ما هكذا تورد الإبل يا وزارة العمل.. لماذا تسلبون دور وزارة الاقتصاد؟
خلت استراتيجية التوظيف التي طرحتها وزارة العمل للنقاش في غرفة الرياض قبل أيام من أي مفهوم علمي أو منظور استراتيجي بالرغم من تولي أحد بيوت الخبرة تصميم وهندسة الاستراتيجية. فقد أولت وكالة الوزارة للتخطيط والتطوير أمر الاستراتيجية إلى الدكتور إحسان أبوحليقة عضو مجلس الشورى وصاحب مركز جواثا الاستشاري للمعلوماتية. ويمكن لنا بكل حياد وموضوعية أن نمنحها نقطتين فقط من عشر نقاط. ونشك كثيرا في قبول الدكتور غازي القصيبي لذلك العمل الذي يمكن وصفه بأي وصف ما عدا اسم استراتيجية.
القصيبي صاحب كتاب "حياة في الإدارة"، و"التنمية وجها لوجه"، و"العولمة والهوية الوطنية"، وأجندة الـ 13، التي طرحها عند تعيينه وزيرا للعمل، و"عملك عزيزي المواطن". وبأهمية خاصة كتاب " التنمية .. الأسئلة الكبرى"، هذا الكتاب الثري والعميق الذي يحمل مضامين وطروحات لا غنى لأي مخطط أو فريق تخطيط عن الاسترشاد به.
وفي ظننا أنه لو تمعن معدو الاستراتيجية أو الخطة في كتاب "التنمية والأسئلة الكبرى" فقط لكان نتاجهم أكثر واقعية وعقلانية. حيث إن هناك فرق كبير بين "نمو" لا تستفيد منه سوى الأقلية المحظوظة وبين "تنمية" تتم لصالح القاعدة العريضة من الجماهير". (التنمية.. الأسئلة الكبرى، ص 37) لكن قبل "هذا وذاك" نود أن نأخذ القارئ إلى مدخل يصور جو مناقشة الاستراتيجية في غرفة الرياض ومن ثم إلى المفصل (1) الذي يعرض الملاحظات الإيجابية والسلبية فيما أطلق عليه استراتيجية. وفي المفصل (2)، نتساءل عن أهمية الاستراتيجية مع وجود استراتيجية طويلة المدى وخطة ثامنة للتنمية صادرة عن وزارة الاقتصاد والتخطيط. أما المفصل (3)، فسنطرح فيه بعض الأفكار نأمل أن تكون صالحة لكي تتبناها وزارة العمل. وسنعرض أخيرا إلى خلاصة التقرير الذي حاولنا جاهدين تبسيط لغته إلى أكبر حد ممكن.
مدخل
* حضر الدكتور غازي القصيبي القسم الأول من ورشة العمل، لكن الجميع، تقريبا، غادروا القاعة بعد مغادرة الوزير بدقائق سواء من رجال الأعمال أو المسؤولين في وزارة العمل ماعدا الدكتور عبد الواحد الحميد المعني الرئيس بالاستراتجية. وكأن الجميع جاءوا لمقابلة وزير العمل فقط أو محاولة ثنيه عن بعض القرارات.
* حاول عبد الرحمن الجريسي رئيس الغرفة ورجل الأعمال النشط، الخروج بورشة العمل من هدفها الرئيس (استراتيجية التوظيف) إلى مناقشة بعض مواد في نظام العمل وصعوبات الاستقدام، لكن وزير العمل أدرك الوضع، بفطنته المعهودة فقايض الأمر بالموافقة على الاجتماع برجال الأعمال في الغرفة مرة كل شهرين (حسب طلبهم) وتعيين مندوب من الغرفة في لجنة الاستقدام (حسب طلبهم، أيضا)، والموافقة على طلب الغرفة المشاركة في إعداد اللوائح التنفيذية لنظام العمل الجديد. ولا نعرف ما إذا كان وزير العمل سيلبي تلك الطلبات لكل الغرف التجارية بدون تمييز أم أن الأمر سيقتصر على غرفة الرياض!!!
* الدكتور عبد الواحد الحميد وكيل وزارة العمل للتخطيط والتطوير جلس في مقاعد المتفرجين يرقب ردود الفعل، أو ردود الفكر، ونقاط الالتقاء والتقاطع ومسارات الأسئلة واتجاهات السخط والرضا عن بعد، وأراح نفسه من الرد على كثير من الاستفسارات.
