الخاطبة.. من قمة التأثير الاجتماعي إلى البحث عن لقمة العيش
احتلت الخاطبة دوراً محورياً في بنية النظام الاجتماعي في اليمن، ليس باعتبارها الوسيط الوحيد بين طرفين يريدان الزواج وفق الشريعة الإسلامية والسنة النبوية فحسب، بل بسبب شمولية دورها الذي دفع بها إلى واجهة التأثير في الأسر وبالذات الفقيرة، كونها أحد الوجهاء الذين يقتدى بهم في حسم قضايا الزواج والتعبير أيضا عن حاجات النساء وبالخصوص داخل المجتمع بكفاءة وجرأة عاليتين، وتحديدا في الريف.
تتذكر الخاطبة أم أحمد البوني (60 عاماً) وضعها قبل 20 عاما، عندما كانت تقوم بثلاث أو أربع مهمات في الأسبوع في خطبة الفتيات نتيجة معرفتها بالعائلات، إذ كانت تلك العائلات تعتمد علينا كثيرا في إتمام الزواج قائلة "الماضي كان أجمل". وردا على سؤال عما إذا كانت تشعر بأن مهنة الخاطبة مازالت تمثل حلا لمواجهة احتياجاتها المعيشية، نفت الخاطبة السابقة أم أحمد ذلك، وقالت "ألا ترى هذه الملابس.. هي الحل الوحيد بنسبة لي الآن. فأنا أقوم بالطواف على المنازل وأعرض بضاعتي عليهم وأستطيع إقناع النساء بشرائها من خلال التقسيط الشهري".
وأرجع أحمد درهم السعدي إخصائي النفس الاجتماعي أسباب ذلك إلى "انتشار التعليم وتقنياته، بما في ذلك الإنترنت وخروج المرأة إلى العمل، إضافة إلى تفاقم مشكلة الفقر، التي أدت إلى الإسهام في انهيار تقاليد كثيرة كان يحرص عليها المجتمع اليمني، سواء في الريف أو المدينة، لعل من بينها دور الخاطبة". وقال "القضية الآن لم تعد ترتبط بالخاطبة كوسيلة يتحقق عن طريقها تعارف الراغبين في الزواج، بقدر ما تكمن في قدرتهما على إتمام هذا الزواج وتحمل نفقاته في ظل ارتفاع باهظ لتكاليف الزواج أصلا".
لكن اللافت أن مهنة "الخاطبة" في اليمن التي فقدت بريقها تقريبا، ظلت في كل هذه البيئات قاسما مشتركا حتى في المدن الكبرى مثل عدن. تقول رقية بدر، وهي إحدى الخاطبات المتمرسات في مدينة عدن، إن لديها الرغبة الكاملة في التوقف عن أداء دور الخاطبة، وهذه الرغبة لا تعود كما قد يتبادر إلى ذهن البعض إلى سن هذه الخاطبة "الحَنِكْ" المأخوذة من الحِنكَة كما يسميها معارفها من نساء المدينة، بل تعود إلى ما تعتبره عدم فائدة دورها هذه الأيام. وتضيف رقية بدر التي استكملت عامها الـ 60، أنه كان كثير من العائلات في عدن تفضل الاستعانة بالخاطبة وحنكتها في الحصول على زوجة بأقل تكلفة، فالخاطبة وحدها التي تملك الفرصة للتفاوض مع أهل العروس دون حساسية".
أم أحمد البوني، كما رقية بدر، خاطبتان لم يعد أمامهما سوى طريق التقاعد. صحيح أنهما من مدينتين مختلفتين وتنتميان إلى نمطين اجتماعيين مختلفين، إلا أنهما تتفقان على تأكيد حقيقة واحدة، هي تراجع أهمية الخاطبة في المجتمع اليمني في صورة لا تدل على موقف عام يعني انتهاء دور الخاطبة وزواله من الحياة، بل على العكس، فإن بعض البيئات الاجتماعية الريفية هي مصدر اعتراف بدور الخاطبة، وإن كان وجودها يقف هو الآخر على مشارف نهاية تحول اجتماعي يهدد بانهيار الكثير من التقاليد والموروثات الاجتماعية فيها.