من أعلى مكان في العالم كنت مستعدا لفعل أيّ شيء مقابل التمر وكأس من اللبن
الحديث مع فاروق الزومان حديث مع تجربة شجاعة لا تملك أمامها إلا أن تغبطه عليها لأنها تجربة قلة من الناس يستطيع اختبار تفاصيلها بهذا الإصرار. وهو كذلك حديث مع شخص أصيل وواثق فلا تراه يطعم حديثه بمفردات أو كلمات أجنبية رغم السنوات الكثيرة التي قضاها في الولايات المتحدة للدراسة. فاروق كذلك يتمتع بحس فكاهة ملاحظ حتى وهو يتناول أكثر مراحل مغامرته قسوة وكأنه يريد أن تتذوق لذة التجربة ولا تصدمك قسوتها. وعلى الرغم من أهمية الحدث الذي جمعنا بفاروق الزومان كأول متسلق سعودي لقمة إفيرست إلا أنه يبهرك بعفوية وتواضع يجعلان الحديث يتشعب لأدق التفاصيل التي يعطيك إياها متفاعلا بكل كيانه.
عندما تلتقي بفاروق الزومان وتستمع له تجد نفسك لا شعوريا تتساءل إن كان هذا الشاب الثلاثيني وخريج كلية الاقتصاد في جامعة أوريغون يو جين الأمريكية يعي عمق كونه دخل التاريخ من خلال أعلى قمة في العالم.
وزيادة على كل هذا ففاروق يمتاز بلياقة بدنية واضحة ويستعين في حديثه معك بكل ملامحه وطبقات صوته وحركات يديه ليضع من أمامه داخل التجربة وكأنه يعيشها معه في لحظتها، فتتساءل هل ترك فاروق قمة إفيرست حقا أم لازال يعيش هناك؟ فإلى تفاصيل الحوار:
ما الذي بقي من المغامرة التاريخية داخل فاروق بعد مرور كل هذه الأسابيع منذ انتهاء التجربة؟
لا أظن تجربة مثل تسلق الهملايا والوقوف على قمة إفيرست تغادر من يمر بها بهذه السهولة، ما زلت وحتى الآن أعيش تفاصيلها بشكل يومي سواء من خلال اللقاءات التي تجرى معي أو أحاديثي مع الأهل والأصدقاء والزملاء الذين يتعطشون للمزيد من التفاصيل ويطالبون بها، هناك كذلك التفاصيل اليومية والنعم البسيطة والكثيرة التي قد تمر على الآخرين بشكل بديهي وتشغلهم الحياة العادية عن ملاحظتها لكنها تستوقفني فأقف عندها متأملا وأتذكر افتقاري لها في رحلتي ومغامرتي تلك، فأحمد ربي عليها في اليوم أكثر من مرة.
شغفك وخبرتك بتسلق جبال مختلفة الارتفاع في أمريكا وعلى مدى سبع سنوات, هل أغنتك عن الاستعداد الذي تحتاج إليه مغامرة كمغامرة تسلق الهملايا وصولا إلى إفريست؟
تلك الخبرات أعدتني بشكل ما من الناحية الجسمانية حيث قمت بتسلق قمة جبل (رينير) في ولاية (واشنطن) الذي يبلغ ارتفاعه 4344 متراً عن سطح الأرض وكذلك جبال الأخوات الثلاث بولاية أوريغون الذي يبلغ ارتفاعها 3074 متراً، إضافة لجبل (شاستا) في ولاية (كاليفورنيا) البالغ ارتفاعه 4322 متراً، تسلقت كذلك جبل (هالي كالا) في (ماوي) في ولاية (هاواي) الذي يبلغ ارتفاعه 3055 متراً الذي على سفحه ولدت فكرة تسلق أعلى قمة على الكرة الأرضية وهي إفيرست التي يبلغ ارتفاعها 8848 مترا، وقد تصل درجة الحرارة فيه لـ 50 درجة تحت الصفر، ولم توافق الشركة المسؤولة عن مثل تلك المغامرات على انضمامي للرحلة قبل التأكد من توافر هذه الشروط لدي.
لكن كل تلك التجارب لم تجهزني لا جسديا ولا نفسيا بشكل كامل وواقعي للقسوة والصعوبات التي خضتها وزملائي ونحن نحاول الوصول إلى إفريست، كانت تجربة فريدة لا تشبه شيئا قبلها ولا أظنها ستشبه تجربة بعدها، لهذا كان لا بد من استعدادات خاصة لها، وكان علي التزود بكل المعلومات المتاحة عن الرحلة، إضافة إلى الاستعدادات الجسدية التي جعلتني أخصص أربعة أشهر قبلها لتجهيز عضلاتي وأجهزة جسمي للرحلة سواء من الناحية الرياضية أو حتى التغذية على الرغم من تاريخي الرياضي، من ناحية كان علي أن أحافظ على قوة عضلاتي ولياقتي في كامل جاهزيتها، وفي الوقت نفسه زيادة نسبة الدهون في جسمي حتى يتحمل متطلبات التجربة على ذلك الجبل.
