تضييع الوقت وتحركات اللحظة الأخيرة..إدمان يسيطر على سلوكيات الشباب
سر النجاح والتقدم في حياة الشعوب والأمم يكمن وراء احترامهم للوقت ومقدرتهم على الاستفادة منه واستغلاله في بناء أنفسهم وصقل مواهبهم وتنمية مصادر معرفتهم والرفع من مستوى إمكانياتهم كل يوم للأفضل..أو في تقديم واجباتهم وإنجاز الأعمال الموكلة بهم بالصورة المطلوبة، وفي وقتها المطلوب أيضاً، إذ إن احترام فضيلة الوقت مقياس لاحترام الأشخاص أنفسهم.
لكن هناك ظاهرة غريبة منتشرة بشكل كبير بين صفوف المجتمع ألا وهي تأجيل الأعمال إلى الغد الذي قد لا يأتي أصلاً، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين يفضلون العمل في اللحظات الأخيرة والتي قد تأتي في وقت لا ينفع فيه الندم أو ربما لا تأتي أصلاً..
لم يكن الشاب عبد الله العايد بحاجة لتحمل ألم شديد في أحد أضراسه جعلته يقضي ليلة في مكابدة ألم فظيع بانتظار قدوم الفجر حتى يركض مسرعاً باتجاه طبيب الأسنان لخلع ذلك الضرس فطالما ظلت فكرة التخلص منه أمراً ملحاً لكنه يؤجل من أسبوع إلى آخر رغم تحمله للألم الناجم عنه بين الحين والآخر ربما كان الحال سيطول به أكثر لكن الألم هذه المرة فاق مقدرته على التحمل.
وأخيراً تخلص عبد الله من ضرسه الذي نخره السوس مكرهاً لكن بعد أن انتقلت العدوى إلى أسنان مجاورة سيضطر حتماً إلى خلعها مستقبلا..إنه نموذج للإهمال وتمييع الوقت.
وفي مثال آخر كان بإمكان الشاب سعود الحمد تحقيق التفوق في الدراسة وإحراز مرتبة متقدمة بين زملائه إلا أن وقتاً طويلآً متاحاً أمامه في التحصيل والمذاكرة أضاعه دون استفادة وتركه يمر دون فائدة.
تحركات اللحظة الأخيرة
سعود الذي كان يدرس في المرحلة الثانوية كما يحكي عن نفسه يترك عاماً دراسياً يذهب دون استغلال ويكتفي بما يستطيع فهمه من شرح المدرس في الفصل دون أن يتعب نفسه بالمراجعة في المنزل، إنه كما يقول يحاول الاستعاضة عن ذلك بحشد طاقات مضاعفة في الأسابيع الأخيرة من الفصل الدراسي في بذل مجهود استثنائي وكبير من أجل اجتياز الامتحان وتحقيق النجاح ويحاول من خلال الأيام التي تسبق الامتحان تعويض ما أهدره من أشهر لم تكن تحتاج منه كل تلك الجهود والسهر وحالة القلق التي يعيشها خلال الفترة الحرجة.
وعلى الرغم من أن سعود استطاع مع تلك الجهود أن ينجح لكن بتقديرات متدنية إزاء ما سماه ''حلول اسعافية'' كان يلجأ إليها في الأوقات الصعبة والحرجة، إلا أن تضييع الوقت وتحركات اللحظة الأخيرة أصبحت عادة لدى سعود وانعكست على مجمل حياته وسلوكه اليومي الذي يمارسه في شتى مناحي حياته.
لا شعور بمقدار الخطأ
ويتذكر الشاب فهد الفرحان كيف كانت تمضي فترة تسجيل الناخبين للتصويت في الانتخابات البلدية مطلع العام الجاري، إذ كسل فهد من التسجيل في أيام ظلت اللجنة تعمل للفترة طويلة حتى المساء وكل يوم يقول غدا إلى أن فاته التسجيل في صورة تقدم الواقع الذي أدمنها الكثيرون من أبناء جيله وأصبح مع مرور الأيام سلوكا وعادة يمارسونها دون الشعور بمقدار الخطأ.
ضاعت الوظيفة
اللحظة الأخيرة قد تمكن شخص ما من تدارك الأمر وإنجاز ما كان ينبغي إنجازه من وقت مبكر، لكنها لا تأتي بالنتائج نفسها ولا تحقق الفائدة ذاتها فيما لو مضى التنفيذ بالشكل الطبيعي بما يحتاج إليه من وقت كاف وقد تضيع أمام المرء فرص كثيرة تذهب ربما دون رجعة، نتيجة التكاسل عن اتخاذ خطوة ما ربما لا تحتاج للكثير من الجهد أو الوقت..قرأ الشاب نايف الحربي إعلاناً في صحيفة ''الاقتصادية'' على وجود وظائف لنفس تخصصه في إحدى الشركات وكان التقدم محدداً بفترة لا تزيد عن شهر،إلا أن تأجيل نايف لتقديم وثائقه للشركة المعلنة من يوم لآخر حتى استنفد الوقت المتاح وحاول أن يجد من الأيام الأخيرة فرصة لتجميع الوثائق المطلوبة لكن الوقت لم يكن كافياً، في حين أن زميله أحمد الذي شاركه في قراءة الإعلان أصبح يجلس على كرسي الوظيفة.