* كان عدد الحضور متواضعا جدا بالنسبة إلى أهمية موضوع المناقشة وبالنسبة، أيضا، للصراخ المتعالي من رجال الأعمال ضد تفعيل سياسات العمل وقرارات السعودة وترشيد الاستقدام منذ تسلم القصيبي حقيبة العمل، خصوصا والمدة التي تغطيها الاستراتيجية تمتد جيلا بأكمله (25 عاما).
* تم تقسيم الاستراتيجية (25 عاما) إلى ثلاث مراحل: قصيرة (2)، متوسطة (3) وطويلة الأجل (20) لكن تم تخصيص ست ساعات فقط للأسئلة وبدون أي إجابة واحدة، ما عدا بعض التبريرات. ( وهذا يذكرنا بتكتيك بعض الشركات الغربية عند مناقشتها عقودا بمئات الملايين في بعض دول العالم الثالث في اجتماع يخصص له ساعة واحدة فقط). وكان المأمول أن تنشر مسودة الاستراتيجية على موقع المركز المعني بإعداد الاستراتيجية، أو موقع وزارة العمل قبل المناقشة بأشهر ليتمكن المختصون والمعنيون والمتأثرون والمؤثرون في الاستراتيجية من دراستها جيدا وإثراء النقاش.
* تولى الدكتور إحسان أبوحليقة وحده الجلوس على المنصة الرئيسية فسكت عما يفترض به أن يجيب عنه ( النواحي الفنية الخاصة بتصميم الاستراتيجية أو المنهج Methodology والأسئلة الفنية الأخرى) وأجاب أو حاول التعليق على مداخلات وأسئلة ليست من تخصصه ويفترض في غيره الإجابة عنها (الأسئلة المتعلقة بالعمل والعمال والإحلال والاستقدام). وبالرغم من أن الدكتور إحسان أبوحليقة عضو قديم (جدا) في مجلس الشورى إلا أنه ابتعد كل البعد عن أسلوب الحوار والنقاش في ورش العمل.
* كان لمشارك واحد في الصف الأمامي نصيب الأسد من الأسئلة والمداخلات والوقت بعد أن نقد الاستراتيجية بأسلوب سليط وقوي وصريح في بداية النقاش واستطاع بذلك أن يجبر الدكتور أبوحليقة على الاستجابة لكل إيماءة منه ومنحه المايكرفون.
* شارك بعض المسؤولين من وزارة العمل في الأسئلة والمداخلات وكأنهم يسمعون أو يشاهدون الاستراتيجية لأول مرة، مما أعطى دلالة واضحة على أن الاستراتيجية لم تنبع من فريق متكامل من الإدارات والأقسام المختلفة في الوزارة ولم تأخذ حظها من الإعداد عبر تلك الإدارات والأقسام.
* كان الأستاذ محمد أبو ذيب من صندوق تنمية الموارد البشرية يعي مفهوم السعودة بشكل جيد وإشكاليات الإحلال من الواقع المعاش، وهذا دليل آخر على أن صندوق تنمية الموارد لم يشارك في الإعداد.
* كان رئيس لجنة الموارد البشرية في غرفة الرياض مشاركا نشطا ومضيافا، كما كان الغداء دسما.
مفصل (1)
النقطة الإيجابية الأولى، هي فكرة صياغة وهندسة خطة طويلة المدى للتوظيف تسهل عملية التخطيط للقطاعين العام والخاص.
النقطة الإيجابية الثانية، هي فكرة عرض خطة واستراتيجية العمل على المهتمين بها من القطاع الخاص المؤثر والمتأثر الأكبر من استراتيجية التوظيف وأن يبدأ المسؤولون في وزارة العمل التفكير في العلن وبصوت مسموع قبل صياغة القرارات والسياسات.
ما عدا ذلك كانت "الاستراتيجية" عرض لأفكار غير متناسقة ولا يوجد فيها ما يساعد القطاع الحكومي أو الخاص على الاستدلال أو الاسترشاد للتخطيط أو التنفيذ.
> لم تتتضمن الاستراتيجية المنهجية أو التعريفات أو البيانات والإحصائيات التي تم على أساسها تصميم الاستراتيجية (ماعدا بيان واحد صادر عن مؤسسة النقد عام 2003م) وما إذا كان المركز قد قام بالمسح والاستبيانات اللازمة أم أنه استند إلى بيانات وزارة العمل التي تشكو من الدقة.
