العودة إلى لعنة النفط
العودة إلى لعنة النفط
تزامن إعلان قرار البنك الدولي إنهاء تجربته في تشاد مع نشر إدارة معلومات الطاقة الأمريكية آخر أرقام لها عن دخل الدول الأعضاء في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، وبين الاثنين أكثر من صلة.
ففي الأسبوع الماضي أعلن البنك إنهاء تجربة استمرت منذ عام 2000، وسعت إلى الاستفادة من العائدات النفطية بعد دخول تشاد نادي الدول المصدرة للنفط. وقامت الفكرة على أن يقوم البنك باستخدام إمكاناته التمويلية للإسهام في بناء خط الأنابيب الذي ينقل النفط التشادي عبر الكاميرون إلى ساحل المحيط الأطلنطي، ومن ثم إلى الأسواق العالمية، وكذلك مصداقيته لجذب ممولين آخرين لدعم المشروع. ومقابل هذا تلتزم تشاد بتخصيص نسبة مقدرة من عائداتها للإنفاق على البرامج الاجتماعية مثل تشييد المدارس والطرق والمستشفيات، وأن يكون هناك مجلس إدارة مستقل للإشراف على أوجه الإنفاق.
كثيرا من منظمات المجتمع المدني الغربية التي لها صلة بتشاد كان متشككا في إمكانية نجاح الفكرة، وجاء إعلان إنهاء التجربة، رغم أن البنك سيظل له وجوده ونشاطه في تشاد كدولة عضو في هذه المؤسسة الدولية، ليجعلها تعيد التذكير بموقفها وأنها كانت على حق.
التجربة تطرح عديدا من النقاط، فرغم الترتيبات التي اتخذت لإنجاح الفكرة، إلا أن تشاد ومنذ عام 2004 بدأت في الضغط أنها مواجهة بقضايا أمنية بسبب الاضطرابات السياسية، وأنها تحتاج إلى إيلاء الجانب الأمني إنفاقا إضافيا، وهو ما نجح في حمل إدارة البنك الدولي على القبول به قبل عامين. وهذا التطور يعكس حقيقة بسيطة تتلخص في سيادة القرار القطري، رغم زخم العولمة وتداخل الحدود والدور المتعاظم لمنظمات المجتمع الدولي وتأثيرها في قرارات دولها، بل المنظمات الدولية.
النقطة الثانية التي أوضحتها التجربة أن دول العالم الثالث لا يزال أمامها شوط كبير للخروج بمعادلة توازن ما بين متطلبات التنمية وتأكيد سيادة الأمن، فالنزاعات وحالات عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي تعود بصورة رئيسة إلى عدم وجود آلية متفق عليها لحسم قضية قسمة السلطة والثروة، ولهذا وفي الواقع العملي يطرح السؤال في شكله الأزلي: هل تحقق الاستقرار السياسي للبناء الاقتصادي عليه، أم يتم التركيز على البناء الاقتصادي لوضع الأسس للاستقرار السياسي.
وهذا لا يعيد إلى دائرة النقاش قضية لعنة الموارد، التي يكتسب النفط فيها مكانة متميزة نسبة للخاصية التي تتمتع بها هذه السلعة لارتباطها بالخبرة الأجنبية وسهولة تدفق عائداتها المالية مقارنة بالعائد من الزراعة أو الصناعة مثلا، الذي يستغرق وقتا أطول. فلفترة طويلة خلال العقد الماضي احتل النقاش في هذه القضية مقعدا متقدما، وذلك من باب تحميل النفط مسؤولية إشعال الحروب واستمرارها.
أحد أسباب ذلك البروز انتهاء مرحلة الحرب الباردة مطلع العقد الماضي، الأمر الذي سمح ببروز قضايا أخرى كانت تغطي عليها صراعات حرب القطبين بالوكالة أحيانا وفي ميادين أخرى يكون النفط أحد عناصرها.
هل يا ترى سيسهم تعكير الأجواء بين موسكو وواشنطن في إحداث نقلة بسبب عودة أجواء الحرب الباردة ولو في طبعة جديدة منقحة على العامل النفطي ودوره في قضايا البناء السياسي والاقتصادي في العالم الثالث؟
لا توجد إجابة واحدة، خاصة أن الصراع المتجدد بين موسكو وواشنطن لم يستقر على وضع معين، وما إذا كان سينتهي إلى عالم متعدد الأقطاب مرة أخرى. كما أن ظروف كل دولة تختلف عن الأخرى رغم وجود قواسم مشتركة تميز الأوضاع في دول العالم الثالث.
من ناحية أخرى نشرت إدارة معلومات الطاقة وهي الذراع الإحصائية لوزارة الطاقة الأمريكية، أن دخل (أوبك) يتوقع له أن يتجاوز هذا العام تريليون دولار لأول مرة، وأنه بسبب ارتفاع سعر البرميل هذا فإن ما حققته (أوبك) في الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام بلغ 740 مليار دولار، ويتجاوز كل ما حققته الدول الأعضاء في المنظمة طوال العام الماضي وبلغ 671 مليارا. نتيجة لهذا فإن دخل الفرد في دول (أوبك) سيبلغ 1863 دولارا ويتوقع له أن يرتفع إلى 2015 دولارا العام المقبل.
تأتي مثل هذه الأرقام في الوقت الذي تحتل فيه أخبار النفط مقدمات نشرات الأخبار بسبب التصاعد الأخير في سعر البرميل، وانعكس على كثير من السلع والخدمات بداية بتكلفة تسيير السيارات الخاصة، التي أصبحت قضية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية مثلا. وكل ذلك معطوفا على لعنة النفط والإشارة العلنية والمستترة أن الدول النامية تحصل على أموال ضخمة لا تستحقها تقوم بتبديدها في الصراعات.
ورغم أن التريليون دولار الذي حققته (أوبك) لأول مرة في تاريخها، يبدو رقما ضخما، إلا أنه في الواقع رقم عادي، فدولة مثل إسبانيا لا تعتبر قوة عظمى أو مؤثرا رئيسا في الأحداث العالمية حققت هذا العام ناتجا إجماليا بلغ 1.4 تريليون دولار، كما أن إيطاليا القريبة منها تجاوز دخلها القومي تريليوني دولار.