تفضيل الراحة على التعب
محاولة متأنية مع شباب الجامعة في اقتراب من واقع يغزو الشاب بكثرة..
خالد الغامدي من قسم علم النفس في جامعة الملك سعود يختلف الأمر بالنسبة له فيما ينجزه من أعمال بحسب الدافع في المهمة، فهو يقول إذا كان العمل الذي يتطلب مني الإنجاز دافعه قوي فإنني أنجزه سريعاً فيما لو كان الدافع غير قوي فإنه يتباطأ في الإنجاز لكنه لا ينفي بأنه في الغالب يؤجل الكثير من الأعمال حتى وقت قريب من الموعد المقرر لها.
ويشير خالد إلى أن اللحظات الأخيرة تدفع الكثيرين إلى إنجاز ما يلقى على عاتقهم من مهام تكاسلوا في القيام بها سابقاً، ويرجع أسباب ذلك إلى العديد من الظروف الاجتماعية والثقافية والميل إلى تفضيل الراحة على التعب.
تقاعس وبطء
أما عبد الله الشمري الطالب في كلية الآداب فهو الأخر يميل إلى تأجيل أعماله حتى قرب انتهاء الفترة المقررة ومع ذلك فهو يؤكد أهمية عدم التأجيل وإنجاز الأعمال أولاً بأول كشرط ضروري للوصول إلى النجاح.
ويرى عبد الله أن تأجيل المهام ظاهرة تزداد مع مرور الأيام وبصورة لافتة وعلى وجه الخصوص في أوساط الشباب، مشيرا إلى أن التأجيل يبدأ بصورة تدريجية، فقد يبدأ الشخص أكثر التزاماً لكنه سرعان ما يميل إلى التقاعس والبطء في التنفيذ شيئاً فشيئاً ويتحول الاجتهاد الذي رافق خطوة البداية إلى تكاسل.
تمرد ورفض قيود الالتزام
ويعتقد علي القحطاني المدرس في إحدى ا لمدارس الحكومية في الرياض، أن تأجيل الأعمال ترجع لأسباب نفسية حيث يعتبر الشباب ذلك بأنه نوع من أنواع التحرر والتمرد ورفض قيود الالتزامات التي ينظر إليها بأنها نوع من أنواع القيود التي يسعى الشباب إلى التمرد عليها.
ويقول القحطاني إن الوصول إلى تحقيق النجاح وإحراز التقدم ليس بالأمر السهل ويتطلب المزيد من المثابرة والجد في الكفاح من أجل الوصول إلى الغايات المنشودة، ولذا فإن الذين استطاعوا تحقيق النجاح في حياتهم العملية وصلوا إلى ذلك من خلال استثمار الوقت وعدم تأجيل مهام اليوم إلى الغد.
وتابع: قديماً قالوا: ''الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك''، وهذا اختزال منطقي لما يفترض أن يعيه الكل.
لا للتأجيل
في المقابل يعترف الشاب ظافر الشهري إنه لا يعرف شيئاً اسمه تأجيل في المهام لأنه اعتاد على إنجاز المهام في أوقاتها المناسبة.. ويقول الشهري وهو خريج من أحد أقسام الإعلام في إحدى الجامعات السعودية، إنه لا يهدأ له بال إلا باستكمال جميع ما هو مناط به، يفعل ذلك لأنه أصلاً يريد أن يكون شخصية ناجحة في حياته العملية، ويرفض كل صور وأشكال الاستهتار.
إرباك وقلق
ثامر الخلف الموظف في المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة، يقول إنه من المؤسف أن هذه الظاهرة أصبحت سلوك حياتي يسيطر على الكثيرين ويترتب عليها الكثير من النتائج السيئة سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى العام فهي توقع أصحابها في دائرة الإهمال والتقاعس عن إنجاز ما هو مناط بهم من أعمال أو ما يجب فعله من مهمة شخصية أو عامة.
