هل دخل النظام الرأسمالي مرحلة "الترقيع" مع غياب البديل الجاهز؟

هل دخل النظام الرأسمالي مرحلة "الترقيع" مع غياب البديل الجاهز؟

تباينت آراء عدد من أستاذة ومختصين في البحوث العلمية في الاقتصاد الإسلامي حول الأزمة المالية التي تواجهها الأسواق العالمية وما يتبع هذه الأزمة من أزمات أخرى قد تكشفها الأيام المقبلة، ففي الوقت الذي أشار عدد منهم إلى صعوبة أن يحل الاقتصاد الإسلامي محل النظام الرأسمالي، مشيرين إلى أن الاقتصاد الإسلامي كجزء من منظومة شاملة لا يزال في مرحلته النظرية ولم يطبق بعد في شتى مجالاته.
واتفق عدد من المشاركين في ندوة "الاقتصادية" التي نظمت في مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي في كلية الاقتصاد والإدارة في جامعة الملك عبد العزيز في جدة على أن الأزمة في حد ذاتها أولاً أزمة فهم نظراً لصعوبة الإحاطة بما
يجري في الأسواق المالية حيث أضحت المعاملات والعقود والمنتجات المالية جد معقدة، إضافة إلى ظهور أزمة معلومات نظراً لصعوبة الحصول على كل المعطيات الخاصة بميزانية المؤسسات المالية العالمية، وصعوبة تشخيص أسباب الأزمة بصفة دقيقة، وبالتالي إعطاء العلاج المناسب، والتنبؤ بالتغيرات التي ستحدث مستقبلا. واستند المشاركون في الندوة إلى حديث كلود غيون GUEANT السكرتير العام للرئاسة الفرنسية والذراع الأيمن للرئيس نيكولا ساركوزي عن أن "لا أحد يعلم ماذا سيحدث حقيقة"، يفسر تحفظ بعض الباحثين الاقتصاديين الذين يقتصرون على تقديم بعض السيناريوهات الممكنة التي تتعلق مثلاً بمعدل الفائدة، التضخم، النمو الاقتصادي، والبطالة، مشيرين إلى أن اللجوء إلى تلك العبارات بمثابة مهدئات وقتية لن يطول أثرها، وهي لا تأخذ بعين الاعتبار آثار الأزمة النفسية، والصحية، والأخلاقية، والاجتماعية، التي ستنعكس سلبا على التنافسية الاقتصادية والتلاحم الاجتماعي".
وفي الوقت الذي أرجع البعض أسباب الأزمة إلى تزايد موجة التخصيص مما أضعف سيطرة الحكومة على القطاع الخاص ومنه القطاع المصرفي، وأخذت القيود الإدارية والرقابية التي كانت تمارسها الدولة في التفكك والانحلال، الأمر الذي ساعد على الانفلات الائتماني والتوسع في القروض والديون وفي خلق النقود الائتمانية شيوع البطاقات الائتمانية وتشجيع الاستهلاك، واتفق الباحثون على أن إفلاس أحد البنوك قد يجرّ وراءه إفلاسات متتالية، وقد تستطيع الدول تأخير انفراط العقد قليلاً، ولكن قد لا تستطيع أن تمنع انفراطه نهائياً، لأن حجم الأزمة صار أكبر منها. إلى التفاصيل:

تحدث في البداية الدكتور عبد الله قربان تركستاني مدير مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي عن الدور المحوري الذي تلعبه مراكز الأبحاث في مثل هذه الأزمات، وقال "إن مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي وغيره من المراكز المماثلة معنية بالأمر في هذا التوقيت بالذات من حيث تقديم بدائل نظرية وتطبيقية (جزئية أو كلية)، ودور مراكز الأبحاث نجده واضحا في كل مراحل الكارثة".

