند شكلت لها حضورا مشهودا له في مجال البرمجيات، لكنها لاتزال أقرب إلى فهم نفسية ومطالب المنتجين خاصة تلك المتعلقة بتطوير بلدانهم وتنميتها وأن النفط وعائداته يكاد يشكل الوسيلة الوحيدة لإنجاز هذه المهمة.
والأمر كذلك يصبح هناك احتمال في إحداث اختراق في حوار المنتجين والمستهلكين، الذي ظل يدور في حلقة مفرغة منذ أكثر من ربع قرن من الزمان تحت مختلف المسميات. فالدول المستهلكة الغربية لم تكن ترغب في الحديث مع المنتجين كمجموعة واحدة، وهناك أيضا الفيتو الذي كانت تضعه على تناول موضوع الأسعار وذلك من منطلق أن هذه قضية تحلها آليات السوق وحدها. ومع أن هذه المواقف كانت تبدو كثوابت غير قابلة للنقاش، إلا أنه في بعض الأوقات كان يتم غض النظر عن هذه الثوابت مثلما كانت الإدارة الأمريكية تفعل على أيام الرئيس بيل كلينتون تضغط على الدول الأعضاء في أوبك فرادى وكمنظمة لزيادة إنتاجها بأمل خفض الأسعار.
وهكذا يظهر لاعبون جدد ليسوا محملين بأثقال الصدمتين النفطيتين السابقتين، وليس لهم إرث استعماري يجعلهم لا يستسيغون فكرة الحوار الندي والمتكافىء مع دول كانت محمية أو مستعمرة، كما يمكن أن يكونوا أكثر تقبلا لفكرة المساواة والمشاركة في ترتيب أوضاع جديدة بين الطرفين خدمة لمصالحهما سويا، هذا إلى جانب أن اليد العليا للدولة فيما يتعلق بالصناعة النفطية في جانب مجموعة المستهلكين الجديدة البازغة ووجودها القديم بالنسبة للمنتجين من خلال الشركات النفطية الوطنية ، كل هذا يمكن أن يجعل من احتمالات التفاهم مع المستهلكين الجدد أفضل منها مع قدامى المستهلكين. ولهذا يمكن أن تصبح زيارة الملك عبد الله نقطة انطلاق في هذا الاتجاه.