> تضمنت الاستراتيجية "الرؤية"، كما يجري عادة في أي استراتيجية، لكنها كانت قاصرة ومحدودة. فبدلا من أن تكون خلق بيئة عمل صحية ومتوازنة، اقتصرت الرؤية على التوظيف.
> اشتملت الاستراتيجية على عناوين مثيرة واختلطت فيها الرؤية بالغاية والسياسات بالآليات، وتداخلت المراحل القصيرة والمتوسطة وطويلة المدى مع بعضها بعضا. عدد من الأهداف قصيرة المدى وضعت في المرحلة المتوسطة أو طويلة المدى والعكس.
> جمعت الاستراتيجية الكثير من المصطلحات العامة مثل: تحسين، تطوير، تهيئة، تنسيق، توجيه.. إلخ، مصطلحات عامة دخلت في سياقات كثيرة وابتدأت بها عناوين كبيرة لكنها ظلت هلامية وغامضة تخلو من أي فكرة محددة ومفيدة.
> لم تتضمن الاستراتيجية أي استشراف علمي للمستقبل أو خطة لتوجيه الطاقات حسب رؤية الدولة لما يجب أن تتوجه إليه سوق العمل كما لم تحمل رؤية لما يحمله المستقبل العالمي من تخصصات.
> تتعارض الاستراتيجية في خطوطها وبعض من طروحاتها مع معطيات وتوصيات ندوة الرؤية الاقتصادية للمملكة والخطة الخمسية الثامنة
> إغفال عنصر المرأة إلا من إشارات إيهامية على استحياء
> أثقلت الاستراتيجية وزارة العمل ومكاتبها بكثير من المسؤوليات تنوء بحملها حتى لو زاد عدد موظفيها إلى عشرة أضعاف
> تتضمن "الاستراتيجية" تداخلا كبيرا مع وزارات أخرى مما يخرجها تنفيذيا من إطار وزارة العمل.
> اختزلت الخطة دور وزارة العمل في مكتب توظيف حكومي على مستوى الدولة وأهملت الخطة الأدوار المهمة والرئيسة التي تقوم، أو يفترض أن تقوم، بها وزارة العمل.
> لم تحفل الجهة المنظمة بالأسلوب العلمي في ورش العمل ومناقشة الاستراتيجيات وتسجيل نقاط الضعف والقوة. صحيح أن الحضور طالبوا بأن يتم النقاش من الجميع دفعة واحدة بدلا من توزيع الحضور، القليل العدد أصلا، إلى ثلاثة مواقع يتم مناقشة كل مرحلة في موقع مختلف مما يفقد البعض إمكانية العلم أو مناقشة المراحل الأخرى. لكن لم توزع أي وثائق تسجل الآراء أو التعليقات.
> يبدو أن مركز جواثا لم يكن مهيأ لمثل هذا العمل كما لم يتمكن المركز من أن الاستعانة ببيوت الخبرة العالمية خصوصا في موضوع الموارد البشرية. حتى التجارب التي تم التطرق إليها كانت بعيدة كل البعد عن موضوع الإحلال وهو الأكثر ملاءمة للسعودة.
مفصل (2)
لكننا نتساءل: هل تحتاج وزارة العمل إلى استراتيجية بالمعنى الصحيح والعام لمصطلح ومفهوم استراتيجية؟ والجواب أولا؛ إننا لا نظن أن وزارة العمل أو أي من الوزارات الأخرى بحاجة إلى استراتيجية. فقد تكفلت وزارة الاقتصاد والتخطيط وكفت الجميع هم ومهمة وضع الاستراتيجيات لكل وزارة على حدة، وهذا هو التفكير الأصح. فقد عملت وزارة الاقتصاد والتخطيط بمنهج علمي منذ سنوات لكي تنتج استراتيجية بعيدة المدى كانت أولى مراحلها الخطة الخمسية الثامنة التي "تمثل محطة رئيسة في مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمملكة كونها أول خطة خمسية تعد في إطار استراتيجية بعيدة المدى محددة الأهداف والغايات.. لكي تؤطر أربع خطط خمسية مقبلة حتى عام 1444/1445هـ (2024م) تمثل أربع مراحل مترابطة، ومتكاملة، تؤسس كل منها للمرحلة التي تليها نحو تحقيق رؤية اقتصادية واجتماعية شاملة ومحددة بنهاية المدة الزمنية للاستراتيجية". (الفصل الثالث، الاستراتيجية بعيدة المدى، الخطة الخمسية الثامنة) ثانيا: أن وزارة الاقتصاد والتخطيط قد سبق وأن بادرت إلى عقد ندوة للرؤية المستقبلية للاقتصاد السعودي قبل عامين