التسييس الروسي

التسييس الروسي

التسييس الروسي

يوم الأحد الماضي هيأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه للبدء في تولي رئاسة مجموعة الثمانية لفترة ستة أشهر، خطط لاستغلالها بصورة واضحة في تقديم روسيا مصدرا مأمونا لإمدادات الطاقة، خاصة في مجالي النفط والغاز، وعلى الدول الغربية خاصة شركاءه في المجموعة، أي الدول السبع الصناعية الكبرى الإقرار بهذه الحقيقة والعمل على هديها.

لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ففي اليوم ذاته أوقفت شركة غازبروم للغاز التي تسيطر الحكومة الروسية على غالبية أسهمها، إمدادات الغاز إلى أوكرانيا، التي تمر عبرها إلى العديد من دول أوروبا الغربية، وذلك في خطوة للضغط على أوكرانيا ودفعها للقبول بالشروط الروسية الخاصة برفع سعر الغاز الذي تحصل عليه بنحو أربعة أضعاف.
أوكرانيا رفضت الشروط الروسية، وكان أن توقفت الإمدادات لمدة يومين عادت بعدها إلى التدفق إثر اتفاق وصفه الكل بأنه يقوم على حفظ ماء وجه الطرفين من خلال صيغة معقدة تعطي روسيا الإحساس وحق القول إنها تمكنت من زيادة السعر، كما تعطي أوكرانيا حق قول إنها لم تستجب للطلبات الروسية.
لكن الضرر لحق بصورة بوتين، التي سعى جاهدا إلى بنائها بصفته أحد قادة إحدى دول العالم الرئيسية، ورجل دولة يمكن الاعتماد عليه ويوفر للدول الغربية المستهلكة بديلا يوسع هامش الحركة أمامها في مقابل منتجي منطقة الشرق الأوسط ومتاعبهم التي لا تنتهي.
اهتمام بوتين بقضايا الطاقة برز بصورة واضحة من خلال قضية "يوكوس" التي سعى إلى تفكيكها وضمان سيطرة الحكومة على الصناعة النفطية الروسية بمختلف الوسائل، وذلك لقناعته القائمة على معرفة كون خبرته تتجذر في الجانب الأمني والاستخباراتي بسبب عمله السابق في جهاز الـ "كى. جي. بي". وفي مثل هذا المناخ لم يكن مستبعدا أن تقدم "غازبروم" على خطوة الضغط على أوكرانيا، إذ لها في نوعية الضغوط التي مورست على شركة يوكوس ومؤسسها فيكتور خودروكفسكي خير مثال يمكن أن يحتذى في سبيل إحكام السيطرة الحكومية على هذه المرافق، لكن فيما يبدو فقد خانها التوقيت، الأمر الذي أدى إلى بروز ضغوط من بقية دول الاتحاد الأوروبي، وأهم من ذلك تساؤلات إذا كان من الأوفق والحكمة وضع الكثير من البيض الأوروبي في السلة الروسية.
خطوة "غازبروم" هذه إذا كان وراءها بوتين أو تمت من وراء ظهره، لا فرق، تشير مرة أخرى إلى الرابطة القوية بين الطاقة من نفط وغاز والعامل السياسي. وإذا كانت الذاكرة حافلة بالكثير من الجهود التي بذلتها الدول الأعضاء في "أوبك" لتسييس السوق النفطية من باب أنها تملك ورقة رابحة يمكن استخدامها لتحقيق مكاسب سياسية هنا أو هناك، إضافة إلى ما يمكن تحقيقه عن طريق الضغط من تملك لأصول الصناعة النفطية وغيرها من المكاسب التي يراها المنتجون نتاجا طبيعيا للحصول حق معلوم، سواء في ميدان الصناعة نفسها مثل السيطرة عليها، أو الحصول على تنازلات في الجانب السياسي.
والبعد السياسي في الصناعة النفطية لا يقتصر على المنتجين فقط، وإنما ينسحب على المستهلكين أيضا. والذاكرة لا تزال عامرة بالضجة التي أثارتها الصين في سعيها لتملك شركة يونوكال الأمريكية قبل بضعة أشهر، وهي خطوة رأت فيها المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة أنها تمثل تهديدا مباشرا للأمن القومي رغم المحاضرات التي تتبرع بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة عن حرية السوق وضرورة عدم التأثير عليها وأهمية إبعاد الحضور الحكومي عنها.
وقد لا يكون مفيدا الحديث من باب تسجيل المواقف أو الإشارة إلى ممارسة الكيل بمكيالين التي تبرع فيها الدول الغربية، ولكن إبراز بعض الحقائق البسيطة، وعلى رأس هذه أن هناك رابطة بين السياسة والصناعة النفطية، وهي الرابطة التي تعطي هذه الصناعة خاصيتها التي يشار إليها كونها صناعة استراتيجية رغم أنها سلعة ينطبق عليها قانون العرض والطلب مثلما ينطبق على أي سلعة أخرى، لكنها تختلف من بقية السلع بهذا البعد السياسي الحيوي، الذي يجعل واشنطن بكل ثقلها دولة عظمى تخشى من سيطرة الصين على إحدى شركاتها النفطية متوسطة الحجم.
وإذا كانت دول "أوبك" أول من اتهم باللعب على العامل السياسي في ممارساتها التجارية، فإن هذه وعت الدرس عبر تجارب مريرة ووجدت أنها لا تحتاج إلى الخلط بين الاثنين، لأنه مهما حققت من مكاسب إلا أن ذلك الخلط سيلقي بظلاله وبصورة سلبية طال الزمن أم قصر، خاصة أن التحكم في الإنتاج والأسعار أمران غاية في الصعوبة، وهما مفتاح التأثير الفعلي في السوق.
ومثلما صحب تجربة "أوبك" أحاديث من المستهلكين عن ضرورة تنويع مصادر الإمدادات وإيجاد مخزون للطوارئ، والبحث في خيارت بديلة للطاقة الأحفورية، فإن خطوة "غازبروم" أعادت الأحاديث نفسها. وقد يكون مفيدا القيام بخطوات في هذا الاتجاه، لكن الأكثر فائدة التوصل مع المنتجين بمختلف أنواعهم إلى تفاهمات تضمن عدم لجوئهم إلى خلط التجارة والسياسة.

الأكثر قراءة