المهاجرون الأفارقة يضحون بحياتهم من أجل الهجرة إلى أوروبا
يرمون بأبصارهم في الصباح عبر الغابات في الجانب المغربي فتحتضن نظراتهم أمواج البحر الزرقاء، لكنها تصطدم في الوقت ذاته بالأسوار الشائكة التي يقيمها الإسبان وبجدران قلعة ميليلية التاريخية.
أما في ظلام الليل فلا يبدو من كتلة المهاجرين الأفارقة من أصحاب البشرة السوداء سوى اللون الأبيض في مآقيهم، فهم لا يأمنون حتى أن يشعلوا النيران في المساء بسبب خوفهم من الملاحقات المستمرة التي تنفذها الشرطة المغربية وباتفاق كامل بين جاري ضفتي البحر المتوسط المغرب وإسبانيا.
كأنك تجد هنا لافتة ترحيب بدخولك منطقة الحدود الجنوبية للقارة الأوروبية. فالمغرب لم تعد فقط ساحة لتصدير المهاجرين العرب الراغبين في دخول أوروبا، بل إنها تحولت إلى محطة لتجمع أولئك المتاجرين بالبشر وأحلامهم، وفي مقابل 1500 يورو يدفعها الفرد يجدون دائما الطرق والمسالك عبر مضيق جبل طارق التي تقود إلى بلاد الأندلس السابقة.
إنهم ليسوا فقط من عصابات المافيا بل هناك آخرون يتفننون في اكتشاف مسالك جديدة خارج نطاق تغطية الرادارات الإسبانية في جزر الكناريا ثم ما يلبثون أن يتركوا زبائنهم هناك بعد أن يكونوا قد قبضوا الثمن مقدما، والآن يظهر في الأفق لاعب جديد إنهم الأفارقة القادمون من أعماق القارة السوداء السائرون آلاف الكيلو مترات على أقدامهم عبر الصحارى ليصعدوا إلى قمة جبل جوجورو ليطلوا من هناك على الأرض الموعودة .. أوروبا.
في مثل هذا الوقت من السنة تهب نسمات الخريف الباردة ليلا وفي أعماق الغابات المغربية يجلس الأفارقة السود دون طعام أو شراب أو حتى ملابس كافية تقيهم برودة الجو، يرتعدون ويتبادلون أطراف الحديث. يقول أحدهم: علينا الإسراع قبل حلول فصل الشتاء،
ويقول آخر: إنهم المغاربة الذين يضربوننا ويطلقون علينا النار ويعيدوننا أدراجنا، ويقول ثالث: ماذا لدينا كي نخشى عليه من أن نخسره؟ ليس لنا سوى أرواحنا نفتدي بها أحلامنا في الهجرة.
عندما يتحركون تكون تحركاتهم أقرب للعفوية منها للتحركات المنظمة، يجتمعون يوميا مع تباشير الصباح الأولى تاركين أسرتهم الخشبية في مواقعها في الخلاء، يبدؤون في لف أيديهم بالمناديل وحشو ملابسهم بما تيسر لهم من أقمشة ولفائف قبل أن يحاولوا تسلق السياج الشائك المزدوج الذي يراوح ارتفاعه بين ثلاثة وستة أمتار ويحيط بميليلية في دائرة نصف قطرها عشرة كيلو مترات، إنهم رينيه أو باتريك، أو إريك أو محمود إنهم من مالي أو الكاميرون أو غينيا بيساو أو من أي بلد إفريقي بائس آخر، كل هذا لا يهم، المهم أنهم يفرون من الفقر والجوع والبطالة، يفرون من أنظمة حكم دموية ومن حروب أهلية وفساد، لا تنقصهم الشجاعة والرغبة في المغامرة ويقولون بلكنة فرنسية "ليس لدينا مستقبل في بلادنا" إنهم يفرون من أوطان باتت عاجزة عن إطعام أو إيواء أبنائها الذين تزداد أعدادهم يوما بعد يوم.
يستهدف هجوم المهاجرين الأفارقة على السياج الشائك وقد يستهدف الحراس إذا ما تمكنوا من اكتشاف محاولة العبور حينها ترى الحجارة تتطاير وتتحول درجات السلالم إلى هراوات يضربون بها. إنهم يعرفون تماما أن الشرطة الإسبانية وإن كانت مسلحة إلا أنها لا تطلق النار لأن ليس لديها أوامر بإطلاق النار، كما إنهم يعرفون أن قوات الأمن المغربية هي التي تطلق عليهم من الخلف الطلقات المطاطية، كما أنها تقود العائدين منهم إلى خلف سياج الحدود مع الجزائر المجاورة دون أي نقاش.