أسباب الأزمة المالية

لا شك في أن الأزمة الحالية يتحملها النظام الرأسمالي المسيطر على جميع مفاصل الاقتصاد في العالم. الدكتور رفيق المصري باحث في مركز الاقتصاد الإسلامي يقول "من المؤكد أن الأزمة المالية العالمية الراهنة يتحمل كِبْرها النظام الرأسمالي المهيمن على العالم بالقوة، ولا سيما الأمريكي منه، وقد انفجرت من خلال قطاعين مهمين هما قطاع البنوك، وقطاع البورصات، ويتجلى ذلك في قطاع البنوك من خلال أثر الفائدة في زيادة حجم الديون والتوسع في الإقراض، فالفائدة لو كانت غير موجودة فإن القروض تمنح فقط للاستهلاك الضروري، وتكون نوعاً من عمل البر، ومن ثم يكون حجمها محدوداً، لكن الفائدة عندما أباحها النظام الرأسمالي أصبحت القروض والديون تمنح للاستهلاك غير الضروري، بل للاستهلاك الترفي، كما أنها صارت تمنح للإنتاج، وراحت البنوك تتوسع في منح القروض بالاعتماد على أموالها (رأسمالها)، بالاعتماد أكثر على أموال المودعين، وأكثر من ذلك فإن البنوك اتجهت أخيراً إلى تمويل المضاربات والأنشطة غير المنتجة في البورصات، مع ما قد يترتب على ذلك من احتمال خسارة المدينين وإفلاسهم".
ويضيف المصري "أخذت هذه البنوك تتنافس فيما بينها على تعظيم إيراداتها وأرباحها، مع التحلل كلما أمكن من الضوابط والقيود المفروضة عليها من البنوك المركزية، ومع انهيار النظام الاشتراكي وانفراد النظام الرأسمالي بالهيمنة على العالم وتزايد موجة التخصيص ضعفت سيطرة الحكومة على القطاع الخاص ومنه القطاع المصرفي، وأخذت القيود الإدارية والرقابية التي كانت تمارسها الدولة في التفكك والانحلال، ومما ساعد على الانفلات الائتماني والتوسع في القروض والديون وفي خلق النقود الائتمانية شيوع البطاقات الائتمانية وتشجيع الاستهلاك، كما ساعد على ذلك الفساد الإداري لدى المديرين، مديري البنوك، إذ من الممكن تحت وطأة هذا الفساد أن تمنح البنوك قروضاً لذوي النفوذ لا يستحقونها، وقد لا يسددونها، وربما تمنح لهم بضمانات غير كافية، أو بضمانات يتم التلاعب بتقويمها، وقد يحصل مدير البنك في مقابل ذلك على رشوة، تزيد بصورة ملتوية في مقدار ما يحصل عليه من راتب، قد يكون خياليا أصلاً".
ويتابع رفيق "من خصائص البنوك في النظام الرأسمالي أنها ترفع الفائدة على المقترض كلما كان أقل يسراً وثراءً، وقد وجدت أنها إذا موَّلت شراء العقارات فإنها تستطيع أن تزيد معدلات الفائدة التي تحصل عليها ارتفاعاً، لأن صاحب العقار قد ترتفع القيمة الرأسمالية لعقاره فجأة ويحقق بذلك أرباحاً خيالية، لكن إذا ما حدث أن المدين لم يستطع بيع العقار بالثمن والزمن الذي كان يرجوه فإنه يتعثر في سداد القروض التي حصل عليها، وبذلك تتجمد أموال البنوك ويتعثر المدينون وتزداد الديون المشكوك فيها والديون المعدومة، الأمر الذي يعرض البنك للإفلاس، وبما أن البنوك والأعمال التجارية مترابطة فيما بينها فإن إفلاس أحد البنوك قد يجرّ وراءه إفلاسات متتالية، قد تستطيع الدولة تأخير انفراط العقد قليلاً، ولكن قد لا تستطيع أن تمنع انفراطه نهائياً، لأن حجم الأزمة صار أكبر منها، ومما يساعد على تفاقم هذه الأزمات أن العلماء، حتى في الدول الديمقراطية والليبرالية، لا يصدعون بالحقائق في وقتها، وإذا ذكروا الحقيقة لم يذكروها كلها، بل نصفها أو ربعها أو أقل، وقد يخافون ويؤخرون الكلام حتى تقع الكارثة، وإذا تكلموا اقتصدوا لسبب مشروع أو غير مشروع، إما لأنهم لا يحبون زيادة تأثير الأزمة بالعوامل النفسية، وإما لأنهم هم أنفسهم متورطون، ولا يحبون الكشف عن الحقائق".