وأفردت محورا خاصا بالقوى العاملة شارك فيه كل من المهندس أحمد الزامل وكيل الوزارة لشئون العمل، والدكتور عبد الواحد الوحميد وكيل الوزارة للتخطيط والتطوير عندما كان الأخير أمينا عاما لمجلس القوى العاملة قبل ضم المجلس ومهامه لوزارة العمل في ثوبها الجديد. (ندوة الرؤية المستقبلية للاقتصاد السعودي) ثالثا: ركزت الخطة الخمسية الثامنة على الكثير من القضايا ذات العلاقة بالعمل والتوظيف. فالفصل الثامن، على سبيل المثال، يعنى بالقوى العاملة والتوظيف، والفصل العشرون يعنى بتنمية الموارد البشرية، والفصل السابع عشر يختص بالمرأة وهكذا، وبتفاصيل وإحصائيات أكثر دقة مما ظهرت عليه "استراتيجية" وزارة العمل. ولا نبالغ إذا ما جزمنا بأن 70 في المائة من الخطة الخمسية الثامنة والاستراتيجية بعيدة المدى ركزت على التوظيف وتشغيل العمالة الوطنية ورفع مستوى معيشة الفرد السعودي. فقد احتلت: (أ) رفع مستوى المعيشة، وتحسين نوعية الحياة، وتوفير فرص العمل للمواطنين، (ب) تنمية القوى البشرية ورفع كفاءتها، وزيادة مشاركتها، لتلبية متطلبات الاقتصاد الوطني، الترتيب الثالث والرابع بعد المحافظة على التعاليم والقيم الإسلامية والهوية وخدمة الحجاج والمعتمرين وذلك من 12 هدفا حددتها الاستراتيجية. ثالثا، أن وزارة الاقتصاد والتخطيط قد بذلت مجهودا شارك فيه خبراء من البنك الدولي والأمم المتحدة ومسؤولون من كافة الإدارات الحكومية ذات العلاقة، إضافة إلى التعداد العام للسكان وما صاحبه من استبيانات علمية لدراسة الواقع بدقة. رابعا: تتطلب الخطة الخمسية الثامنة لكي يتم معالجة القضايا ومواجهة التحديات التي أشارت إليها الاستراتيجية بعيدة المدى والخطة "التزام الأجهزة التنفيذية مع جميع الفعاليات الأخرى في المجتمع بغايات الاستراتيجية وأهدافها. خامسا: أين هي استراتيجية القوى العاملة الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم (108/2) وتاريخ 10/2/1416هـ (1996). أم أن ما يجري هو موضة الاستراتيجيات!!! استراتيجية الفقر، واستراتيجية السياحة، واستراتيجية الصناعة.. إلخ، كل وزارة تنتج استراتيجية أو كما يقول المثل "كل يغني على ليلاه".
مفصل (3)
ما تحتاج إليه وزارة العمل، في اعتقادنا، هو خطة عملAction Plan يمكن تقسيمها على مراحل حسب الأهداف المعلنة للوزارة. خطة العمل تكون، عادة، أكثر وضوحا ودقة تمكن جميع الأطراف المعنية من التخطيط والتنفيذ. ولذا ندرج أدناه بعض الأفكار من واقع ما شاهدناه في المناقشة التي تمت في غرفة الرياض.
أولا: تشكيل فريق عمل لإعداد الخطة بالاستعانة بوزارة الاقتصاد والتخطيط بما يتناغم واستراتيجية الدولة بعيدة المدى لكيلا تتعارض الأهداف. إضافة إلا أن وزارة الاقتصاد والتخطيط معنية بالإحصاء والمعلومات ولها خبرة وتعاون مع جهات دولية وبيوت خبرة عالمية. ومن المهم جدا إشراك أرامكو السعودية التي تمتلك خبرة لا يستهان بها في السعودة وإشكالياتها تمتد إلى أكثر من 60 عاما، وشركة سابك وبعض شركات القطاع الخاص مثل شركة محمد عبد اللطيف جميل ومجموعة الزامل إضافة إلى الغرف التجارية وممثلين عن كل قطاع نا القطاعات الاقتصادية مثل: البنوك، التأمين، الاتصالات، الصناعة، الزراعة، السياحة، البناء والتشييد والعقار، الخدمات، التدريب والتقنية لكي يساهم كل قطاع في تقديم تنبؤات علمية Forecasting عن مستقبل سوق العمل في ذلك القطاع خلال الـ 25 عاما المقبلة وتكون المشاركة شراكة فعالة في الإعداد.
