المحــراب الإســلامي عبـادة وفـن معمـاري وزخـرفي
الحديث عن المسجد يجعلنا نتناول المحـراب كأحد الأجزاء الرئيسة فيه, وهو في اللغة الموضع العالي وصدر البيت وأكرم مواضعه وأشرف المجالس، وفي لسان العرب لابن منظور"المحاريب صدور المجالس ومنه محراب المسجد والمحراب القبلة ومحراب المسجد أيضاً صدره وأشرف موضع فيـه".
وقد وردت كلمة محراب في القرآن الكريم بمعنى المكان العالي المكرم في المنزل: "وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب", كما أشارت لفظة محراب إلى الحجر أو الصومعة التي يقوم فيها المتعبد بأداء شعائر الصلاة ومناجاة الله والتقرب إليه في موضعين من القرآن الكريم:
1- الآية11 من سورة مريم:" فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا بكرة وعشياً".
2- الآية39 من سورة آل عمران :"فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبيـاً من الصالحين".
وتستخدم كلمة المحراب بالنسبة للمساجد كدلالة على العلامة التي تعين اتجاه أقدس مكان عند المسلمين يتجهون إليه في صلاتهم وسواء كانت هذه العلامة على هيئة رسم مسطح أو غائر أو بارز فهي مجرد رمز يعين اتجاه بيت الله الحرام وهو الكعبة.
والمحاريب الإسلامية على نوعين، فمنها المحاريب المسطحة وغالباً ما تشكل من مادة الجص على حائط القبلة، أو بدن إحدى دعاماتهـا، وهناك أيضاً المحاريب المجوفة التي تتخـذ هيئة بنائية وكياناً معمارياً.
المحـاريب المجـوفة
ولا يعرف على وجه التعيين تاريخ ومكان أول محراب مجوف في المساجد الإسلامية. وأغلب الظن أن مسجد الرسول في المدينة كان مزوداً بمحراب، وكذلك مسجد قباء في عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم, كما يستفاد من بقاء حائط القبلة الأولى في مكانة بعد تحويل القبلة في مسجد المدينة وما ذكر عن أن رسول الله, صلى الله عليه وسلم, حين أسس مسجد قباء وضع حجراً في قبلته، ثم جاء أبو بكر بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه جنب حجر أبي بكر ثم أخذ الناس في البنيان. وفي هذا احتمال كبير أن لفظة القبلة تعني المحراب، لا جدار القبلة فحسب كما يظن لأول وهلة.
ويبدو أن محراب مسجد المدينة كان مجوفـاً حيث تقول الروايات التاريخية بشأن عملية البناء إن المسلمين صفوا النخل قبلة له، وجعلوا عضادتيه من حجارة، والعضادة تعني جانب فجوة أو تجويف مما يعزز الظن بأن المقصود بذلك هو محراب مجوف.
كما ينسب بنـاء المحراب المجوف إلى عمارة مسلمة بن مخلد في جامع عمرو بن العاص في فسطاط مصر عام (53هـ/673م), أي قبل تجديد المسجد النبوي في عهد الوليد بن عبد الملك بنحو 53 عـاماً.
أما من الناحية الأثرية فإن أقـدم محراب مجوف يوجد في الضلع الجنوبي من المثمن الخارجي لقبة الصخرة في القدس الشريف، ويعود عهد تشييدها إلى خلافة عبد الملك بن مروان (72هـ/691م).
وتشير بقايا العمائر الإسلامية في القرنين الأول والثاني للهجرة إلى أن المسلمين استعملوا المحاريب المجوفة ذات المسقط المتعامد الأضلاع, خاصة في شرق العالم الإسلامي خلال العصر العباسي، كما في محراب مسجد قصر الأخيضر ومحراب أقدم مسجد باقٍ على أرض فارس ويعرف باسم " طريق خانه" وينسب إلى النصف الثاني من القرن الثاني الهجري (8 ميلادي). بيد أن الغلبة كانت للمحراب المجوف ذي المسقط نصف الدائري الذي نجده بكثرة في العمائر الأموية كما في المسجد الأموي في دمشق، وجامع قصر الحلابات، ومسجد خان الزبيب ، ومسجد أم الوليد، ومحراب المسجد الصغير في كل من قصر المشتى وقصر الطوبة، وجميعها تقع في منطقة الشـام.
وسرعان ما انتشر هذا النوع من المحاريب المجوفة في بناء المساجد في شرق العالم الإسلامي وغربه على حد سـواء.
والحقيقة أن المعمار المسلم اختار هذه الهيئة المجوفـة للمحراب لغرضين رئيسين غير تعيين اتجاه القبلة، ألا وهما توفير صف للمصلين في ظلة القبلة كان من الممكن أن يشغله الإمام، ثم توظيف تجويف المحراب لتضخيم صوت الإمام ليبلغ المصلين في الصفوف الخلفية في وقت لم تكن مكبرات الصوت قد عرفت فيه على أي نحـو.
محـاريب جصيـة
أما المـواد التي غشيت بهـا تجاويف المحاريب فهي شديدة التنـوع ولعل أقدمها الجص والرخام.
ومن أمثلة المحاريب الجصية المحراب القـديم في جامع طولون في مصر (265هـ/879م) ويعد أقدم محراب في مصر, وذلك من ناحية جداره المجوف وعقد واجهته وما حولها من زخارف جصية فكلها تعود إلى فترة أحمد بن طـولون، ما عدا كسوة الطاقية التي من الخشب والتي زخرفت بالألـوان فهي من أعمال السلطان لاجين المملوكـي, وكذلك الشريط المزخرف بالفسيفساء والكسوة من الحشوات والأشرطة الرخامية التي تغطي سـطح تجويف المحراب.
وفي هـذا الجامـع خمسة من المحاريب الجصية المسطحة يعود بعضها إلى العصر الفاطمي والبعض الآخر صنع في العصر المملوكي.