تايوان النموذج العملي للاستفادة من العولمة

تايوان النموذج العملي للاستفادة من العولمة

تبدو تايوان في السنوات الماضية عاقدة العزم على تطبيق طرق جديدة لبرنامج الاقتصاد الموسّع وقامت تايوان في سبيل ذلك بتوجيه جزء كبير من المهن العاملة لديها، ومئات الآلاف من المواطنين إلى الصين إضافة إلى السماح بتدفق كبير لرأسمال ضخم في اتجاه بكين.
هناك عند بوابة تايبيه تجد مجمعين ضخمين لبرمجيات النانكانج ومقرات نحو 230 شركة استخدمت في بنائها طرز معمارية مختلفة من حديد أو خرسانة أو زجاج مثل شركة إنفينيون، وفيليبس، وآي بي إم، وسوني. المكاتب كلها مشغولة، والمختبرات محجوزة. حيث توجد أقسام البحوث والتطوير . ويبلغ حجم التوظيف هنا نحو 13 ألف باحث ومطوّر في قطاعات البرمجيات، والعلوم التطبيقية وتكنولوجيا النانو وتعني علم وتكنولوجيا بناء الدوائر والقطع الإلكترونية من الجزيئات والذرات المنفردة.
ومع نهاية العقد الحالي يمكن أن تتضاعف هذه القطاعات حيث من المقرر بناء مجمع ثالث فيما يتم التخطيط من الآن لبناء آخر رابع. ويبلغ حجم الاستثمارات الإجمالي عدة مليارات من الدولارات.
وتقول بولي لين، إحدى مديرات المشروع الجديد: "هذا هو تجاوبنا مع العولمة" وبالفعل تنبّأ صندوق النقد والبنك الدوليين بحدوث نمو في إجمالي الناتج المحلي في تايوان من 3.4 إلى 4.2 في المائة خلال فترة قصيرة. وفي الحقيقة فإن معدلات البطالة في تايوان قد انخفضت وتبدد خطر التضخم.
وخلال النصف الثاني من العقد الماضي توجه نحو مليون تايواني صوب الصين كما قامت نحو 70 ألف شركة بتأسيس مصانع لها هناك. ويقول ديفيد هانونج من مجلس الشؤون البلدية في تايبيه أن حجم الاستثمارات هناك وفق المؤشرات الرسمية بلغ نحو 40 مليار يورو، بينما تشير التقديرات غير الرسمية إلى ضعف هذا الرقم.
ويقول هاسيه فا دا، من مجلس التخطيط الاقتصادي إن أكثر من نصف الاستثمارات الخارجية التايوانية موجهة إلى الصين لكن الرئيس التايواني شين شو بيان قال في تموز (يوليو) الماضي إن هذا كثير, موضحا نيته في بذل الجهود لكبح هذا التوجه نحو الصين.
ويخدم هذا توجه الرئيس شين في رغبته بإعلان استقلال تايوان عن الصين. أمّا ينج جو، رئيس حزب المعارضة المحافظ، فيقول إن الحكومة عليها أن تعترف بالحقائق الاقتصادية وهو ما يؤكده رئيس بلدية العاصمة تايبيه الذي ينادي بالحفاظ على الوضع الفعلي ضمن العلاقات الصينية.
وتعتبر بكين أن أي إعلان للاستقلال عنها من جانب تايوان بمثابة إعلان للحرب ومحاولة لتفتيت وحدة البلاد. وقام النظام الشيوعي في بكين بالفعل بتوجيه آلاف الصواريخ في اتجاه الجزيرة تحسبا لهذا السيناريو . ولكن رغم كل هذا فإن تايوان نجحت ومنذ عقود في التخلص من لقب "جمهورية الصين" بحسب ما يقول رئيس البلدية مضيفا أن حديث الرئيس حول إعلان الاستقلال غير ممكنة من الناحية العملية.
وحسب ما ورد عن مايكل شيز، وكيفين بولبيتير، وجيمس مولفينون، في دراسة لمؤسسة راند كورب البحثية في كاليفورنيا فإنه وبعيدا عن التوترات السياسية يتزايد حجم التجارة والاستثمارات التايوانية في الصين بشكل كبير وواليوم تُعتبر الصين منطقة جذب تستقطب نحو 37 في المائة من الحجم الإجمالي للتصدير من تايوان. وتم تزويد الصين في تشرين الأول (أكتوبر) بقيمة من البضائع بلغت نحو 5.7 مليار يورو. ونحو 25 في المائة من تلك النسبة تُعد زيادة على قيمة الفترة نفسها من العام الماضي.
