طيبة: سوق السمك ... الكثير من رائحة التاريخ و أزمة الواقع

طيبة: سوق السمك ... الكثير من رائحة التاريخ و أزمة الواقع

في انتظار الدسم من الطعام تأتي الرائحة الشهية يحملها دخان الشواء من فوق جمر ينشره معلمو الكباب و الأوصال المتجاورون و المتنافسون ليغادر في رحلة قصيرة إلى أنوف الزبائن و المارة في سوق السمك أو " خان خليلي " المدينة المنورة.
خان الخليلي في القاهرة سوق الحميدية في دمشق و سوق السمك أو " المطباخة " في المدينة المنورة مناطق ثلاث تجمع بينها علاقات ثلاث أولها العراقة التاريخية حيث جميعها أسست أبان العهد العثماني و ثانيها علاقة مكانية حيث كلها تتوسط المدن الرابضة فيها و ثالثها أنها مقصد الزوار و السكان للطعام الشعبي عموما و لهواة مشاوي اللحم خصوصا .
في سوق السمك القابع في مدخل حي البحر بين أشهر شارعين في المدينة المنورة قباء و قربان جنوب الحرم النبوي تتوزع مطاعم الأسماك إلى جوار محال الكباب للحم الضأن و القعدان إلى جانب المحال المخصصة لوجبة الفطور الدسمة المكونة من مقادم و رؤوس خرفان و بالطبع محال الكبدة الطازجة و التي تفاخر جميعها برصيد قديم من معرفة الناس بها وبعراقة الصنعة .
قد تصاب بإحباط حين الدخول إلى مقدمة السوق التي تنتشر فيها محال طهي الأسماك إذ تتراءى لك الزيوت النباتية قابعة بأسى في قاع المقلاة الكبيرة المخصصة لقلي الأسماك و لونها يزداد حلوكا ليتحول إلى لون آخر غير اللون الذي تعرفه عن الزيت النباتي و هو أمر سيتكرر كثيرا في محال أخرى كما لو كان الأمر عرفا بين أهل هذه الصنعة قبله بإقتناع أهل هذا الهوى من الطعام .
سيكون الأمر أكثر تشجيعا بجوار محال الكباب المتجاورة و التي تنشر رائحة جاذبة في المكان و يفصل بينها و بين زبائنها ممرات في الشوارع الضيقة للسوق حيث يقدم الطعام على طاولات متراصة في جوانب الممرات او في الساحة الوسطى للسوق فيما يبقى الدخان المتصاعد ساحة الربط الوحيدة بين الزبون و المحل الذي اختاره ليصل معلم الكباب بدخان شوائه إلى أنف الزبون فينعشه و إلى عينه فيبكيها .
أسعار الشواء تبقى بسيطة مقارنة بمحال موزعة في جهات المدينة المنورة الأخرى إذ سعر الكباب أو الأوصال للفرد الواحد لا يزيد على عشرة ريالات فيما يؤكد أصحاب الصنعة ألاّ تهاون في اختيار أنواع اللحوم وجودتها حتى لا تتعرض " سمعة المحال الضاربة في القدم للتراجع " و هنا يشير صالح الهبوبي - صاحب أحد هذه المحال - إلى السر في ذلك لافتا إلى أن محله يستخدم لحم الحاشي الطازج يوميا بمعدل حاشى كل يوم ليقدم من خلاله وجبات الأوصال و الكباب موضحا أن العملية لن تكون مجدية في حال استخدام اللحم الضأني الا من خلال استخدام اللحوم المثلجة و هو ما يفعله الكثيرون بحسب الهبوبي.
رغم أن صالح الهبوبي ذا الأربعين عاما يفخر برصيد عائلي في الصنعة جاوز الـ 70 وأشرف على الـ 80 عاما إلا انه لا ينكر أن لدى السوق مشكلاته وأعباءه المتمثلة كما يقول بانعدام النظافة و تواضع حالها في أقل تقدير و هو أمر يرده إلى انقطاع المياه عن السوق لثلاثة أيام بدءا بالأربعاء و انتهاء بالجمعة و إلى انقطاع عادة حسنة كانت تقوم بها أجهزة الصرف الصحي و الصناعي تتمثل في تنظيف ممرات السوق و شطفها في كل أسبوع مرة الأمر الذي انقطع منذ مدة كما يؤكد الهبوبي .