ثانيا: على حد علمنا، لا بد للرؤية Vision التي تعتبر عنصرا رئيسا في الاستراتيجية، أي استراتيجية، أن تكون عامة وشاملة ولا بأس أن تكون يوتوبية. أما الغاية Objective فلا يضير أن تقترب من الأحلام، لكن الأهداف Goals فلابد لها أن تكون واقعية من الممكن تحقيقها على مراحل Phases. يلي مرحلة تحديد الأهداف ترتيب أو تصميم السياسات Policies، ثم الوسائل Means، ثم الآليات Mechanisms، وأخيرا، الإجراءات Procedures. وبقدر ما يتم الاقتراب من الخطوط التنفيذية بقدر ما يجب أن تكون الخطوات واضحة ومحددة وقاطعة. فتزداد درجة الوضوح في الإجراءات وتقل درجات المرونة. ويرى البعض أنه يمكن الاختصار أو الدمج، فبعض الاستراتيجيات تدمج الوسائل مع الإجراءات، أو الوسائل بالآليات كما أن بعض الاستراتيجيات تتوسع بشكل أكبر لكي تتناهى في التحديد لكي تضم الخطوات Steps، وكل ذلك منبعه وغايته تقليل نسبة الأخطاء في التنفيذ وتقليل نسبة الغموض Ambiguity الذي عادة ما يؤدي إلى الارتباك والمزيد من الاجتهادات، أغلبها شخصية، أو التفسيرات المصلحية الوقتية. وهذا ما أضر بكثير من الخدمات المقدمة للجمهور من قبل الإدارات الحكومية.
ثالثا: المفترض أن تشمل الخطة دليلا كميا يبين الأعمال والمهن وبيئة العمل التي ترى وزارة العمل أنها الأصلح خصوصا أن المدة التي تغطيها الاستراتيجية يصل مداها إلى خمسة وعشرين عاما(ربع قرن). تحديد الأعمال والمهن ينبع من استشراف المستقبل ودراسة التوجه المحلي والإقليمي والعالمي. كما يجب ألا يقتصر الأمر على ذكر المهن بقدر ما يتم ذكر أعداد الوظائف المطلوب شغلها ومستوياتها المعيشية المادية (الراتب والمميزات). فإذا علمنا، على سبيل المثال، أن الطلب العالمي على الطاقة (النفط ومشتقاته) سيزداد بوتيرة معينة في ربع القرن المقبل، وأن حصة المملكة ستتزايد بنسبة معينة من ذلك الطلب، وأن الحكومة السعودية (أرامكو) قررت استثمار ما يزيد على 50 ألف مليون ريال في الأعوام الخمسة القادمة فقط لزيادة حصتها من الإنتاج الخام والمكرر. فالمفترض أن تتم معرفة كم هي العمالة المطلوبة في خطة التوسع في كل المجالات ذات العلاقة مثل: الدراسات والأبحاث والتنقيب و حفر الآبار والتكرير و النقل والإدارة والتسويق والبيئة والسلامة إلى آخر ذلك. ومن ثم توعية الشباب بها وتوجيههم إليها. مع ما يتطلبه ذلك من توجيه للبنية التحتية في التعليم العام والعالي والتدريب المهني والفني. المثال السابق يندرج على جميع النشاطات الاقتصادية مثل التأمين والبنوك والخدمات والاتصالات والتقنية وما يستجد في أسواق العالم أيضا دون استثناء. فالمطلوب إذن وضع دليل كمي لعدد الوظائف المتوقعة في سوق العمل في الـ 25 عاما المقبلة. لكي يتم "الربط التام بين متطلبات التنمية ومناهج التعليم بحيث تكفل هذه المناهج سد حاجة المجتمع إلى الكفاءات المدربة اللازمة لنجاح التنمية." (التنمية .. الأسئلة الكبرى، ص 123).