كانت الرحلة تختلف اختلافا لا يمكن أن يعرف عمقه إلا من جرب وخرج بنجاح منها، نعم كان الاستعداد قبلها مهما لكنه لم يكن مقاربا لحقيقة المغامرة، لا أظن أن أحدا يمكن أن يقول إنه في كامل جاهزيته لمثل تلك التجربة حتى أولئك الذين يعملون في هذا المجال أو خاضوا التجربة من قبل.
كانت إذاً أقسى وأصعب؟ وكيف؟
كانت أصعب وأقسى بكل ما يمكن لهذه الكلمات أن ترسم من صور، لست هنا أشير فقط للصعوبات الجسمانية التي مررت بها بل كذلك للصعوبات النفسية والعاطفية التي لا يمكن لمن لم يمر بالتجربة أن يدرك قسوتها. لك أن تتخيل البدء بمغامرة كتلك وأنت تعرف أنه منذ عام 1921م و حتى عام 2007 كان هناك 3679 محاولة تسلق ونجح منهم 2436 فقط بينما لاقى 210 متسلقين حتفهم وهم يحاولون الوصول إلى القمة التي تطمح إلى الوصول إليها، هناك كذلك الإرباكات التي تعرضت لها الرحلة منذ بدايتها، مما أدى لتغيير موعدها نتيجة للأحوال الجوية الصعبة إضافة إلى قيام الحكومة الصينية بإغلاق الطرق إلى قمة إفيرست لمدة عشرة أيام امتدت من 1 وحتى 10 أيار (مايو) الماضي نتيجة لبعض التطورات السياسية، ولهذا استغرقت الرحلة فترة أطول من تلك المقرر لها منذ البدء.
أما من الناحية الجسمانية فهناك تأثير ضغط الارتفاع الذي يزيد مع كل مرحلة من مراحل الرحلة المقسمة لخمس مراحل لا بد من التدرج بينها حتى تعطي الجسم فرصة التكيف حيويا مع الارتفاع الشاهق، وهناك أعراض معروفة تسمى أعراض الارتفاعات حيث يمر المتسلق باضطراب في الكثير من النواحي الفسيولوجية في الجسم مثل الصداع، الغثيان، التقيؤ، تغير في ضغط الدم، والخفقان، وهي أعراض قد تلازم المتسلق طوال شهرين وهي مدة الرحلة، ويكون الجسم خلال هذه الفترة الطويلة معرضا للإنهاك والتعب إضافة إلى الصعوبات الأخرى الملازمة لمثل هذه المغامرة مثل فقدان الوزن نتيجة الجهد الجسماني ونقص النوم واضطرابه نتيجة الارتفاع الشاهق والتعرض لمخاطر السقوط من الانحدارات الحادة في جوانب الجبل، وكذلك الانهيارات الثلجية وسقوط الصخور التي يمكن أن تكتسح كل ما أمامها، والتي لا يملك المتسلقون أي خيار عند حدوثها لأنها تحدث فجأة ودون سابق إنذار ولأسباب طبيعية، إضافة إلى كل هذا هناك خطر التعرض لهجوم الحيوانات المفترسة.
هل كان هناك من حاول أن يثنيك عن رحلة بهذه الخطورة ؟ وما أغرب تلك المحاولات لو وجدت؟
ليس ممن هم قريبين مني ويعرفون تاريخي في تسلق الجبال أو إصراري وسعيي لتحقيق هدفي وهو وضع علم بلدي السعودية على تلك القمة، لكن لعل أغرب ما سمعته عن رحلتي تلك كان من الذين نظروا إليها كتقليد للغرب ليس له أي داع وأنها تعريض حياة للخطر نهانا عنه ديننا، لهؤلاء قلت وما زلت أقول إن الحياة كلها مخاطرة ويجب أن يكون للإنسان أهداف في الحياة يحاول تحقيقها وهو ما دعانا إليه ديننا وحثنا عليه، ولم أقرر رحلتي تلك إلا بعد أن استشرت والدي واستخرت وارتاحت نفسي لقراري.
لقد أردت من تجربتي إثبات أن الشباب السعودي قادر على مواجهة الصعوبات تماما كغيره من شباب العالم متى أتيحت له الفرصة وحصل على التشجيع الذي يشكل حافزا للنجاح ليس بالضرورة في تسلق الجبال بل في نواحي الحياة الأخرى بدءا من الدراسة وحتى المساهمة في رقي بلده لمصاف الدول المتقدمة، كل حلم يبدأ بخطوة تواجهها صعوبات ومن سيخاف هذه الصعوبات سيظل دائما في المؤخرة.
هل حدث في أي مرحلة من مراحل الرحلة أن فكرت بالعودة والتخلي عن الحلم؟
لا بالطبع، حتى عندما تعرضت لمشاهد هي أقسى ما مر علي، لم أفكر لحظة في العودة, ففي مرحلة الصعود وجدت جثة زميل سويسري فصلتني عنه ساعتان من الزمن فقط حتى أني لم أفكر لحظتها في كونه ميت وأسرعت أحاول إيقاظه اعتقادا مني أنه سقط من الإعياء ونقص الأوكسجين، وفي مرحلة أخرى من الرحلة وعند المنطقة المسماة "البالكوني" أو البلكونة وجدت دليل الشيربا الذي معي يتذمر ويقترح العودة بسبب سوء الحالة الجوية وصعوبة الاستمرار والإنهاك الذي نشعر به، لكنني بدأت في الشد من أزره وجعلته يغير فكرته بعدها بساعة ونصف أو ساعتين، وحتى عندما سقط زميلي العماني سلطان في المرحلة الأخيرة من الصعود وعجز عن الاستمرار زاد الموقف من إصراري على المواصلة.