من جهته، يرى الباحث الدكتور عبد الرزاق بلعباس أن أسباب الأزمة من الناحية المعرفية، حيث إن هذه الأزمة هي في حد ذاتها أولاً أزمة فهم نظراً لصعوبة الإحاطة بما يجري حقيقة في الأسواق المالية، حيث أضحت المعاملات والعقود والمنتجات المالية جد معقدة، ثانيا أزمة معلومات نظراً لصعوبة الحصول على كل المعطيات الخاصة بميزانيات المؤسسات المالية.
ويواصل بلعباس "هذا يدل على صعوبة تشخيص أسباب الأزمة بصفة دقيقة، وبالتالي إعطاء العلاج المناسب، والتنبؤ بالتغيرات التي ستحدث مستقبلا، وقد صرح كلود غيون GUEANT السكرتير العام للرئاسة الفرنسية والذراع الأيمن للرئيس نيكولا ساركوزي بأن "لا أحد يعلم ماذا سيحدث حقيقة"، وهذا يفسر تحفظ بعض الباحثين الاقتصاديين الذين يقتصرون على تقديم بعض السيناريوهات الممكنة التي تتعلق مثلاً بمعدل الفائدة، التضخم، النمو الاقتصادي، والبطالة، لذلك أرى أن الإجراءات المقترحة حتى الآن هي بمثابة مهدئات وقتية لن يطول أثرها، وهي لا تأخذ في عين الاعتبار آثار الأزمة النفسية، والصحية، والأخلاقية، والاجتماعية، التي ستنعكس سلبا على التنافسية الاقتصادية والتلاحم الاجتماعي".
ويكمل عبد الرزاق "بغض النظر عن الجوانب الفنية والقانونية المرتبطة بآليات سير الأسواق المالية الظاهرة والخفية، ومصداقية مؤشرات الأسواق المالية، ومعايير تصنيف المؤسسات المالية والرقابة عليها، لم يعد يخفى على العقلاء من المسلمين وغير المسلمين أن الربا والمضاربة أو المجازفة هما من أهم الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى قولين لمحللين فرنسيين: فقد كتب، فانسان بوفيس، المحرر الرئيس لصحيفة "شالنج" (تحديات) الاقتصادية في افتتاحية 11/9/2008 بعنوان "البابا أو القرآن" أنه في ظل الأزمة المالية الراهنة من الأفضل قراءة القرآن بدلاً من النصوص البابوية، لأن القرآن يحرم الربا بينما يبرر البابا الرأسمالية السائدة. ويرى أن تحريم الربا يعني أن "المال لا يستخدم إلا لتمويل الاقتصاد الحقيقي". ويضيف قائلا: "لو حاول القائمون على مصارفنا المتلهفون للربح تطبيق بعض مبادئ الشريعة لما وصلنا إلى هذه المرحلة"، كما كتب رولون لسكين، المحرر الرئيس لجريدة "لوجورنال دي فينانس" (صحيفة التمويلات) الأسبوعية في افتتاحية 25/9/2008 بعنوان "وال ستريت: ناضجة لتبني مبادئ الشريعة؟": "لو أن مسؤولينا الماليين يبحثون حقا عن محاصرة المضاربة، ليس هناك أسهل من تطبيق مبادئ الشريعة التي وضعت منذ القرن السابع حيث تمنع بيع الأصول غير المملوكة حقيقة والإقراض بفائدة، وتمنع بالخصوص المضاربة المضرة بالشركات وتؤكد على أن الوسيلة الوحيدة للثراء تكمن في المساهمة في تنمية الشركات وجني الثمار بالمشاركة في رأس المال".