رابعا: لم تتطرق الاستراتيجية إلى إعادة التوظيف أو تبيان أثر العولمة ودخول المملكة منظمة التجارة العالمية وانعكاس ذلك على القوى العاملة. فقد أصبح من الثابت والمعلوم أن المنافسة تشتد في ظل اتفاقية التجارة الحرة مما يؤدي إلى الاندماج والإفلاس. وفي كلتا الحالتين تتأثر سوق العمل. فكيف السبيل مع عشرات الآلاف من المنشآت الصغيرة والمتوسطة وحتى الكبيرة التي نشأت وترعرعت في بيئة تقل فيها المنافسة وتعتمد على عدد من المعطيات لن تتأتى في ظل العولمة وتفتقد إلى كثير من عناصر الإدارة المتقدمة.
خامسا: المراحل الثلاث للاستراتيجية لم تبين العدد الذي سيتم استيعابه في القطاع العام والخاص. وكم نسبة العاملين في القطاع العام من مجموع القوى العاملة الوطنية؟ وهل سينمو أم يتناقص؟ خصوصا أن الحكومة الإلكترونية والخصخصة، سواء بالبيع أو إدارة الخدمات، مطلبان تؤكد عليهما خطة التنمية الثامنة وما سيليها من خطط. الفقرة العاشرة من أجندة الـ 13 لمعالي وزير العمل عند تعيينه تقول بالنص: "إن القطاع العام قد تشبع إلى درجة لم يعد معها قادراً على استيعاب الأعداد المتزايدة من الراغبين في العمل والمأمول أن يتمكن القطاع الخاص من توفير الفرص للسعوديين الراغبين في العمل."
سادسا: موضوع المرأة، هو الآخر، تم التعرض إليه على استحياء مع أن فتح باب العمل للمرأة سيقلب الأرقام والإحصائيات لعدد الوظائف وطالبي التوظيف ونسبة البطالة رأسا على عقب. فالمرأة نصف المجتمع وتشكل ما نسبته أكثر من 47% من عدد السكان، كما أن قرار مجلس الوزراء رقم (120) وتاريخ 12/4/1425هـ بشأن زيادة فرص عمل المرأة سيقلب المعادلة عاجلا أم آجلا. ولنا في تجربة تعليم المرأة في بداية الستينيات عبرة نأمل أن تتم الاستفادة منها والابتعاد عن مداهنة بعض فئات المجتمع وسياسة ردود الأفعال. ولذا يجب أن يكون التخطيط متكاملا يفرض أسوأ الاحتمالات.
سابعا: ركزت "الاستراتيجية" التي تم عرضها على النسبة وهذا فيه مغالطة كبيرة. فالسعودة ليست نسبة فقط، بل هي 4Ps: (أ) النسبة Percentage، وهي النسبة المئوية لعدد السعوديين من عدد العمالة الكلية للمنشأة وتتفاوت حسب النشاط؛ (ب) المهنة Profession، والتي صدر فيها عدد من القرارات تم قصر العمل فيها على السعوديين؛ (ج) المنصب Position، بعض المناصب المقصور التوظيف أو التعيين فيها على السعوديين مثل مدير الإدارة أو الموارد البشرية أو التدريب.. إلخ؛ (د) المكان Place، وهي النسبة على مستوى الفروع بصرف النظر عن تحقيق النسبة على مستوى المملكة يشار إلى ذلك بالتخصص المكاني في تعليمات وزارة العمل.
ثامنا: يفترض أن تشمل الخطة برنامجا لتحصيل الرسوم في التأشيرات، وستخراج وتجديد رخص العمل والحذف والإضافة ورسوم صندوق الموارد البشرية والغرامات.. إلخ. ويفترض أن يحدد برنامج الرسوم مقدار قيمة تلك الرسوم ونسبة تزايدها المستقبلية لكي يتمكن المعنيون من تدبير أمورهم وحساب ذلك ضمن خططهم. ولو أخذنا صندوق تنمية الموارد البشرية كمثال فلابد أن يظهر عدد من الأسئلة. هل ستستمر آلية الصندوق كما هي عليه الآن؟ هل يمكن للصندوق الاستمرار في الدعم بالأسلوب الحالي؟ هل ستتوسع نشاطات الصندوق؟ هل تكفي إيرادات الصندوق السنوية حسب الرسوم الحالية للوفاء بالتزمات التدريب والتوظيف؟ أسئلة كثيرة لا تنتهي، خصوصا أن الصندوق يعتبر إحدى أهم الآليات لتحقيق طموحات وزارة العمل في مكافحة البطالة ورفع معدلات التوظيف.
