قناع الغوص والفراشة السرد بعين رامشة ( 1 )
بعد ثلاثة أسابيع من الإقامة في غيبوبة مفاجئة، ينتبه جون دومنيك بوبي، على جسدٍ مشلولة كل أطرافه الحسيّة، نتيجة تعرضه لحادثة وعائية دماغية، أدت إلى تعطيل عمل الجذع المخي. وعلى إثر ذلك الحادث أصيب بإعاقة حركية نادرة، تعرف بمتلازمة المنحبس Lock-In Syndrome حيث منعته من الحركة كلياً، ما عدا عينه اليسرى، حتى عينه اليمنى تم أغلاقها بالخياطة لئلا تتقرح قرنيتها وتكون عرضة للتجرثم، وكان حينها ( سنة 1995 ) صحافياً مرموقاً ويرأس تحرير مجلة الأزياء الفرنسية المشهورة ELLE. وقد وجد الأطباء صعوبة بالغة لإخباره بالأمر، نتيجة عدم وجود أي طريقة للتواصل معه وإعادة تأهيله.
وبعد جولة من التشاور والفحوص تم إيلاء هذه المهمة المضنيّة إلى مدرّبة النطق الصبورة أونريت دوران لتتواصل معه عبر إرماشات عينه اليسرى، بما هي العضو الوحيد المتبقي للتراسل معه، ومعرفة الشكل الذي يرى أو يحلم أن يكون العالم عليه من خلاله. وهي تقنية تواصل مرهقة، ليس بالنسبة له وحسب، بل حتى لمن يحاول التواصل معه وتشكيل ما يريد التلفظ به في كلمة أو عبارة، حيث يفترض بموجبها أن يرمش بعينه لمرة واحدة لقول ( نعم ) ولمرتين لقول (لا) بمجرد أن يتلفظ المتحدث معه حرفاً هجائياً صحيحاً من الكلمة أو الحالة التي يحاول التعبير عنها.
وكان قد تعاقد قبل الحادثة مع بيتي مالي لكتابة رواية عن الانتقام لدى النساء، كرؤية عصرية لرواية دي مونت كريستو، لكن مشروعه انهار بعد إعاقته، وبدأ في التفكير في كتابة ما سماه " مذكرات سفر غير متنقل لناجٍ من الغرق على شاطئ الوحدة ". وعليه تم ترشيح كلود ماندييل لتكتب ما يمليه، واستخلاص ما يريد قوله، حتى تمخض تواصلهما لخمس ساعات من العمل يومياً، عن علاقة إنسانية عميقة، وعن كتاب أشبه ما يكون بالمعجزة، استطاع من خلاله التعبير عن وجوده، بسيرة موجعة تعكس معاناته ومثابرته من أجل البقاء، ولكنه توفي مباشرة بعد الفراغ منه بأيام، فيما كانت تجهد لإنقاذه بصوتها المخنوق ودموعها السخية، حيث كانت تلوح له به مطبوعاً وهو يتمتم غير مصدق " هل يعتبر هذا كتاباً؟!". مستهلاً صفحاته بعبارة إمتنان لها " إلى كلود التي ستفهم من خلال الصفحات دورها في كتابتها ".
وهكذا ظهر الكتاب مطبوعاً سنة 1997 بعد رحلة من المعاناة. وقد أهداه إلى أبنائه ( تيوفيل - سيليسيت - أورتونس ) متمنياً لهم الكثير من الفراشات. ومنذها، ظل مادة مثيرة للقراءة والإعجاب، حتى تلقّفه الكاتب رونالد هاوارد، فأعده للشاشة العام الماضي، من خلال فيلم بعنوان The Diving Bell and Butterfly مستمداً عنوانه، من مونولوج داخلي عميق الدلالة أجراه جون مع نفسه، حيث شبّه حالته المثيرة للشفقة، بجسد غواص في أعماق البحار يخنقه قناع الغوص، كما شبّه خيالاته وتجنيحاته الشعرية بالفراشة، حيث تكررت مشاهد الغوّاص المأخوذ على غير إرادة منه إلى أعماق المحيط، مقابل صوّر الفراشات الملونة.
أما مضمون الفيلم فقد تم اشتقاقه من دفق عباراته المتدافعة، التي تعكس عمق وطبيعة إحساسه بالمعنى المفاجئ للحياة، فيما يبدو إصراراً من المخرج جوليان شنابل على الالتصاق بمكامن الوجع، وإنطاق ذاته المتألمّه بنبرة خفيضة تتسيد العرض، خصوصاً العبارات المفصلية التي تعتبر بمثابة منصات لتوجيه الخطاب، حين يتمتم " إضافة إلى عيني، ما زلت أمتلك شيئين لم أفقدهما: خيالي وذاكرتي ... يجب أن أتوقف عن رثاء نفسي ... لا بد من ممارسة ما أسميه معجزة لرفع معنوياتي ... إن الاعتقاد بالمعجزة الشخصية شيء خطير ". وبموجب بلاغة تعبيراته اللغوية تم استدعاء جملة من الاستيهامات المتصوّرة المؤكدة على مزاجه التهكمي وخياله النشط، الذي يمكنه بواسطته تخيل أي شخص وأي مكان، ويكون بمقدوره زيارة المرأة التي يحب، حسب تعبيره، ويعيش أحلام الطفولة ومطامح الرجولة.
وبكاميرا جانوس كمنسكي تم استظهار التعبيرات الكثيفة والمحزنة على وجه رجل معذّب وعاجز عن التعبير، والاندساس الرهيف بالعدسة إلى أعماقه، بإحلالها محل عينه اليسرى، وإزاحة رؤية الفيلم بكامله إلى ذلك المنظور، بحيث تبدو الرؤية وكأنها حالة من السرد عبر إرماشاته، فالحياة مرئية من خلال ما يراه، وما يطرأ على عينه من تشوش وإدماع وإظلام، وما يربك تلك الرؤية نتيجة حركته الجثمانية، كاختلال خط الأفق عندما حملوه مثلاً، وكذلك عندما رأى زوجته سيلين لأول مرة بعد الحادثة، حيث تم تضبيب الشاشة، ثم إعتامها، في إشارة إلى أن عينه قد اغروقت بالدموع، وهكذا كان يتم التعامل مع زوايا الرؤية ومساقطها التي جاءت وفق ما تلتقطه عينه، لتعفي الفيلم من الثرثرة والشروح، وتصعّد معنى معاناته، من خلال فيلم بصري بامتياز.