المعونات الخارجية تؤذي فقراء الدول النامية
أعلن المجتمع الدولي أخيراعن إلغاء ديون عدد من الدول النامية الفقيرة التي تبلغ نحو 55 مليار دولار مستحقة الدفع على 38 دولة تضم أعداداً كبيرة من الشعوب التي تعاني من الفقر المدقع لصالح البنك الدولي، وبنك التنمية الإفريقي، وصندوق النقد الدولي.
وإلى جانب ما أحدثته هذه الخطوة من سعادة كبيرة، فإنها جذبت الانتباه إلي الظروف الحالية التي تعرقل نجاح الجهود الكبيرة والشاملة لتقديم معونات اقتصادية تصب في صالح إحداث تنمية في هذه الدول خلال العقد الماضي حيث تعثرت تلك الجهود في العديد من الحالات، ولم تحقق النجاح المنشود ولو كانت القضية تتوقف فقط عند حد فوائد الديون الخارجية إذن لهان الأمر ولتمكنت الدول المدينة من ضخ الأموال في أسواق المال العالمية.
لقد بذلت الدول الصناعية الغنية ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، جهوداً لمساعدة الدول الفقيرة في آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية في توفير حياة رغده لا تقل عن مستوى المعيشة الموجود في
دول أمريكا الشمالية وأوروبا ولتضييق الفجوة بين الطرفين.
إلا أن هذه الجهود لم تكلل بالنجاح في كثير من الحالات وذلك لأن سياسات التنمية, وعلى الرغم من إجراء تعديلات كثيرة ومتعاقبة بها, لم تنجح في مساعدة الدول الفقيرة في تحقيق معدل نمو مرتفع ومستمر.
ويوافق الجميع في المنتديات الاقتصادية, وعلي الرغم من كل الاختلافات والتباينات في الآراء ووجهات النظر, على أن دحر الفقر لا يتأتى إلا من خلال تحقيق مزيد من النمو الاقتصادي. وهذا ما عبر عنه قبل بضع سنوات ويليام إيستيرلي أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة نيويورك والموظّف لمدة طويلة في البنك الدولي.
ويقول ويليام إيستيرلي إن خبراء الاقتصاد عبروا في مرات كثيرة وخلال الـ 50 عاما الماضية أن الجواب الشافي لمرض لفقر العضال يتمثل في تحقيق المزيد من النمو ولم تفلح أي من الحلول السحرية الأخرى في علاج قضية الفقر.
وللتدليل على ذلك نجد أن المساعدات الاقتصادية تهدف في الأصل إلى المساهمة في تشجيع ضخ الاستثمارات الرأسمالية في ماكينة السوق لإحداث التنمية المطلوبة. ومن الناحية الظاهرية نجحت مساعدات التنمية في سد الهوة بين إجمالي الادخار المحلي، وقيمة الادخار الضروري لتحريك الاستثمارات.
و لكن يجب علينا أن ندرك أن الأمر لا يتعلق فقط بمجرد خلق آليات إضافية، بل يكمن في التقدّم التقني لمصادر النمو والانتعاش. ويعزو العديد من المحللين فشل سياسات التنمية الاقتصادية إلى سلسلة من الأخطاء في الاستراتيجيات المتبعة ومنها الأخطاء في سياسة الاستثمارات، إضافة إلي الفشل في ضبط التزايد في معدلات المواليد.
وحاول كل من روجهورام راجان، وأرفيند سوبرمانيان، من صندوق النقد الدولي تقديم تفسير لذلك الفشل منطلقين في ذلك من نقطة البحث عن إجابة لهذا السؤال : ما هي أسباب ضعف التأثير بعيد المدى لمساعدات التنمية الاقتصادية حتى لو كانت الحكومات المعنية تتبع سياسات حكيمة وعاقلة ؟
ومن خلال تحليل كثير من البيانات اكتشف الباحثان أن المساعدات الاقتصادية لا تفشل فقط في تحقيق الكثير من أهدافها المرجوة ، بل إنها ساهمت أيضا في إحداث أضرار جهود ومحاولات تعزيز قوة النمو الاقتصادي. بعدها تبني سوبرمانيان وراجان - وهو يعمل مديرا اقتصاديا في صندوق النقد الدولي- تبنيا النظرية التالية:
حيث إن تدفق رأس المال الأجنبي على شكل مساعدات مالية رسمية يؤدي إلى الإضرار بالقدرة التنافسية للدول الفقيرة، فإن هذا يؤدي إلى ارتفاع القيمة الخارجية لبضائعها.
وعلي هذا الأساس تتحول القضية إلي ما يعرف في علم الاقتصاد بظاهرة "المرض الهولندي"،هي تحدث في حالة حدوث تدفق مفاجئ للأموال على إحدى الدول، إما نتيجة نجاح تصديري غير متوقّع، وإما على شكل مساعدات تنمية رسمية، حينها يرتفع معدّل الأسعار الإجمالي، وبالتالي يؤدي إلى غلاء البضائع التجارية. وهذه الظاهرة لوحظت في هولندا في ستينيات القرن الماضي بعد أن اكتشف فيها الغاز الطبيعي.
ويقول سوبرمانيان وراجان إن مساعدات التنمية ترفع سعر تبادل الصرف الاسمي في الأسواق التي تتبنى نظام التبادل النقدي الحر، وبهذا يلحق ضرر بالقدرة التنافسية للاقتصاد التصديري إذا لم يحدث خفض في الأجور في هذا القطاع. أما في حالة الأسواق التي تتبنى نظام التبادل النقدي الثابت فإن المساعدات الاقتصادية تؤدي إلي رفع أسعار المصادر الشحيحة مثل القوى العاملة المؤهلة، وتؤدي كذلك إلي إحداث خسارة في اقتصاد التصدير، وكل فروع الاقتصاد التي تعتمد على العمالة الكثيفة. ويشير الباحثان إلى احتمال اختلاف القنوات الاقتصادية التي تؤدي إلي هذه النتيجة لكن المحصلة في النهاية واحدة ألا وهي ارتفاع قيمة سعر تبادل الصرف الفعلية.
و لا تعني النتيجة التي وصل إليها راجان، وسوبرمانيان أن مساعدات التنمية الاقتصادية تشكل ضررا بشكل عام، بل إنها تؤكد أن تلك المساوئ لا يمكن أن تضاهي بما تحققه مساعدات التنمية من فوائد ولكن الدراسة تشير وبوضوح إلي أن حكومات الدول النامية
عليها على الأقل أن تحاول إنفاق تلك الأموال بطريقة تقلل من مخاطر تراجع القدرة التنافسية.