بداية الأزمة

أما أسباب الأزمة من وجهة نظر الدكتور أحمد بلوافي الباحث في مركز الاقتصاد الإسلامي فهي أن النظام الرأسمالي بطبيعته غير مستقر، ومن ثم وجب التعامل معه على هذا الأساس، إضافة إلى أن هناك خللا أساسيا في النظام، وخللا في تطبيق السياسات النقدية والمالية الملائمة كسعر الفائدة، وسعر الصرف وغيرهما، وقد يرافق ذلك انعدام الشفافية والفساد والتلاعب في البيانات والقوائم المالية في إدارة المنشآت أو المؤسسات التي تكون المبعث الأولي للاضطراب. جل الكتابات والتحليلات تركز على هذا الجانب.
ويتابع بلوافي "من المعلوم أن السبب المباشر الأول الذي أشعل فتيل الأزمة هو التعثر الكبير الذي شهده قطاع الرهن العقاري في الولايات المتحدة بسبب تعثر الكثير من المقترضين من سداد ما عليهم من ديون مع ما رافق ذلك من انخفاض في قيمة العقار الذي هو محل تلك الديون، ولكن الأمر لم يقف عند حد هذا القطاع بل تحول إلى أزمة عالمية يعتبرها البعض أسوأ اضطراب عرفه العالم بعد أزمة الكساد الكبير في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن الماضي، ومن المعلوم أن عالم التمويل وأسواق المال شهد العديد من التطورات في شكل مبتكرات ومنتجات مالية وطرائق لتداولها وانتشارها على نطاق واسع، وقد اندرجت هذه التطورات تحت اسم الهندسة المالية FINANCIAL ENGINEERING، التي كان من أبرز نتائجها المشتقات المالية FINANCIAL DERIVATIVES، والتوريق أو التصكيك SECURITIZATION.
في السياق ذاته، يعلق الدكتور إبراهيم أبو العلا أستاذ الاقتصاد في جامعة الملك عبد العزيز بقوله "في تصوري أن أسباب تفاقم الأزمة المالية الحالية في أمريكا ترجع سياسات تحرير الأنظمة البنكية، وخفض معدلات الفائدة، حيث إن السياسات التي اتخذها بها مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) بقيادة رئيسه السابق ألن جرينسبان بعد تهاوي أسعار أسهم التقنية، شجعت مستويات الفائدة الحقيقية المنخفضة والسلبية أحياناً على انخفاض تكاليف الإقراض وأسهمت بشكل كبير في تكون فقاعة العقار في الولايات المتحدة في بداية الألفية".

