الاستعمار الجديد
لم ينعم واقعنا العربي المعاصر بنعمة الحرية – كما يظن كثيرون – بجلاء الاستعمار الذي رحل بجسده؛ فقد ظلت روحه متلبسة في جسد هذه الأمة، ينخر في ثوابته، ويصدع أركانه، وينهب ثرواته؛ إذ بذل الغرب جهده في إضعاف تلك الشعوب المقاومة؛ فها هو ذا يتلون كالحرباء نحو بناء مجتمعات خاوية، تخلو من الفاعلية، وتنعدم فيها قيم النهضة والإصلاح أو حتى البقاء.
وقد تعددت أسلحته بالسيطرة على روافد الفن، والإعلام، والتعليم، وتشكيلها وفق أهوائه ومصالحه، فجنى من ذلك ثماراً لم يكن ليجنيها بأسلحته الفتاكة، وعلى سبيل المثال وجدنا في مجال التعليم المستر دنلوب، ذلك القسيس الذي عينه اللورد كرومر مستشارا لوزارة المعارف في مصر، ينفذ مخططات الاستعمار الخبيثة في مجال التعليم والمناهج التي بقيت آثارها المدمرة حتى اليوم.
وفي مجال الفن نستطيع أن نتلمس من أسماء أصحاب العمل الفني وهوياتهم منذ القرن 19، وسيطرة اليهود والنصارى المستغربين على صناعة السينما والمسرح. وكيف كانت أعمالهم تقدم قيما تنخر في هوية المجتمع العربي المحافظ. أما الآلة الإعلامية فمن البين سيطرة اللوبي الاستعماري في بلادنا على كل خطوة من خطواتها، فلا تسير إلا بإذنه ولا تتنفس إلا بإرادته.
وقد وجدنا أنفسنا من خلال تلك الأسلحة الفتاكة وغيرها نحظى بكل سلبيات الاستعمار دون أن يفقد الرجل الأبيض جنديا واحدا أو قطرة دم واحدة؛ فها هو ذا يهدد حصون العرب والمسلمين من الداخل عن طريق بني جلدتنا.
ولم يكن من العجيب في هذا الإطار أن تعلن بعض الدوائر الغربية أخيرا، أنها كانت تدعم مجلات ثقافية عربية مشهورة بشكل مباشر من أجل هدم الثقافة العربية والإسلامية، وها هي ذي كبرى الجوائز الثقافية والعلمية عالمياً تعقد تحت السمع والبصر؛ فعندما تباع عقول المفكرين والأدباء وتشترى ولاءات المثقفين والعلماء، فماذا يتبقى للأمة؟! ومن أين تبدأ النهضة؟!
وفي المقابل؛ أصاب عالم الاجتماع الجزائري مالك بن نبي عندما ذهب إلى أن هناك دائما زوجين متلازمين ومتعاونين، وهما الاستعمار وقرينته الشمطاء: القابلية للاستعمار. فالاستعمار يهزمنا من خلال هذه القابلية المستكنة في نفوسنا، فتضعف من مقاومتنا وتجعلنا عبيدا نلهث وراء منتجاته هو، وتلهينا عن الثبات وراء قلاعنا التنموية والثقافية والسياسية. فكيف نبني صناعة قوية ونحن نلهث وراء منتجاته؟ وكيف نبني زراعاتنا ونحن لا نطعم إلا ثمار زراعاته؟ وكيف تتطور ثقافتنا ونحن مغرمون بثقافاته؟ وكيف نقاومه ونحن راكعون أمام عتباته؟