رحلة بهذه الصعوبة افتقرت حتما إلى الكثير من الضروريات التي اعتاد عليها فاروق كشاب عاش في مدن مرفهة ؟
في رحلة كهذه تبدأ من البداية بتعويد نفسك على الاستمرار دون الكثير من الأساسيات اليومية مثل النظافة الشخصية, والطعام المقبول, والنوم لساعات كافية على مخدة مريحة وسرير دافئ, ووجود وسيلة اتصال سهلة مع العالم الخارجي وخصوصا الأهل والأصدقاء، لا مجال لحصر كل ما افتقدته هناك لكن بالتأكيد فإن حرماني منها جعلني أقدرها الآن أكثر وأعرف قيمتها ولا أستهين بالنظر إليها على أنها بديهية، ولعل أهم من كل ما ذكرت هو إحساسي بأن الله كان معي ويعينني في كل خطواتي ما دمت أتكل عليه بعد العزيمة وبذل الجهد ولن أتوقف عن شكره وحمده ما دمت أتنفس.
بين كل هذه الصعاب والمخاطر ألم تمر على فاروق وزملائه تجارب أو مفارقات طريفة؟
هناك مفارقات تحدث في حينها وتكون مربكة لكنها بعد الخروج من المغامرة تتحول إلى حكايات طريفة، منها مثلا عندما تخلفت عن الصعود مع بعض الزملاء في إحدى مراحل الرحلة لأن جواربي التي غسلتها في اليوم السابق ونشرتها كانت قد تجمدت بفعل انخفاض درجة الحرارة وكان من الصعب مرافقة الباقين دون جوارب.
كذلك انكسرت شوكة حذاء التسلق في مرحلة أخرى، والحصول على بديل يحتاج لبعض الوقت مما دعاني لاستعارة حذاء أحد زملاء الرحلة، ولا أنسى كيف أني بدأت أكلم نفسي أول مرة رأيت انعكاس وجهي في مرآة بعد فترة طويلة، يومها كنت أنظر إلى نفسي واسأل "هل هذا أنت يا فاروق؟" وكنت أردد السؤال وأنا أتحسس ملامحي كأنها ملامح صديق افتقدته منذ زمن.
ومن المفارقات الطريفة كذلك هو أنني وبعد كل تلك الفترة من الحرمان من مخدة وسرير صرت ما إن رأيتهما حتى أبدأ بالتحدث معهما وكأنهما صديقاي حتى أنني ومن دون خجل ضممت المخدة وصرت أقبلها فرحا بلقائها أخيرا.
وفي كتامندو وبعد الاطمئنان على زميلنا سلطان في المستشفى قررنا أنا وزميل متسلق معي تناول وجبة في مطعم إيطالي، كان الصحافيون يتحلقون حولنا ويطالبوننا بإجابات ونحن مشغولان بتناول طعام كان يكفي ثمانية أشخاص، ولا أنسى كيف أنني في لحظات كثيرة كنت مستعدا لعمل أي شيء مقابل أن أحصل على كاس لبن ( ليس بالضرورة أن يكون باردا) وبعض بسكويت التمر الذي أحبه.
صف شعورك لحظة وصولك القمة ولحظة غرست علم بلادك السعودية عليها؟
شعرت لحظتها برهبة وبامتنان لا حدود لهما لأن الله وفقني للوصول، لكنني كذلك كنت أدعوه وأنا أصلي ركعتين على تلك القمة أن يكمل نجاح مهمتي ويساعدني في رحلة الهبوط التي بإتمامها سالما فقط أعلن نجاحي في تحقيق هدفي.
كانت أروع 25 دقيقة مرت علي وأنا أنظر للعالم من تلك البقعة وأرى الغيوم قريبة وتلك الجبال بقممها الهائلة تقف أمامي شاهدة على عظمة الخالق وقدرته، شعور لا يسهل وصفه لأنه وحتى هذه اللحظة يثير في قشعريرة تختلط فيها الرهبة والفرح وعدم التصديق بأنني نجحت في الوصول وكنت أقف على تلك القمة، تلك اللحظة بروعتها كانت تستحق كل المعاناة والجهد الذي بذلته، لم يكن يهمني وقتها حتى عندما فقدت القدرة على الرؤية لمدة يومين في رحلة الهبوط من القمة.
القمة التالية التي يطمح إليها فاروق, ما هي؟
المحافظة على الاستعداد نفسه لبذل كل ما يمكن في سبيل تحقيق النجاح وخدمة وطني وديني، وتغيير صورة الشاب السعودي التقليدية التي تحبسه في قالب التكاسل وفقدان الطموح.