وبين ثامر أن هذه الظاهرة لها عواقب وخيمة لما تسببه من الإرباك والقلق إزاء ذلك التأخير وضياع وقت كبير، كان يفترض أن يستغل وتجعله يبذل جهداً مضاعفاً يفوق قدراته يحاول فيه تعويض أو بالأصح تلافي ما أضاعه من الوقت المتاح لجهد بسيط لن يكلفه أي عناء على عكس ما يتطلب منه الوصول إلى إنجاز المهمة فيما يسمى بالوقت الضائع. وقال إن هؤلاء الأشخاص يضعون أنفسهم في وضع حرج للغاية ويسببون لأنفسهم مشاكل عدة وتضيع عليهم فرصة الاستفادة من الوقت الذي كان متاحاً أمامهم وتأتي حصيلة ما نفذ في اللحظات الأخيرة من المدة المخصصة للتنفيذ في صورة عمل مشوه وناقص تعتريه الأخطاء ولا يصل إلى مستوى ما هو مطلوب في الأصل ولا يمكن الاعتماد عليه أو توخي الفائدة من وراء نتائجه وتبقى محل تذمر وانتقاد الآخرين ورفضهم لها ليمتد أثرها على المستوى العام، فلا يمكن المقارنة بين طبيعة الاستفادة التي تعود بها نتائج مهمة أعطت من الوقت الذي تستحقه وبين إنجازه في وقت غير كافٍ للإنجاز اللازم لأن ذلك الإنجاز حتماً جاء على حساب الجودة في الأداء والتنفيذ.
لامبالاة وعدم إحساس بالمسؤولية
وحين يغدو الأمر ظاهرة تسيطر على مجتمع يبقى البحث في أسبابها وصولاً للحلول أمراً حتمياً. هناك العديد من النظريات القائمة على الأبحاث العلمية التي عنيت بالانجاز ودوافعه الأهم في الأمر أن تلك النظريات صورت المجتمعات النامية، بأنها مجتمعات غير قادرة إطلاقاً على الإنجاز.. وحصيلة نقاش أمضيناه مع المختصين في علم النفس وعلم الاجتماع، سجلت مواقف مقلقة جرى انتشار هذه الظاهرة التي ترتبط بالتخلف وأرجعت أسبابها إلى جملة من العوامل أبرزها حالة الإحباط واليأس الذي قد يسيطر على البعض ممن يفضلون العمل في الأوقات الضائعة إلى جانب ما يسيطر على بعضهم من اللامبالاة وعدم الإحساس بروح المسؤولية وغياب الكثير من القيم.
وينتقد المختصون، غياب النظريات من المجتمعات النامية المهتمة بالإنجاز ودوافعه في دراسة هذا الواقع الذي يزداد في الانتشار. وعلق بعضهم على أن التربية على سرعة إنجاز المهام يتطلب توازناً غذائياً سليماً وتناول الخضراوات والوجبات المفيدة، وهو ما لا يحدث أصلاً في المجتمعات النامية.
معاهد لبث روح الإنجاز
ويقول: لذا من الطبيعي أن تجد المجتمعات النامية غير قادرة على التحرك والعمل بحيوية ونشاط لافتاً أنه في الدول المتقدمة توجد معاهد إنجاز مهمتها بث روح الإنجاز وبعث دوافعه ودراسة آلية الوصول للنتائج الأفضل، ويضيف على ذلك بأن انتشار قيم اللامبالاة أدت إلى الانفلات في كل شيء.
ظروف عامة
ويرجع أساتذة في علم النفس تلك الظاهرة إلى جملة من الأسباب المحيطة بهؤلاء الأشخاص والظروف العامة التي يغيب فيها مبدأ الحافز ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب مما يتسبب في قتل روح الطموح لدى المجتمع وتسيطر عليه مشاعر الإحباط.
وشدد علماء النفس على أهمية ووجود دراسة متعمقة للشخص عند شغل أي وظيفة حتى نستطيع ضمان قدرة الانجاز المطلوب منه ويشدد على ضرورة التنبه لمسألة الفوارق الفردية بين الأشخاص فما يستطيع شخص تقديمه لا يقدر عليه آخر إضافة إلى عامل التنشئة.
النتائج
واتفق عدد من أساتذة علم الاجتماع على أن عدم وجود نتائج مجدية للعمل الذي يقوم به الفرد يشكل سبباً يخلق لدى الشخص عوامل نفسية تحيط بأي عمل يعتزم القيام به إلى جانب ما تلعبه الظروف المحيطة بحياة الأشخاص الذين نشأوا في مجتمع ما ويتطلب منهم الواقع أشياء أخرى غير ما تعلموه في بيئتهم. وأشاروا إلى أن درجة الاستجابة تختلف من شخص لآخر تجاه أي عمل من الأعمال فقد يكون سلبياً أو إيجابياً والبعض تأتي حالة الاستجابة لديهم متأخرة في اللحظات الأخيرة والأوقات الضائعة، وينوه إلى مسألة نشوء السلوك لدى المرء الذي يكتسبه من البيئة المحيطة به وذلك منذ ولادته.