تاسعا: على الرغم من توضيح الخطة الخمسية الثامنة أن القطاع الحكومي وصل إلى درجة التشبع، وتأكيدها الخصخصة ببيع بعض الأصول التي يمتلكها القطاع العام والتخصيص لكثير من الخدمات التي تؤدى للجمهور، والتطوير المؤسساتي والإداري، والحكومة الإليكترونية، إلا أن "الاستراتيجية المعروضة من وزارة العمل مستمرة في تبني أعمال وخلق مسؤوليات جديدة ذات نوعية وصبغة بيروقراطية تعجز مؤهلات وكفاءة العاملين وعددهم عن تنفيذها.. فلم تسعفنا "الاستراتيجية" بأمل أو حلم تخصيص خدمات مكاتب العمل أو تحسين الأداء أو زمن الانتقال إلى الخدمة الإليكترونية. خصوصا أن خدمات مكتب العمل مدفوعة الأجر. يذكر التقرير الإحصائي السنوي لوزارة العمل أن عدد موظفين وزارة العمل في عام 1425هـ 2220 موظفا، بميزانية قدرها (201.881.000)، بينما بلغت إيرادات الوزارة للعام نفسه، من رخص العمل وحدها، (543.314.600). في المقابل، يذكر الدكتور سعيد عبد الله الشيخ، كبير الاقتصاديين ـ البنك الأهلي في تقرير حديث نشرته الاقتصادية الأربعاء 26/11/1426هـ أنه يوجد أكثر من ( 585.000) منشأة نشطة منها (1.100) منشأة تزيد عمالتها على (500) عامل، (88.000) منشأة تزيد عمالتها على (20) عامل. وأن السنوات العشر من 1994م حتى عام 2004م تم إنشاء (23.554) سنويا أي بمعدل (65) منشأة يوميا. ومن المتوقع أن يصل عدد المنشآت إلى (615.000) في عام 2005م، بمعنى أنه مطلوب من كل موظف (بما في ذلك الوزير والوكلاء) أن يراقب ويتابع (277) مؤسسة بعمالتها ومدى التزامها وتقيدها بالأنظمة والتعليمات وبيئة العمل المناسبة. إصلاح وزارة العمل ومكاتبها المنتشرة في أنحاء المملكة تطوير مفهوم الخدمة التي تقدمها أمر ضروري ومهم جدا ويشكل من وجهة نظرنا أرضية صلبة لعلاقة الشراكة بين القطاع العام والخاص التي ينادي بها وزير العمل في كل مناسبة. الإصلاح لن يتم إلا بخصخصة مكاتب العمل والخدمات المقدمة، مهما كانت محاولات التطوير الإداري وذلك لأسباب عديدة يمكن طرحها في موضع آخر. ونقترح على وزير العمل والمهتمين بإعادة قراءة مقالة سليمان محمد الجريش التي نشرت في صحيفة الجزيرة، العدد 11555 تاريخ 29/ربيع الأول/ 1425هـ.
عاشرا: معروف أن الحد من الاستقدام هو وسيلة من وسائل خدمة السعودة، لكن يجب علينا أن نتذكر أن الإثنين: الاستقدام والسعودة، ولدا في رحم فكر وبيئة أمنية عندما كان مجلس القوى العاملة مرتبطا بوزارة الداخلية. بيد أن "الاستراتيجية" لم تذكر إمكانية فتح المجال أمام العمالة الوافدة المقيمة في البلاد عند الاقتراب أو الوصول إلى النسب المقبولة واعتبارهم مستثمرين أفرادا ينطبق عليهم جزء من أنظمة الاستثمار الأجنبي شريطة توظيف السعوديين وتتمكن عندها وزارة العمل من صبغ السعودة والاستقدام بصبغة اجتماعية / اقتصادية. لم تتمكن الاستراتيجية، أيضا، أن تسعفنا عما سيؤول إليه الحال في نظام الكفيل (السيئ الذكر). خصوصا أن المدة التي تغطيها "الاستراتيجية" طويلة نسبيا بحيث يمكن خلق مرونة وتسارع في المنشآت الصغيرة تخدم غايات المواطن والمقيم. النظر إلى المستقبل بعين الماضي أو الحاضر يخلق إشكاليات عديدة من أضرها التقهقر. ولذا جاء تعبير "المستقبل الآتي" لمزيد من الإبداع والابتكار. فاستيعاب حقبة تمتد خمسة وعشرين عاما بما في كل ذلك الزمن من تسارع أحداث وتقلب تيارات وتغير مفاهيم وتبدل قناعات وتزايد حاجات وتضخم سكان وتعاقب أجيال وتنافر في الآراء والأهواء أمر يحتاج إلى خيال علمي خصب. حيث إن إشكالية التخطيط بعيد المدى تزداد بنسب الثابت والمتغير في عناصر كثيرة. وبقدر طول المدة التي تغطيها الاستراتيجية بقدر ما يتطلب التخطيط قدرة على الاستقراء واستشراف المستقبل.