هل الاقتصاد الإسلامي بديل عن الرأسمالية؟

يستهل قربان الحديث عن هذه النقطة بقوله "كان الحديث عن انهيار الاشتراكية وانتصار الرأسمالية عندما عمدت روسيا - جورباتشوف إلى الاستعانة بالسياسات الاقتصادية الرأسمالية - كالملكية الفردية - لإدارة اقتصادها المتهالك، وها هي الرأسمالية تستعين بالتأميم في محاولة لاحتواء اقتصادها المضطرب، فهل تعود الاشتراكية للحياة؟ ثم اعتمدت الرأسمالية بعض سياسات أو مبادئ الفكر الاقتصادي الإسلامي في إدارة الكارثة الحالية، كتخفيض سعر الفائدة إلى الصفر، أو اعتماد المشاركة في تمويل البنوك التجارية لإنقاذها من حافة الانهيار، فهل يعد هذا انتصاراً للاقتصاد الإسلامي ومؤسساته؟ هو نصر بدرجة النصر الذي قد نشعر به نحن المسلمين عند إبداء غير المسلم إعجابه بالطعام المقدم له في أحد مطاعم الحلال، فهو انتصار للاقتصاد الإسلامي ولكنه رمزي لا يتجاوز أن يعزز لدى المسلمين قناعتهم بدينهم في جانبه الاقتصادي، ولكنه ليس انتصاراً في ميدان العمل والتطبيق والإبداع الإنساني".
يتابع قربان "عندما انهارت الاشتراكية ارتمت في أحضان الرأسمالية التي استطاعت بمؤسساتها المتعددة والضخمة استيعابها وهي تربت على كتفها كما يربت الأخ على كتف أخيه العائد إليه بعد رحلة منيت بالفشل، فهل لدى المسلمين اليوم مؤسسات اقتصادية إسلامية الفكرة تستطيع أن تستوعب الرأسمالية؟ وهل لدى الرأسمالية الاستعداد النفسي لأن ترتمي في أحضان الاقتصاد الإسلامي؟ إن فرصة الاقتصاد الإسلامي مضاعفة الصعوبة مقارنة بالرأسمالية عندما استوعبت الاشتراكية، فهناك ممانعتان أمام الرأسمالية: الأولى الاعتراف بالفشل، والأخرى الاعتراف بالآخر، كما أن هناك عقبة كأداء أمام الاقتصاد الإسلامي وهي عدم اكتمال مؤسساته الاقتصادية على أرض الواقع وحاجاته الماسة إلى الكثير من المبدعين المتخصصين في الفقه والاقتصاد في آن واحد، ولا يمكن تجاوز هذه العقبات الثلاث إلا بمشروع حضاري متكامل أصيل في فكرته مبدع في مؤسساته قائم على الأرض كما هو على الورق".
ويؤكد قربان أن المسلمين قطعوا خطوات عديدة نحو هذا المشروع الحضاري في جانبه الاقتصادي، فدرجة الإيمان بالفكرة كافية تماماً والبدء في وضع بعض مؤسسات الاقتصاد تم وانطلق وهو القطاع المالي الإسلامي، لكن التحدي كبير أمام الاستمرار في تعزيز الفكرة وتطوير المزيد من المؤسسات وتصحيح القائم منها، كما أن من أهم مؤسسات الاقتصاد الإسلامي المراكز البحثية المستقلة وهي قليلة العدد، والقائم منها يعاني مجموعة تحديات من أهمها ضعف التواصل بينها وبين مؤسسات التطبيق للاقتصاد الإسلامي، واكتفاء هذه المؤسسات الأخيرة بإدارات بحثية خاصة بها بدلاً من التعاون مع مراكز البحث المستقلة، ومن التحديات الكبيرة التي تواجهها مراكز البحث في الاقتصاد الإسلامي قلة الباحثين المتخصصين المتميزين وشدة التنافس عليهم، ما يؤثر في أدائهم جميعاً (مراكز وباحثين) وهو تحد عظيم لعظم الحاجة إليهم في هذا الزمن.
بدوره يرى الباحث المصري أن الاقتصاد الإسلامي لا يزال غير جاهز ليحل محل النظام الرأسمالي في الوقت الراهن، ويعلق "يميل اليوم الكثير من المسلمين إلى أن الفرصة قد حانت لكي يحل الاقتصاد الإسلامي محل الاقتصاد الرأسمالي، وأن تحل البنوك الإسلامية محل البنوك الرأسمالية، لكن هذا الأمر لا يزال حلماً، ليس لأن الإسلام غير مرشح وغير مؤهل، بل لأن المسلمين غير مرشحين وغير مؤهلين، فهم ضعاف على أكثر من صعيد، وهناك فجوة كبيرة بينهم وبين غيرهم، وبينهم وبين إسلامهم كدين منزل، فالعقود الصورية التي انتشرت اليوم بفضل هيئات الرقابة الشرعية لم تفرِّق في الجوهر بين البنوك الإسلامية وغيرها، وهذه العقود الصورية هي جزء من الإسلام الصوري الذي يراد تكريسه في العالم، فإذا كان من الصعب القضاء على الدِّين، فقد يكون أقل صعوبة أن يفرغ الدين من حقيقته وجوهره".
ويتابع المصري "كل ما هو مستطاع الآن هو أن النظام الرأسمالي سيضطر رغم أنفه إلى إدخال جرعات من هذا النظام أو ذاك، لا لأنه على اقتناع بما يفعل، بل لأنه تحول من الاختيار إلى الاضطرار، ويريد أن يدخل في مناورات لاستعادة الثقة المفقودة، بحثاً عن البقاء في السدَّة، وانتظاراً لفرص أخرى تعود فيها الظروف أكثر مواتاة له، لكي يعيد الكرّة، ويعود إلى الخطأ والظلم والتوحش، إن موجات التخصيص العمياء، وبيع القطاع العام، ومحاولة التفلت من الرقابة والإشراف، والفساد الإداري، والترهل الإداري، والمغالاة في توليد النقود والقروض والديون وبطاقات الائتمان، ومضاربات البورصة ومخادعاتها، وخوف العلماء من الصدع بالحق في وقته، لم يكن كل هذا ليحدّ منه جميعاً إلا وقوع الكارثة، سوف يسعى النظام الرأسمالي، ولا سيما في غياب البديل الجاهز والمؤهل لأن يرقّع نفسه، أو لأن يجدد نفسه، كما فعل في أزمات سابقة".
في غضون ذلك، يقول الدكتور عبد الرزاق بلعباس أن التحليل العلمي الرصين يقتضي مقارنة ما يمكن مقارنته، والمشكلة هنا أن الاقتصاد الإسلامي كجزء من منظومة شاملة لا يزال في مرحلته النظرية ولم يطبق بعد في شتى مجالاته، أما الرأسمالية كما لا يخفى على الجميع مطبقة، ومن المعلوم أن المقارنة بين النظرية المحضة لنظام معين والممارسات الملموسة لنظام آخر تكون دائماً لصالح الثاني لأن الطبيعة تمقت الفراغ، فلا بد إذن من إنزال النموذج الاقتصادي الإسلامي إلى ساحة الواقع، لأن الواقع لا يتغير إلا بواقع أفضل وليس بأفعال مضادة أو ردود فعل".

