الخيوط.. أيادي "سلطان" البيضاء تنقلها للحضارية والإدارات الحكومية بمنأى عن تطويرها
الخيوط.. أيادي "سلطان" البيضاء تنقلها للحضارية والإدارات الحكومية بمنأى عن تطويرها
ليس بعيداً عن مكة المكرمة وبالتحديد في أطرافها الجنوبية الغربية حيث تقع قرية "الخيوط"، تطالعك 180 وحدة سكنية ضمن مشروع الإسكان الخيري الذي أقامته مؤسسة سلطان الخيرية على مستوى السعودية.
تلك الوحدات تم تجهيزها على أحدث الطرز العمرانية والتقنية التي تشبه في منظومتها وجمال رونقها المجمعات السكنية الفاخرة، كما هو الحال في معظم المجتمعات المتقدمة التي بدورها أسهمت في الارتقاء بالعقل البشري وتنمية مداركه.
بيد أنه ومن المفارقة بمكان حينما تتجلى لك ملامح المدينة السكنية الفاخرة الواقعة على أطراف الصحراء القاحلة، تستدرك وللوهلة الأولى غياباً جماعياً لرزمة من الخدمات الأساسية التي غابت عن تلك المدينة بفعل البيروقراطية وغياب حس المسؤولية الاجتماعية وانعدام العائد الاستثماري، كما انعدم وجود بعض متطلبات البنية التحتية الأساسية التي كان من الواجب على الجهات الحكومية والخاصة النظر إليها بعين ثاقبة، كي يتسنى لأكثر من ألفي شخص يقطنون تلك المدينة الحياة الكريمة الرغدة، في ظل ما وفرته مؤسسة سلطان الخيرية لها من إمكانات.
في هذه الجولة الميدانية على منطقة "الخيوط" التي أكرمتها الأيدي الحانية بالمساكن الخيرية التي تكفل الحياة الإنسانية لقاطنيها، نكشف عن هموم يتشارك فيها أهل المنطقة، وعن هاجس مجالسهم الذي تدور محاوره جميعها حول نقص الخدمات المتركزة في التعليم والصحة ووجود الأجهزة الأمنية التي تغيب حمايتها لسكانها من المتسللين والمخالفين لنظام الإقامة والعمل.
يتعرفون على الغريب من الوهلة الأولى
لم يتسن لي بعد الوقوف في أحد مواقف السيارات بجوار المسجد الجامع الواقع في متوسط المشروع، إلا وأنا أشاهد مجموعة كبيرة من الأطفال وسكان الحي يتجهون نحوي، وفي ملامحهم نظرات لم أستطع تفسيرها إلا بشيء واحد، فجميع الأنظار والشفاه ينطق لسان حالها بسؤال موحد " من هذا الغريب الذي يدخل مدينتنا في ساعة مبكرة جداً من إشراقة شمس هذا اليوم؟"، لم أنتظر طويلاُ لأترجل من مركبتي ولأقابلهم وأخبرهم بأنني مراسل صحافي وأتيت لأنقل عبر صحيفتي واقع حالهم، ولأتلمس احتياجاتهم بعد أن من الله عليهم وأكرمهم بأيادي الأمير سلطان البيضاء التي نقلتهم عبر مشروع الإسكان الخيري من مساكن الصفيح و"الصنادق" الخشبية إلى الفلل السكنية المواكبة للنهضة العمرانية التي تعيشها السعودية في الوقت الراهن، والمساهمة في تحقيق التنمية الاجتماعية ودعم جهود الدولة في توفير أفضل مستوى معيشة ممكن، وتلبية احتياجات المواطنين في السكن الملائم وفي بيئة حضارية وخدمية متكاملة.
