عقود التوريد هل لها مخرج في الفقه الإسلامي؟
المجتمع العربي والإسلامي في جملته مجتمع استهلاكي وليس صناعي؛ مما يدفعه إلى استيراد ما توصل إليه العالم الصناعي من تقنيات صناعية عالية، أو استصناعها، كالآلات والمعدات الحديثة؛ لأهميتها الاقتصادية والعلمية، ودورها الخطير في تقديم خدمات الصحة والتعليم والدفاع وغير ذلك، مما تتوقف عليه الحفاظ على مصالح الأمة، كما أن عقود التوريد والمقاولات قد تكون عقوداً عامة، وقد تكون عقوداً خاصة يعقدها الأفراد أو الشركات. الإشكال الذي يرد على عقود التوريد أنه في الغالب يكون اتفاق ملزم للطرفين (عقد) وهذا الاتفاق عند إبرامه لا يتضمن تسليم أحد العوضين أو كليهما، وبناء على ذلك رأى كثير من الفقهاء المعاصرين أنه من قبيل بيع الدين بالدين المنهي عنه شرعاً، وبذلك جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي (107) (1/12).
لكن هل هذا القرار مسلم عند الباحثين المعاصرين؟ وهل هذا هو رأي الفقهاء المتقدمين؟ ألا يوجد في تراثنا الفقهي ما يمكن أن نخرج عليه عقود التوريد التي أصبحت حاجة إن لم تكن ضرورة في بعض الأحيان؟
في بحث للدكتور عبد العزيز بن إبراهيم الشبل عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام تعرض للموضوع وجاء فيه: بداية هناك بعض الصور التي ذكرها الفقهاء تنطبق على عقد التوريد ـ أو هي قريبة منه ـ وهذه الصور يجمعها أنها بيع تأخذ فيه السلع شيئاً فشيئاً، ويضيف الشبل هذا البيع لم يتفق الفقهاء على اسم واحد له بل له عدة أسماء منها بيع الاستجرار وبيعة أهل المدينة، ومسألة السعر كما يسميها شيخ الإسلام الوجيبة مع التنبيه إلى أن أغلب الفقهاء لا يحددون له اسما بل يصفونه وصفاً، كأن يقولوا ما يأخذه المشتري من البياع، أو من البقال شيئاً فشيئاً، ونحو ذلك.
وقال الشبل: إنه من الواضح مما سبق أن مثل هذه العقود قد عرفها الفقهاء قديما، وهي جائزة بشروط عند المالكية وبعض الحنابلة.
من جانب آخر، يقول الدكتور يوسف الشبيلي في جواب له حول سؤال عن عقد التوريد: إن عقد التوريد، هو عقد جائز على الصحيح من أقوال أهل العلم، وأما المحظورات التي قد يتوهم اشتمال العقد عليها فهي غير مؤثرة فكون العوضين - الثمن والمثمن - مؤجلين في عقد التوريد لا يؤثر في صحة العقد ويعلل الشبيلي لذلك بقوله لأن النهي عن بيع المؤجل بالمؤجل إنما ثبت بالإجماع دون النص، والإجماع لم يقع على كل صور بيع المؤجل بالمؤجل، بل وقع على بعض الصور دون بعض، وأضاف حينئذٍ فإن التحريم يثبت في الصور التي وقع الاتفاق عليها دون التي وقع الخلاف فيها، وهذا العقد مما وقع فيه الخلاف فلا يثبت له التحريم، ويؤكد الشبيلي صحة ما ذهب إليه بقوله إن مما يدل على ذلك أن أهل العلم جوزوا عقوداً متعددة يكون فيها العوضان مؤجلين ومنها عقد الاستصناع وبيعة أهل المدينة.
ونبّه الشبيلي إلى نقطة مهمة حول عقود التوريد وهي غرامات التأخير وقال: غرامات التأخير التي يضعها المستورد على المورد في حال تأخيره إذا كانت خصماً من قيمة العقد فهي جائزة، لأنها ليست زيادة في دين ثابت في الذمة بل هي خصم منه، وهي نوع من الشروط الجزائية، وقد أفتى مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة بجوازها، وبأن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر يجب الأخذ به، ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالتزام الموجب له يعتبر شرعاً، فيكون العذر مسقطاً لوجوبه حتى يزول.
وتابع: أما إذا كان الشرط الجزائي كثيراً عرفاً بحيث يراد به التهديد المالي، ويكون بعيداً عن مقتضى القواعد الشرعية، فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة أو لحق من مضرة، ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر.
ونعود لنختم الحديث من كلام الدكتور الشبل حول عقد التوريد، حيث يقول هذه العقود إذا طبقت بمراعاة الشروط التي يذكرها فقهاء المالكية فإنه لا يوجد فيها ربا ولا غرر، ولم يثبت فيها إجماع، فتبقى على الأصل وهو الإباحة.
وتابع: وعلى ذلك فإذا كان عقد التوريد بين تاجر وبين مصنع ينتج سلعة من السلع، وبعد العقد تم توريد هذه السلعة للتاجر وتم الاتفاق على قدر (كمية) السلع الموردة، وتم الاتفاق على موعد سداد الثمن، وكان تحصيل ثمن هذه السلع مأموناً في الأحوال المعتادة، كأن يكون التاجر صاحب مكانة اقتصادية بحيث يستطيع تصريف هذه السلع وردّ ثمنها، أو كان التاجر يتعامل مع الدولة والدولة لم يعهد عنها جحد لحقوق التجار، أقول إذا توافرت تلك الشروط فما المانع من القول بصحة عقد التوريد؟
في رأيي المتواضع لا يوجد مانع من ذلك، خاصة أن مصالح الناس متعلقة بهذه العقود.