وتكمن الأسباب وراء ذلك في العلاقات الوطيدة في قطاع صناعة تكنولوجيا المعلومات التي تقوم منذ بداية التسعينيات، حيث بدأت الشركات التايوانية عالية التقنية في ترسيخ إنتاج العمل المكثّف في الصين. وعقب نهاية الحرب الباردة، أرادت تلك الشركات الاستفادة من فرص قطاعات العمل الدولية الجديدة بهدف الحفاظ على موقعها ضمن المنافسة العالمية.
وفي فترة السبعينيات، ارتفع معدّل الأجر الاسمي في تايوان بنحو 14 في المائة سنوياً، وزاد حجم الإنتاجية بنحو 7 في المائة فقط حسب ما جاء عن مؤشرات مؤسسة برووكينج، مما قلّص من هامش الربح.
وفي فترة الثمانينيات ارتفعت العملة ارتفاعاً ملحوظاً في قيمتها وبحثت الشركات المصدّرة عن مخرج لها فقصدت الصين وهي الدولة ذات الأجور المتدنية.
وفي عام 1990 أزاحت تايبيه أولى العقبات الحقيقية أمام انتقال الشركات إلى الصين التي كان ينظر إليها على أنها دولة معادية. وقامت الصين من جانبها بفتح ميناءي، إكسيامن، وفوزو للمستثمرين الأجانب، ثم ألحقتهما بموانئ شينزين، وجوانجدونج، وشنجهاي. وهناك اليوم جميع متطلبات قطاع التكنولوجيا الحديثة الخاصة بتايوان.
وتبحث شركات مثل شركة آيسر، Acer لتصنيع الكمبيوتر وبنك Benq لتصنيع الهواتف المحمولة وشركة TSMC لتصنيع أشباه المواصلات تبحث جميعها عن فرص لزيادة أرباحها من خلال أنشطتها في الصين. كما أنهم يبحثون لا لتثبيت أقدامهم فقط بل زيادة حضورهم في السوق الصينية.
ويقول شيفير لي رئيس شركة بِنك أن شركته أمنت حتى الآن نحو ثلثي إيرادها من خلال كونها منتجاً تعاقدياً، حيث تتحدى شركتي نوكيا، وموتورولا في الحصول على عدد أكبر من الزبائن. ومع نهاية العقد تريد أن تضاعف حصة السوق إلى 10 في المائة وأن تجعل من نفسها علامة السوق التجارية. ولهذا عملت شركة بنك على ضم فرع الهواتف الخلوية من شركة سيمينز.
ومنذ فترة من الزمن، لا تقوم الشركات التايوانية على العلامات التجارية، بل على تخفيض تكاليف الإنتاجية حسب توضيحات أندي إيكسي، من مورجان ستانلي لتزيد من ربحها. وفي السبعينيات بدأت تلك الشركات بضم عقود تصنيع لشركات من الغرب، أولاً في الأحذية الرياضية، ومن ثم أجهزة الحواسب الشخصية (الكمبيوتر) حيث بلغت نسبة الأجزاء المصنعة في تايوان 80 في المائة من مكونات أجهزة الحواسب المحمولة التابعة لشركتي أبل الأمريكية، أو توشيبا اليابانية. ومع هذه القفزة التايوانية تتراجع حصة الصين من المشاركة في التصنيع العالمي.
وتزيد هذه الشركات من قوة قطاعاتها، وتقود التسويق بتقدّمٍ واضح. وتحاول الحكومة في تايبيه موازنة وتعديل العمل والتمويل بشكل جديد. وحسب تقديرات المحللين من جولدمان زاكس، فإن تايوان تعتبر سوق تشغيل مرنة، إذ حقق ذلك في الماضي الكثير من المنافع الكبرى في عالم تنافس الأسعار. ويُعتبر العمل البسيط، قياساً مع التكاليف في الصين، باهظ التكلفة في تايوان. ولهذا، من المهم البدء بالمرحلة التالية في طريق قيادة تحقيق القيمة، بينما تتبع العديد من الشركات استراتيجية العلامة التجارية، إذ لا يُعتبر الموظفون مجرّد عامل للتكلفة، بل مصدراً ثميناً للإنتاج.