أحوالهم وطريقة معيشتهم
بدأت مباشرة معهم في سؤالهم عن حالهم وكيف هي أوضاعهم؟ ليجيبوني وبالرغم من كل تلك الإمكانات التي تمتلكها مساكنهم من تأثيث فاخر وأجهزة إلكترونية حديثة، أن حالتهم المادية يرثى لها، فهم يعتمدون في كسب معيشتهم على الهبات والأرزاق التي يحصلون عليها من أهل الخير والجمعيات الخيرية، وكذلك ما يكفله لهم الضمان الاجتماعي من مكافآت تكاد لا تسد رمقهم من الجوع، في ظل تكاليف ارتفاع أسعار المعيشة التي وصفوها بأنها لا تطاق، كما أنهم يعتمدون في دخلهم على الاحتطاب الذي منعوا من ممارسته في ظل التوجيهات التي توصي بالحد من الاحتطاب الجائر الضار بالبيئة، وكذلك على ما يجنيه الموظفون منهم أو أبناؤهم من رواتب وظائفهم التي تكاد لا تتجاوز الألفي ريال، في ظل معاناتهم من الذهاب إليها والعودة منها، فهي في جدة ومكة وهم في قرية الخيوط التي تقع بين المدينتين وتفتقر إلى أبسط الخدمات.
من الصفيح إلى الفلل
" شكراً سلطان .. صاحب الأيادي البيضاء"، "شكراً يا من نقلتنا من مساكن الصفيح والأكواخ إلى الفلل والمساكن الفارهة"، شكراً ولكن .. ، كلمات تردد صداها طوال جولتي التي استمرت أكثر من ثماني ساعات وأنا أطوف وأبحث بين جنبات قرية الخيوط والمراكز المجاورة لها كمركز دفاق والبيضاء والراكة وغيرها عن وجود مثل تلك المنازل، شكراً يقدمها أهالي الإسكان لتلك النقلة التنموية التي نقلتهم من مساكن الصفيح التي مازال أغلب سكان المنطقة يعيشون بداخلها وكأنها قصور شيدت على رمال الصحراء البيضاء، كما أن البعض منهم قام بتزيينها بالألوان الفاتحة التي استخدمت في الأساس لتعكس أشعة الشمس ولتقيها حرارتها لا للزينة التي نقشت بها فرشاة من عمل عليها، شكراً ولكن كلمات جاءت لتعبر عن بيروقراطية وترهل القطاع الحكومي وتقاعس القطاع الخاص على تقديم الخدمات لهم، في ظل ما تبذله الدولة ورجال الخير من جهود لتقديم المسكن الإنساني لهم وتلبية حاجاتهم التي هم في أمس الحاجة إليها.
يقولون جميعهم ولسان الحال واحد "الآن نودّع بيوت الصفيح والصنادق والعشش وننتقل للعيش في مساكن جديدة شيّدتها لنا مؤسسة سلطان الخيرية". الكلمات يتردّد صداها بين البسطاء من سكان «الخيوط» التابعة لمنطقة مكة على امتداد طريق "الخواجات"، وذلك بعد أن تم لهم الاستقرار في مدينة نموذجية مكوّنة من 180 وحدة سكنية متكاملة الخدمات في قلب الصحراء ما يعدّ نقلة نوعية بالنسبة للأهالي للحياة في قلب العصر وملاحظة آخر المستجدات والتطورات.
وجود الأراضي وغياب الخدمات
لكل دائرة حكومية وقطاع خاص في العادة مسببات في عدم تقديم خدماته لمن يحتاج إليها، ويتمحور المركز الأساسي في تلك المسببات في ارتفاع أسعار العقار وعدم وجود الأراضي المناسبة لحجم المشاريع، ولكن أن تؤمن لهم الأرض وتبقى بيضاء دون تنشيط فعاليات تلك الجهات فيها فهذا هو الأمر المريب، والذي يبحث عن إجابة.
وكان من ضمن تلك الأسئلة التي كنت أحملها في حقيبتي وأردت توجيهها لمن هو ذو شأن بتلك المنطقة كانت عن الخدمات الصحية والتعليمية التي لن يرتقي أي مجتمع ما لم تتوفر فيه أدواتها، كما أن غيابها دلالة كبيرة في جميع معايير القياس العالمية على الفقر المدقع الذي يعيش فيه سكان تلك المناطق التي يغيب فيها هذان المحورين المهمان.