الخلاصة
نعترف أن فكرة وضع خطة عمل أو خريطة طريق أو حتى استراتيجية هي فكرة صائبة تساعد الجميع على تبين المستقبل. كما أن فكرة عرض الخطة أو الاستراتيجية على الجمهور ومناقشتها أمر محبب ونفتقده. إذ يساعد التفكير في العلن أو بصوت مسموع على زيادة درجة الشفافية المطلوبة من الحكومة أو أي من الإدارات التنفيذية التي ستسهم حتما في تقوية العلاقة مع المجتمع بكل أشكاله وفئاته.
أما الاستراتيجية التي تم عرضها فتحتاج إلى أكثر من إعادة نظر. ويمكن تصميم خطة عمل تنفيذية تتخذ من خطة التنمية الثامنة مسارا لها. ويجدر بنا أن نذكر بمقولة مشهورة للملك عبد العزيز (يرحمه الله)، تحمل وعد من المؤسس حيث يقول: " ستنعمون برفاهية هي أكبر بكثير مما كان عليه آباؤكم وأجدادكم". وتؤكد الخطة الخمسية الثامنة ذلك بالتشديد على أن الإنسان هو المحور والغاية المنشودة خلف كل الجهود التي تقوم بها الدولة. كما أن الدكتور عبد الواحد الحميد في كتابه "السعودة والطوفان" قد أفرد فصلا كاملا بعنوان " الإنسان أولا" يؤكد فيه: "أن الإنسان هو أساس التقدم في أي مجتمع". إذن، نتفق جميعا على أن المواطن هو المعني والهدف من كل ما يجري، وهو المحور الذي "تدندن" حوله الدول والحكومات والوزارات، فإذا لم تنعكس تلك الجهود على رفاه الإنسان وحفظ كرامته وتذليل السبل أمامه للوصول إلى أعلى الدرجات وأحسن المستويات فهذا يعني أن هناك خطأ ما في التفكير، أو التخطيط أو التنفيذ.
إيجاد فرص العمل المناسبة لرفع المستوى المعيشي للمواطن هو "قضية القضايا" و"أم الاستراتيجيات" وما عدا ذلك هو طحن في الهواء. ولذا تتحتم دراسة وتحليل الظواهر الثقافية والاجتماعية والمجتمعية والاقتصادية والظروف المحلية والإقليمية والدولية من المسؤولين في الحكومة لكي يتم توجيه المواطن وتثقيفه وتوعيته نحو الرقي والرفاهية. ومن الأفضل والمنطقي ألا يكون لدى وزارة العمل خطة أو استراتيجية على أن يكون لها مسمى استراتيجية غامضة ومشوشة تزيد الطين بلة ولا تعدو كونها (برستيج إداري) لا يغني من جوع ولا يوظف من بطالة.
أخيرا، هل يمكن لمقولة المؤسس أن تكون الرؤية التي تدبج بها استراتيجية الوطن بعيدة المدى وتعمل عليها وزارة العمل ويعمل على تحقيقها كل مسؤول لإبقاء وعد المؤسس حيا؟
أما استراتيجية التوظيف كما سمتها وزارة العمل فيمكن أن تحصل على نقاط أكثر إذا ما تم تدارك عدد من القضايا الرئيسة، بمعنى أن أمامها فرصا قادمة، فإن رسبت الاستراتيجية في الدور الأول فما زال هناك دور ثان وثالث ورابع شريطة أن يشرك وزير العمل مع الاقتصاديين وعدد من الخبراء، وألا يسلم وزير العمل "دقن" الاستراتيجية أو خطة العمل للاقتصاديين وحدهم، وهو الذي طالما استشهد بتجربة أحد رؤساء الولايات المتحدة مع الاقتصاديين. في الختام، يذكر غازي القصيبي في نهاية الفصل الثاني من كتابه الشيق (التنمية .. الأسئلة الكبرى) "والعالم الثالث .. يوشك أن يحول وزارات التخطيط فيه إلى "مراكز تمارين نظرية"! ونأمل ألا يتم ذلك.
*باحث سعودي