إنك ترى بقايا ملابسهم على السياج الشائك الذي يقتطع أيضا أجزاء من أجسادهم وكثيرا ما يلقى البعض حتفه نتيجة إصابة قاتلة في الرقبة بسبب نصال الأسلاك الشائكة الحادة كالأمواس، أما الناجون المحظوظون فإن تقتفي آثارهم من خلال قطرات دمائهم التي ترسم ملامح طريق لا يخلو من مطاردات دائمة مع دوريات شرطة ميليلية لأولئك الراغبين في السير على الخطى نفسها للوقوف أمام بوابة العبور إلى أوروبا.
إذا تحدثت مع إيريك أو رينيه أو محمود فإنهم يدلونك على الأسلوب الذي يتبعونه وكأنهم يقرأون من كتاب، في البداية تسجل اسما مزورا وتحدد موطنك من بلد لا توجد بينه وبين إسبانيا اتفاقية تسليم، وبالتالي لن يتمكنوا من ترحيلك إلى أي مكان بعدها، تصدر بطاقة إبعاد لكنها غالبا ما تكون حبرا على ورق لأنها في معظم الأوقات لا يتم تطبيقها، قد يخدمك الحظ وتكون محطتك التالية هي معسكر الإقامة المؤقتة حيث يتوافر الطعام والشراب والمأوى والرعاية الطبية، ويعيش في هذا المعسكر حاليا 1700 مهاجر إفريقي أي بما يعادل ثلاثة أضعاف طاقته، ولذلك فإنك ترى عند أطراف المعسكر خياما أخرى تكميلية للمعاونة في إيواء المهاجرين وفي هذا المعسكر تعمل منظمات الصليب الأحمر وأطباء بلا حدود وغيرها من المنظمات غير الحكومية الأخرى، إضافة إلى عدة بعثات دينية.
ولكن ليس كل من في ميليلية يعطي هؤلاء الأفارقة الاهتمام الكافي تقول إحدى الطبيبات "في حالة حدوث أزمة قلبية لأحد المرضى مثلا لا يتم توفير سيارة إسعاف لنقله" أضف إلى هذا أن الممرضات العاملات في المعسكر دائمات الخوف من انتقال أي عدوى لهن من الأفارقة مثل عدوى الالتهاب الرئوي أو الالتهاب الكبدي الوبائي أو الإيدز، فهذه الأمور تؤخذ على محمل غاية في الجد ولهذا يتم توقيع الكشف الطبي على الأفارقة وتطعيمهم ضد الأوبئة كافة.
ويتكرر هذا السيناريو الذي ذكرناه بحذافيره في مدينة سبتة وهي المدينة التي تمثل الجيب الإسباني الثاني في الأراضي المغربية، ويسمح للمهاجرين الأفارقة بالمكوث في المعسكر لمدة أربعين يوما حسبما ينص قانون الهجرة وذلك قبل إعادة العمل باتفاق إرجاع المهاجرين بين المغرب وإسبانيا. أما المحطة التالية للمهاجرين فقد تكون في مدريد أو برشلونة أو ملقا حيث ينقلون دون إعطاء تصاريح لهم بالعمل، ومن هؤلاء من يفضل البقاء ويمارس أعمالا مشبوهة ويرسل النقود إلى أهله في موطنه، ومنهم من يواصل طريقه في الارتحال إلى فرنسا مثلا أو إلى بلدان أقصى شمال أوروبا التي يرون فيها فردوس أحلامهم.
مع نسمات الصباح الأولى تجمع الشرطة الإسبانية السلالم الخشبية المسندة إلى السياج الشائك كالأشباح وتسكب عليها البنزين وتحرقها، كما تجلب لفات جديدة من الأسلاك الشائكة وإصلاح ما لحق بالسياج من دمار وعلى الجانب الآخر يتابع آلاف الأفارقة المختبئون داخل الغابات المغربية بعيون زائغة أعمدة الدخان لكن خوفهم لا يردعهم عن الإقدام على المحاولة في وقت لاحق.
نعود إلى ميليلية ذات الـ 70 ألف نسمة نصفهم من أصول مغربية ونصفهم من أصول إسبانية، لكنهم جميعا لا يرغبون في رؤية الأفارقة خارج معسكراتهم المحددة، فهناك قصص عن عمليات سرقة واغتصاب وعن حالات إصابة بأوبئة وفيروسات وحدوث تلوث دم وهناك أيضا تجد على الجدران عبارات تفتقر إلى اللياقة تشير إلى هؤلاء الزنوج لكن أجواء المدينة متعددة الثقافات التي ترى فيها الكنائس تجاور المساجد والمعابد تدهش السائر، ولا سيما في شهر رمضان.
احتل الإسبان مدينة ميليلية عام 1497 قبل أن يقوم البريطانيون بدورهم باحتلال جبل طارق وتحولت مدينة ميليلية إلى منطقة عسكرية مع مدينة سبتة التي استعادها الإسبان من أيدي البرتغاليين عام 1580 "يعيش في سبتة حاليا 75 ألف نسمة". وتصنف المدينتان حاليا على أنهما مدينتان ذواتي حكم ذاتي بعد أن حصلا على صفتها القانونية هذه عام 1995 بعدما غير الملك خوان كارلوس اسم الشارع الرئيسي في المدينة من شارع الجنرال فرانكو إلى شارع الديمقراطية ورغم هذا فإن هناك الكثير من شوارع المدينة مازالت تحمل أسماء قادة عسكريين إسبان.
