من آداب السفر (2 من 2)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وبعد:
فهذه تتمة لآداب السفر التي تقدم ذكر بعضها في المقال السابق:
18 ـ يستحب للمسافر أن يكبر إذا صعد الثنايا وشبهها من الأماكن المرتفعة كالجسور، وعند ارتفاع الطائرة وإقلاعها، ويسبح إذا هبط الأودية والأماكن المنخفضة ونحوها، ولكن لا يرفع صوته بذلك إلى حد التشويش على الغير، لحديث جابر قال: "كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبَّحنا" رواه البخاري.
19 ـ يستحب إذا أشرف على قرية أو بلدة يريد دخولها أو منزل أن يقول دعاء دخول القرية، وهو ما جاء في حديث صهيب ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: "اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها " رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وغيرهما.
20 ـ يستحب له أن يدعو في سفره في كثير من الأوقات، لأن دعوته مجابة، ولحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على الولد" رواه أبو داود والترمذي.
21 ـ من السنة أن يقول إذا نزل منزلاً ما رواه سعد بن أبي وقاص قال: سمعت خولة بنت حكيم السلمية تقول: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك " رواه مسلم .
22 ـ السنة في كيفية نوم المسافر ما رواه أبو قتادة، رضي الله عنه، قال "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا كان في سفر فعرَّس بليل اضطجع على يمينه، وإذا عرَّس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه" رواه مسلم.
قال العلماء: نصب الذراعين لئلا يستغرق في النوم فتفوت صلاة الصبح أو أولُ وقتها.
23 ـ السنة للمسافر إذا قضى حاجته من سفره أن يعجل الرجوع إلى أهله، لحديث أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدَكم طعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل إلى أهله" رواه البخاري ومسلم.
نهمته ـ بفتح النون ـ أي: مقصوده.
قوله: "السفر قطعة من العذاب" أي: جزء منه والمراد بالعذاب الألم الناشئ عن المشقة لما يحصل في الركوب والمشي من ترك المألوف، والمراد بالمنع في الأشياء المذكورة منع كمالها لا أصلها وقد وقع عند الطبراني بلفظ "لا يهنأ أحدكم بنومه ولا طعامه ولا شرابه".
ومن اللطائف أنه لما سئل إمام الحرمين حين جلس موضع أبيه: لِمَ كان السفر قطعة من العذاب ؟ فأجاب على الفور: لأن فيه فراق الأحباب.
24 ـ السنة أن يقول في رجوعه من السفر ما ثبت في حديث ابن عمر أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا قَفَلَ من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" رواه البخاري ومسلم.
25 ـ يستحب أن يخبر أهله بموعد رجوعه، وألا يفاجأهم بعودته دون إخبارهم. ففي هذا من المصالح الظاهرة والباطنة ما يعلم بعضه بعض الناس، ويخفى كثير من مصالحه على كثيرٍ من الناس.
26 ـ يكره أن يطرق أهله طروقـاً لغير عذر، وهو أن يقدم عليهم في الليل، بل السنة أن يقدم أول النهار، وإلا ففي آخره، لحديث أنس قال: "كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يطرق أهله ليلاً، وكان يأتيهم غدوة أو عشية" رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "نهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة" رواه البخاري ومسلم.
والمعنى: هو استعداد الزوجة وتهيؤها لمقابلة زوجها بعد هذه الغيبة، ومن لم يخبر أهله فقد يجدهم على غير أهبة من التنظف والتزين المطلوب من المرأة فيكون ذلك سبب النفرة بينهما، وقد أشار إلى ذلك بقوله في هذا الحديث: "حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة". ويؤخذ منه كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة؛ لئلا يطلع منها على ما يكون سببا لنفرته منها. ولو أنه أخبر أهله أنه سيقدم عليهم بالليل فإنه لا حرج عليه أن يأتيهم ويقدم عليهم فيه، كما دلَّت على ذلك نصوص أخرى، وإنما الممنوع هو هجومه على أهله ومفاجأته لهم بعودته في الليل من غير علمٍ منهم بذلك.
27 ـ يسن تلقي المسافرين واستقبالهم لحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "قدم من سفر فاستقبله أُغيلِمَةُ بني عبد المطلب فجعل واحداً بين يديه وآخر خلفه"، وفي رواية: "قدم مكة عام الفتح" رواه البخاري.
28 ـ السنة إذا وصل منْزله أن يبدأ قبل دخوله بالمسجد القريب إلى منزله فيصلي فيه ركعتين لحديث كعب بن مالك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس" رواه البخاري ومسلم.
فإن كان القادم مشهوراً يقصده الناس قعد في مكان مناسب من بيته إن كان واسعاً أو غيره ليكون أسهل عليه وعلى قاصديه، وإن كان غير مشهور فالأمر واسع، نبه لهذا الإمام النووي ـ رحمه الله ـ.
29 ـ يستحب النقيعة، وهي طعام يعمل لقدوم المسافر، ويطلق على ما يعمله المسافر القادم، وعلى ما يعمله غيره له، ومما يستدل به لها حديث جابر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قدم المدينة من سفره نحر جزوراً أو بقرة. رواه البخاري .
30 ـ من الآداب الكريمة مطلقاً، واقترنت لدى الناس بالمسافر على وجه الخصوص أن يتحفهم بما يستطيع من هدية، وذلك لمن هم منه بسبيل كالوالدين والزوجة والأولاد ونحوهم من القرابة. وقد روى البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "تهادوا تحابوا".
31 ـ يحرم على المرأة أن تسافر وحدها من غير ضرورة إلى ما يسمى سفراً سواء بُعُدَ أم قَرُب، لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها" رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: "مسيرة يوم" وفي رواية: "ليلة"، وفي رواية لأبي داود والحاكم: "مسيرة بريد".
والمحرم الذي يشترط في السفر هو كل من حرم عليه نكاح المرأة على التأبيد بسبب مباح. كالأب والابن والأخ والعم ونحوهم، وقد جاء بيانهم في الآية الحادية والثلاثين من سورة النور.
32 ـ إذا سافر المسلم فقد جاءت السنة بما يبين أنه لا يصلِّي السنن الرواتب، إلا ركعتي الفجر، ولكن من السنة أن يتطوع تطوعاً مطلقاً، ويحافظ على الوتر، روى مسلم وأبو داود عن عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال: صحبت ابن عمر في طريق، قال: فصلى بنا ركعتين ثم أقبل، فرأى ناساً قياماً فقال: ما يصنع هؤلاء ؟ قلت: يسبحون، قال: لو كنت مسبِّحاً أتممت صلاتي، يا بن أخي إني صحبت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى، وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى، وقد قال الله عز وجل: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
33 ـ يشرع للمسلم أن يصلي النوافل المطلقة ولو كان في السيارة أو الطائرة، ولا يشترط أن يتجه للقبلة في النافلة، وأما الفريضة فإنه يشترط استقبال القبلة ما دام قادراً مستطيعاً.
فيي الصحيحين عن ابن عمر قال: "كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي في السفر على راحلته، حيث توجهت به، يومئ إيماء صلاة الليل، إلا الفرائض، ويوتر على راحلته" وفي لفظ عند البخاري عن جابر قال: "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي على راحلته حيث توجهت فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة".
أسأل الله الكريم أن يوفق الجميع لما فيه الخير، وأن يحفظ المسلمين في كل مكان بكل أنواع الحفظ، إنه سبحانه سميع مجيب.