هل النظام الرأسمالي على حافة الانهيار ؟

يؤكد ذلك الدكتور رفيق المصري بقوله "لا ريب أن النظام الرأسمالي، ولا سيما في نسخته الأمريكية، بات يعاني أمراضا خطيرة، وقد نبه عدد من علماء الرأسمالية إلى أن الفكر الاقتصادي الرأسمالي هو فكر ضال وظالم وغير أخلاقي، ولا سيما في مجال البنوك والبورصات وتوزيع الدخول والثروات، وبات الفساد ينخر فيه جسماً وروحاً، ولما كانت أمريكا سيدة العالم، فإنها تفرض على العالم ما لا يريده العالم، ولا تفرض هذا على دول العالم الثالث الضعيف فحسب، بل تفرضه حتى على دول العالم الأول القوي أيضاً، ويبدو أن السيد الأمريكي يمدّ رجليه بما يتعدى فراشه، فهو يستدين من جميع الأفراد والدول، ويتصرف الأمريكيون بهذه الديون وكأنها ملك لهم، لا يُطلب منهم سدادها، وإذا قاموا بتسديد الدين سددوه بدين أكبر منه ( الدين + الفائدة )، وجعلوا دولارهم العملة العالمية، هم يُصْدرونها وهم يَجنون أرباح إصدارها الكبيرة أيضاً، ويستأثرون بها دون غيرهم على المستوى العالمي، ويرى بعض العلماء أنها نوع من الجزية التي تدفعها الدول الأقل قوة إلى الدولة الأقوى، وقد يتلاعبون ويتحكمون بهذا الدولار من أجل تخفيض القيمة الحقيقية لما عليهم من ديون كثيرة تتمثل في السندات الأمريكية، فهم الكاسبون وغيرهم الخاسرون".
من جانبه، ينبه الدكتور عبد العظيم إصلاحي (باحث في المركز) إلى نقطة مهمة وهي أن الأزمة المالية الحالية كشفت عن التناقض والتضاد في النظام المالي الرأسمالي، ففي حالة أن أصحاب رأس المال ينتفعون ويربحون في هذا النظام فهم يرفضون أي تدخل من الحكومة، ويدعون أن المصلحة الذاتية تخدم المصلحة العامة، واليد الخفية تعمل في صالح الاقتصاد، ولكنهم سرعان ما يخسرون وتفشل المؤسسات الرأسمالية، وينادون ويحثون على التدخل الحكومي وإنقاذ النظام، كما هو حاصل اليوم، وقد أظهرت الأزمة المالية الحالية مصداقية النظام الاقتصادي الإسلامي، لأن الأسباب الرئيسة التي أدت إلى انهيار النظام المالي الرأسمالي مثل الربا والغرر الفاحش والميسر وبيع ما لم يملك والمشتقات المالية غير الحقيقية وغيرها، قد صكت أبوابها في الاقتصاد الإسلامي، ففي النظام الاقتصادي الإسلامي الرباني توجد آلية داخلية BUILT-IN PROVISION للاستقرار والاستدامة كما يخالف هذا النظام الحرية المطلقة في الأمور الاقتصادية، فما أصدق ما قيل "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".

التوصيات:

- اعتماد المزيد من الشفافية والوضوح في إبراز حقيقة ما حدث وتوضيح حقائق ومدلول الأدوات المالية التي تستحدث كل يوم.
- ربط النشاط المالي بالقطاع الحقيقي من الاقتصاد بعدم السماح للبنوك والمؤسسات المالية الأخرى بخلق النقود أو استحداث وسائل دفع كبطاقات الائتمان وجر الناس إليها بحبال الدعاية والإغراء لتقع في براثن الديون.
- إخضاع جميع العمليات والأنشطة المالية للمراقبة مع العمل على التنفيذ الفاعل والمستمر للقوانين والمعايير المحلية والدولية حتى يمكن تحديد "بؤر" المشكلات قبل وقوعها.
- إعادة النظر في النظام المالي القائم فكراً وممارسة.
- فحص دقيق وتشريح عميق للبورصات، ولا سيما من ناحية المضاربة ومن ناحية من يتمتعون بالمعلومات الداخلية (المطلعين، أو العارفين بالأسرار وبواطن الأمور).

الأكثر قراءة