في مدينة ميليلية تجد خليطا عجيبا، خليطا إسبانيا عربيا، خليطا من الحضارة الفينيقية والحضارة الرومانية والقوطية المغربية والآن تجد في كل مكان في المدينة، فوق النخيل وعلى واجهات المحال، فوق الملابس وفي ساحات مصارعة الثيران تجد لافتات حزب الشعب وهو الحزب الذي خسر الانتخابات الأخيرة في إسبانيا عقب هجمات آذار (مارس) الإرهابية العام الماضي.
وينتمي الرئيسان خوان خوسيه أمبرودا رئيس ميليلية وخوان خوسيه فيفاس رئيس سبتة إلى حزب الشعب وهما على خلاف كبير مع رئيس الوزراء الإسباني الاشتراكي خوسيه لويس رودريجيز ثاباثيرو ويتهمانه بنقص الخبرة والفشل في إدارة الأمور.
لقد طالبا بإصرار أن يتم تغليظ بنود قانون الهجرة الحالي الذي يكف يد قوات حرس الحدود الإسبان عن استخدام القوة، كما يطالبان بأن تتحول سبتة وميليلية إلى جبهة أمامية لمواجهة تيارات الهجرة الإفريقية. ومن الناحية العملية فإن قانون الإبعاد التلقائي الذي يطالبون به يحظى بقبول من جانب الحكومتين الإسبانية والمغربية، ولكن لا يوجد أحد في ميليلية يثق بالملك محمد السادس ملك المغرب.
إن المغاربة يشعرون دائما بالظلم من الاتهامات التي تكال إليهم في قضية المهاجرين الأفارقة، إنهم يشكون دوما من ضعف الإمكانيات ويؤكدون صدق نيتهم في التعاون، ويشيرون بأصابع الاتهام إلى الجزائر المجاورة التي لا تفعل شيئا رغم أنها إحدى محطات الترانزيت لموجات الهجرة.
وإذا شددت المغرب قبضتها وكثفت وجودها عند نقاط تسلل المهاجرين وأمرت بتسيير دوريات بحرية واعتقلت المهاجرين اتهمت بأنها دولة بوليسية فإذا لم تفعل كل هذا اتهمت بأنها شريك في الجريمة.
ويقول وزير الداخلية المغربي إن الحل يتمثل في إطلاق "خطة مارشال" جديدة تقدم من خلالها الدول الأوروبية مساعات مالية للمغرب وللدول الإفريقية المعدمة، أما وزير خارجية إسبانيا ميخيل موارتينوس فيشير إلى الانفجار الديمغرافي القادم.
ويقول في كلمة له أمام المجلس الوزاري الأوروبي "في غضون الـ 50 عاما المقبلة، سوف تتضاعف نسب المواليد في المناطق الواقعة جنوب الصحراء الكبرى لتصبح واحدة من أعلى معدلات المواليد في العالم. وهذا يعني بالنسبة لأوروبا أن موجات الهجرة لن تكتفي بعنق الزجاجة المتمثل في جيبي سبتة وميليلية الموجودين في إسبانيا، بل إنها ستتحول إلى تيار متدفق من البحر والبر.
لقد قررت دول الاتحاد الأوروبي أخيراً إرسال "فريق خبراء" إلى شمال إفريقيا لإعداد إحصاء دقيق عن المهاجرين بعد أن ظلت قضية الهجرة غير الشرعية خارج نطاق اهتمام دول الاتحاد لفترة طويلة. ويأتي هذا القرار في وقت تستعد فيه دول الاتحاد للاحتفال في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل في مدينة كاتالونيا الإسبانية بالذكرى العاشرة لإعلان برشلونة، ووعد الأوروبيون المغاربة بالإفراج عن الأموال المجمدة لصالح عملية حراسة الحدود على أن تعلن المغرب في المقابل عن استعدادها للتوقيع مع دول الاتحاد على اتفاق شامل وحاسم حول إعادة المهاجرين.
وفي خضم كل هذا لا تملك إلا أن تتعاطف مع أولئك "الإسبان الجدد" المهاجرين الأفارقة في معسكر ميليلية حين تنظر إلى وجوههم الباسمة.
وها هو رينيه الذي رأيناه من قبل بعد أن عولج كتفه ويديه من آثار الجروح بفعل الأسلاك الشائكة، نراه الآن يجري مع مجموعة من الأصدقاء من بني وطنه حاملين الأعلام والرايات منطلقين نحو الاستاد الرياضي ليشاهدوا مباراة لكرة القدم ويشجعون ويهتفون لفريق "ميليلية".