وبدأت تايوان منذ نحو عشرة أعوام في تنفيذ خطة إعادة هيكلة القطاع التعليمي، وارتفع عدد الجامعات، وأصبح التدريب أكثر تحرراً، وتعجّ الشركات الآن بالباحثين.
ومن جانب التمويل، يتم فرض إعادة هيكلة البنوك. وتمرّ المؤسسات في الوقت الراهن، بناء على أقوال هاسيغ فا دا، من مجلس التخطيط الاقتصادي، في المرحلة الثانية لإعادة التوجيه الحديثة.
وفي أول فترة من المرحلة الأولى، تمكّنت المؤسسات المالية من خفض مشكلة القروض من 8 إلى 3 في المائة من قيمة الاقتراض المحددة. وفي الجزء الثاني تتصارع حول اندماجات القطاعات. وفي العام المقبل، يمكن أن يتشعّب عدد بنوك الدولة إلى ستة، وعدد الشركات التمويلية القابضة إلى سبعة. ويحمل البنك التعاوني التايواني على نفسه مشقّة البداية، إذ قام بشراء بنك المزارعين في أيار (مايو) الماضي، وسيتفوّق ليصبح رائد القطاع في الجزيرة. والهدف من إعادة هيكلة البنوك هو الصمود أمام منافسة قوية خلال ثلاثة أعوام.
وعلى تايوان أن تطوّر نفسها لتكون مركز الخدمات الإنتاجية والبحوث، حسبما ورد عن رئيس حزب المعارضة. ويريد رئيس بلدية تايبيه، أن يجعل من مدينته "نقطة التقاء في منطقة شرق آسيا". ولهذا كان من الواجب إلغاء جميع الحواجز على التجارة مع الصين، مثل ربط المطارات، وخطوط الهاتف، والتجارة. ويكرّس الرئيس شين نفسه لتحويل البنية المحلية، حيث أنشأت الحكومة منذ السبعينيات عشرات الحقول المهنية، وعملت على التقدّم بجعل هذه الدولة صناعية، حيث تمتلك اليوم مجمعات علمية.
وحسب بيانات عن دائرة التخطيط الاقتصادي، من المفترض حتى عام 2008 وضع المشروع البالغة تكلفته المليارات تحت التطوير الخاص بقطاع العلم البحثي المكثّف: لقد كان هذا هو التطبيق العملي الذي نفذته تايوان لتوجهات العولمة.
وتمثل تايوان قصة زاخرة بالأحداث فقد استوطنت الجزيرة من قبل مواطني المالايو، وفي عام 1590 وصل أو ل بحّار برتغالي إلى سواحل الجزيرة حيث استوطن البرتغاليون المناطق الشمالية وأطلقوا على الجزيرة اسم فورموزا. أما في الجنوب فقد أسس الهولنديون بعد هذا التاريخ بنحو أربعين عاما تقريبا شركة الهند الشرقية . ومع تولي أسرة مينج الحكم في الصين عام 1644 فر مئات الآلاف من الصينيين إلى الجزيرة للبحث عن الأمان قبل أن يصبحوا لاحقا منافسين تجاريين للأوروبيين، وحظوا في النهاية بالسلطة على مدى 200 عامٍ لاحقة. وفي عام 1895 خسر الصينيون حربا اضطروا بعدها للانسحاب من الجزيرة ليحتلها اليابانيون المنتصرون لكنهم لم يتمكنوا من البقاء كثيرا لاسيما بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية. حينها عاد الصينيون إلى الواجهة والتف الوطنيون حول زعيمهم تشيانج كاي تشيك الذي فر إلى الجزيرة من الشيوعيون في بكين بقيادة ماو تسي تونج وحكم الجنرال كاي تشك الجزيرة بقبضة حديدية حتى السبعينيات رفضت التنازل أو الخضوع للصين الكبير وذلك بقوة ودعم مادي ضخم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. أما في الثمانينيات بدأت عملية الديمقراطية في تايوان.
ومنذ ذلك الحين تظهر تايوان كنموذج مثالي للتطوير السياسي والاقتصادي لجميع دول المنطقة.

الأكثر قراءة