في انتظار مبادرة براون
في انتظار مبادرة براون
نعت مجلة "الإيكونومست" (عدد 3/7/2008)، قمة الثمانية قبل أسبوع من بدئها، بتساؤلها عن أهمية مثل هذه التجمعات قائلة: ما فائدة قيام قادة هذه الدول ببحث مشكلة ارتفاع أسعار النفط في غياب السعودية؟
المجلة طرحت على المحك المؤسسات التي برزت عقب الحرب الثانية وعلى رأسها ما يعرف بمؤسسات "بريتون وودز"، والإشارة إلى كل من البنك وصندوق النقد الدوليين، حيث أدت العولمة وتحرير الأسواق وتحسن فرص الوصول إلى الأموال بصورة أكبر إلى جعل هاتين المؤسستين في حالة بحث مضن عن هوية ودور جديد ليلعباه، بل انتهى الأمر بصندوق النقد إلى التجرع من الكأس نفسها التي سقاها الآخرين: خفض الإنفاق وتقليص العمالة إلى غير ذلك من خطوات وصفته الجاهزة.
حالة الاضطراب والبلبلة التي تعيشها أسواق النفط إحدى علامات مرحلة الانتقال هذه. فعقب اجتماع جدة الشهر الماضي بأسبوع التأم اجتماع آخر للمنتجين والمستهلكين في العاصمة الإسبانية مدريد تخللته ذات الاتهامات المتبادلة بين الطرفين بدلا من البناء على ما تحقق في جدة من سعي لردم الفجوة ودفع بعض التفاهمات إلى الأمام.
فالخطوة العملية الوحيدة التي يمكن الاعتداد بها كناتج لاجتماع جدة إنما تتمثل في الإعلانين السعوديين، الأول خطوة مباشرة برفع حجم الإنتاج ليصل إلى 9.7 مليون برميل يوميا، وهي الأعلى منذ أكثر من ربع قرن من الزمان، والخطوة الثانية تتمثل في الإعلان عن بدء مرحلة ثانية لرفع الطاقة الإنتاجية بعد اكتمال المرحلة الحالية التي ستنتهي العام المقبل، وذلك بالتخطيط لإضافة مليونين ونصف المليون برميل ليصبح إجمالي الطاقة الإنتاجية السعودية 15 مليونا، وتخصيص نحو 60 مليار دولار لإنجاز هذه المهمة مع إضافة مليوني برميل من الطاقة التكريرية بتكلفة تقارب 70 مليار برميل إضافية وذلك خلال فترة الأعوام الخمسة المقبلة.
وفيما عدا ذلك، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن انتظاره العرض البريطاني باستضافة اجتماع متابعة لما حدث في جدة، فمثل هذه القضايا المعقدة والمتشابكة تحتاج إلى الكثير لبلورة المفاهيم التي يمكن تحويلها إلى سياسات وبرامج قابلة للتنفيذ فيما بعد، وبأمل أن تحدث تأثيرا على أرض الواقع. ومن هذا المفهوم، يمكن استبعاد ما حدث في مدريد.
بريطانيا كانت حاضرة في مؤتمر جدة على أعلى مستوى، وهو رئيس وزرائها جوردون براون، ويتجاوز حضوره الجانب البروتوكولي، بل وعرضه الانفتاح على مطالب الدول المنتجة والنظرة الإيجابية إلى ما يمكن أن تلعبه الصناديق السيادية، إلى جانب آخر أكثر أهمية. فبريطانيا كونها منتجة ومستهلكة عبر صناعتها النفطية في بحر الشمال يمكن أن تكون في وضع أفضل للعب دور المحفز والجسر الذي يمكن أن يساعد حوار المنتجين والمستهلكين على التقدم إلى الأمام.
ظلت بريطانيا وبحر الشمال تحديدا تشكلان غصة في حلق منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، فبروز بحر الشمال منطقة إنتاجية ذات ثقل في السوق في السبعينيات أسهم إلى حد كبير مع مناطق إنتاجية جديدة في ألاسكا وغيرها في حمل (أوبك) على تجرع الدواء المر وخفض أسعارها لأول مرة في تاريخها في 1983، لكن بريطانيا ليست الملامة وحدها في هذا الإطار، فسياسات (أوبك) التسعيرية هي التي جعلت استخراج نفط بحر الشمال ممكنا.
الأمر الثاني أن بريطانيا، وعلى أيام زعامة مارجريت تاتشر، تبنت موقفا متصلبا ضد أي تعاون مع (أوبك) لدعم استقرار الأسعار، وذلك استنادا إلى مصلحة وطنية ضيقة، فالنفط لم يمثل لبريطانيا وقتها أكثر من 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لديها، كما أنها دولة مستهلكة في الأساس، إذ تبيع الخامات الجيدة من إنتاج بحر الشمال في الأسواق وتشتري نفطا أرخص سعرا وأقل جودة للاستخدام المحلي. وأدى هذا إلى أن يطلق وزير النفط النيجيري الأسبق تام ديفيد ويست مقولته الشهيرة أن أرجل نيجيريا في (أوبك)، لكن عيونها على بحر الشمال، فالنفط النيجيري منافس لذلك المنتج من بحر الشمال، ولذا لم تكن نيجيريا في وارد التخلف عن أي ترتيبات سعرية تقوم بها بريطانيا لتسويق نفطها، وهو ما فتح الباب في نهاية الأمر لما عرف بحرب الأسعار.
هذه المرة الأمر مختلف، فبداية هناك النقطة الواضحة أن براون ليس بتاتشر، ومع كل الاختلاف في الشخصية والأسلوب، فهناك أيضا ميراث التجربة السابقة التي لم يستفد منها أحد عدا الحصاد القصير النظر، ثم هناك أيضا حالة التحولات التي تنتظم العالم مع تدافع موجات العولمة، وفوق هذا كله أن الدعوة لاجتماع المتابعة جاءت من طرف بريطانيا. وصاحب الدعوة يحتاج إلى إنجاح الاجتماع الذي دعا إليه. وليس هناك أفضل من العمل بشيء من الروحية الجديدة وإبراز دور بريطانيا الجديد لدفع حوار المنتجين والمستهلكين إلى الأمام.