سألت السكان عن المدارس والمراكز الصحية ومراكز الشرط والجوازات وبقية الجهات، فلم تكن الإجابة إلا ببسمات قد تكون تسأل عن: من أين أتى إلينا هذا الصحافي الذي يريد أن يمجد تلك الإدارات ويعبر عن نجاحها في ظل غيابها، أشاروا إلى بأيديهم إلى نحو خمسة مواقع في مجمع الإسكان كان من ضمنها موقعان ترابيان تبلغ مساحة الواحد منهما نحو ألف متر مربع وثلاثة منها كانت عبارة عن وحدات سكنية فارغة، ماعدا إحدى الثلاث التي تسلمتها إحدى الجمعيات الخيرية وباشرت نشاطها وعملت على تكثيف فعالياتها وتلبية حاجة المنطقة، أما البقية فكانت مواقع مجهزة لمجمعي مدارس أحدهما للبنين والآخر للبنات، وللمركز الصحي ولمركز الشرطة الذي تفتقده المنطقة بشكل عام وتعول في أمنها على رؤساء المراكز ومن هم يعملون معهم من "الأخوياء".
وأضافوا أنهم يعانون أشد المعاناة في نقل مرضاهم إلى مراكز الرعاية الصحية الأولية التي تبعد عنهم مسافات كبيرة، كما أن أقرب مدرسة منهم تبعد نحو عشرة كيلو مترات، وهو الأمر الذي يشكل خطراً على أبنائهم الذين يعبرون تلك الطرقات ليبحثوا عن المارة الذين يصلونهم إلى مدارسهم ومن ثم يعودون إلى منازلهم بنفس الآلية، كما أنهم قد تعرضوا لعدة حوادث سير فتكت بالكثير من أولئك الأطفال، كما أن غياب الهلال الأحمر عن المنطقة يسهم في عدم مباشرة تلك الحوادث بشكل سريع.
الصحة تبرر بالتجهيز
في سؤال حول عدم وجود المركز الصحي لأحد ممن هم على دراية بحال المجمع السكني الخيري، أجابني أن المؤسسة سبق أن فرغت إحدى الوحدات السكنية على أن تكون مركزا صحيا يخدم سكان المجمع ومن هم يقطنون في المراكز المجاورة له، إلا أنهم فوجئوا بخطاب من وزارة الصحة تفيد فيه بأن على المؤسسة أن تعمل أيضا على تجهيز وبناء مقر للكادر الذي سيعمل في المركز، كما أن عليها تجهيز المركز بالأثاث والأجهزة الطبية وبجميع الاحتياجات الأخرى، بحيث يتبقى عليها هي توجيه الكادر للعمل في ذلك المركز الذي أصبح حلماً أو سراباً يتلاشى وجوده كما يتلاشى وجود السراب في تلك الصحراء عند الاقتراب منه.
وعن نوع التجهيزات المطلوبة يقول: " لم يفدني الخطاب في شيء إلا أنه بدد الحلم، وإن المؤسسة تسعى جاهدة لتحقيق تلك الاشتراطات بالرغم أن الأمر ليس من اختصاصها، وإن التجهيزات لم تزل غير معروفة حتى الآن، حيث إن هناك أربعة مستويات أو أكثر للتجهيزات الطبية، وهي تعمل وفقاً لفئة المركز ونوعه ومدى الاحتياج له، والتي كان من المفترض على الصحة أن تأتي هي وتبحث الاحتياج ومن ثم تقدم الخدمة للسكان، وفقاً لمبدأ العدالة في تأمين الخدمات الصحية لجميع المواطنين.
75 عاماً لم أسمع الأذان
يتردد في أذهان جميع سكان المنطقة هناك، قصة ذلك المسن الذي يبلغ من العمر نحو 75 عاماً، والذي ما إن سمع الأذان في جامع المجمع السكني قبل نحو عامين، وتحديداً عند تجربة المكبرات الصوتية من قبل فرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف أثناء تسلمها للجامع من إدارة المشروع، إلا وإذا به يجري نحو المسجد وهو يكبر وعيناه تذرفان الدمع، ويسجد ويشكر من قام بفعل الخير، إذ إنه على حد قوله، لم يسمع الأذان في تلك المنطقة طيلة حياته إلا عندما يزور المسجد الحرام أو يخرج إلى مدينة أخرى، مشيراً إلى أن أغلب السكان لا يصلون في جماعات فهم يقيمون صلاتهم كلاً على حده، وذلك لعدم تجاور مساكنهم والتي تعتبر من الصفيح ويتعمدون وضعها في سفوح الجبال، لكي يتجنبوا مخاطر السيول في الأودية، وحتى لا تنجرف مساكنهم وتذهب أرواحهم.