أمر آخر يعيبه رواد السوق و أهل الصنعة فيه - كما يحلو لهم تسمية أنفسهم – و هو تجاور محال المشاوي التي تقدم الأوصال و الكباب ما يزيد من ضغط الدخان على الممرات الضيقة للسوق و هو أمر يطلب من خلاله العديدون ضرورة تنظيم البلدية له ما يجعل بين كل محل وآخر للشواء خمسة محال أخرى تقدم أنواعا أخرى من الطعام لا تشترط الشوي.
نقطة الضعف الكبيرة في سوق السمك المتمثلة في أنه لم ينل نصيبا وافرا من اسمه حيث محال السمك تتبارى في ضعف التقديم و سوء النظافة خلا القليل من المحال التي ما زالت تحافظ على رونق عال لاسمها التجاري عزاه الرواد و أهل الصنعة إلى غياب الرقابة من أجهزة تنظيمية أو من أجهزة تجارية تستطيع تقييم الخدمة المقدمة للزبون بطريقة تشبه على الأقل ما كان يقدم سابقا.
"شيخ الصنعة " اسم يتردد كثيرا في السوق العريقة ويستخدم كثيرا في تبرير ضعف الخدمة المقدمة لعدم وجوده حاليا كما كان في السابق إذ يؤكد بعض كبار السن مثل دخيل الحربي ألا أحد كان باستطاعته العمل في السوق أو حتى الوقوف للبيع فيه من دون أن يأخذ شهادة شيخ الصنعة بإجادته للصنعة التي هو بصددها و هو أمر يقارن الآن بعشرات الوجوة الجديدة من العمالة غير المدربة جيدا و التي تعمل في السوق العريق ذاته.
" ولد البلد " اسم هو الآخر يتردد كثيرا في هذه السوق حين تأخذ في السؤال عن ضعف المقدم من خدمات أو عن المستوى المتردي للنظافة يجيبك حينها حامد بهادر بسؤال آخر مفاده: كيف تريد من عامل من بلاد بعيده أتى فقط ليعمل عاما أو عامين يكسب خلالهما ما تيسر له مناصفة مع الصاحب الأصلي للمحل أن يهتم بشيء آخر سوى الربح و بأي شكل بعيدا عن الخدمة الجيدة و الاهتمام بالصحة و النظافة.
ويكمل بهادر : هذه الأمور التي تتشكل منها سمعة المحل من اهتمام بالنظافة و خدمة جيدة و تعامل راق يحتاج إليها فقط من ارتبط ارتباطا وثيقا بالبلد فهو في حاجة دائما إلى السمعة الجيدة و هنا يأتي الدور مضاعفا على ابن البلد في تقديم خدمة جيدة وعدم التعامل تجاريا مع من قد يسيئون إلى تاريخ عائلي حافل في صنعة ما أو في حرفة.
و حول ذلك يؤكد صالح الهبوبي أن ابن البلد و ابن الصنعة سيكون أقدر على المراقبة الذاتية حتى لا يخسر سمعته التي اكتسبها من أجيال فهو قبل خوفه من الرقابة التي تفرضها البلديات و الرقابة التي تمثلها الصحافة كما يقول فهو " يستحي من أهل البلد و زبائنه الذين عرفوه ".
و كذلك يظهر أن سوق السمك في المدينة المنورة هو خليط بين أعراف ما زالت راسخة بين أهل الصنعة و روادهم على مدى الأجيال و بين أنظمة مدنية حديثة تتم مراعاتها و تمثلها أنظمة البلديات على ما فيها من نواقص تحتاج إلى مراجعة و إتقان ...و عمل رقابي يحتاج فقط .... إلى إخلاص .
سوق السمك كما تسمى الآن كان تسمى في السابق بـ "المطباخة" أو "الطباخة" واختيرت لها أساسا الجهة الغربية من الحرم النبوي أو ما يسمى بباب المصري، وهي جهة قريبة من محطة السكة الحديد في العنبرية التي تصل المدينة المنورة بالشام و تركيا غير أنه انتقل بعد ذلك إلى الجهة الجنوبية ليكون متوسطا طريق الذاهبين من قباء إلى الحرم النبوي الشريف.

الأكثر قراءة