غياب للحدائق ووجود للنظافة
من فعل الصواب يقال له أحسنت ومن قصر لابد من تبرير القصور، يكمل السكان حديثهم ذا الشجون عن بقية الخدمات ليؤكدوا أن مدينة سلطان الخيرية وفرت لهم ارضين ضمن المشروع لتكونا حدائق عامة لذويهم، إلا أنها لم يبدأ العمل فيها حتى الآن ولم يتم تجهيزها بأي من احتياجاتها، مؤكدين إنهم لا ينفون أن هناك جهودا جبارة تقدم لهم من قبل أمانة العاصمة المقدسة التي أسهمت في تخفيف معاناة القرية من تكدس النفايات إذ إن خدمات النظافة موجودة بشكل مستمر، فضلا عن أن سفلتة الشوارع وربط القرى بعضها بعضا هو مشروع قائم ومشاهد على أرض الواقع، لافتين إلى أن وجود المجمع أسهم في إيصال الكهرباء إلى منازلهم، والتي كانت في السابق تغرق في الظلام في ظل الاعتماد الكلي على مولدات الكهرباء الصغيرة.
تساؤل يحتاج إلى إجابة
جل ما سيلفت انتباه الزائر إلى مجمع إسكان الأمير سلطان الخيري في منطقة الخيوط هي تلك الإمكانات التي جهزت بها المساكن، وتلك الأراضي البيضاء الشاسعة التي تحيط بالمشروع، إلا أن التساؤل الأهم يدور حول غياب المسؤولية الاجتماعية لدى القطاع الخاص، وغياب الإدارات الحكومية في التواجد في تلك المناطق، التي إن تم الاهتمام بها فبكل تأكيد ستصبح ضواحي للمدن، وستوفر الفرص الوظيفية لأبنائها، وستحل كثيراً من الأزمات التي تعاني منها المدن، في ظل إسهاماتها في الحد من معدلات الهجرة، والتي تعد مكة الأعلى بين المناطق السعودية بالنسبة لها، حيث تبلغ معدلات الهجرة السنوية لها نحو 2.7 في المائة.
مثل هذه المبادرة ليست بغريبة أو جديدة على الأمير سلطان بن عبد العزيز ولي العهد وزير الدفاع والطيران والمفتش العام، الذي دأب على الاهتمام باحتياجات الوطن والمواطن وفعل الخير، ولكن كم من قرية ومحافظة ومدينة بما فيها المدن الكبرى من تحتاج إلى سكن، وما هو الدور الذي يجب أن تقوم به المؤسسة، فعلاً الراية بيضاء لها بشهادة المستفيدين منها، ولكن يبقى العتب على من غاب، وليس التطوير بتطبيق مقولة بمن حضر.
التأطير تحت مظلة التطوير
لكي ينجح أي مشروع يجب أن يتم تأطير العمل وتنظيمه، فمشروع الإسكان الخيري أسهم في حل مشكلة الإسكان، ولكنه مازال يتعثر في إكمال نجاحه بسبب البيروقراطية في الجهات الحكومية، البعيدة إجراءاتها عن العمل المؤسسي، فماذا سيحدث لو تم تكوين تحالفات بين الجهات المعنية بتقديم الخدمات الأساسية والجهات الخيرية، وتكون جميعها تحت إشراف الدولة.
كما يجب أن يصل مستوى المسؤولية الاجتماعية لرجال الأعمال في السعودية كما ما وصل إليه في الدول الكبرى، فبرغم الإكثار من النقاش عن دور رجال الأعمال في التنمية و خاصة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن هذا الدور مازال في طوره الأول دون تطور فعال، وتكمن أهمية تفعيل دور رجال الأعمال في التنمية في تملكهم رأس المال وقوتهم الاقتصادية القادرة على شحذ الموارد المحلية والاعتماد عليها وتوظيفها للتنمية التي بدورها ستحد من معدلات البطالة والفقر في المناطق النائية.