تجربة عبدون: قصة عامية لكن حديثة

تجربة عبدون: قصة عامية لكن حديثة

-1-
تمثل تجربة المبدع السعودي عبد الله السالم "عبدون" محاولة مختلفة في القصة، والرواية، فهو كاتب اتجه إلى الكتابة باللهجة المحكية، متفادياً خيار الكتابة باللغة العربية الفصحى الذي درجت عليه القصة في السعودية، وهو ما يمثل تجاوزاً لاستخدام العامية في الحوار الذي يجري على ألسنة الأبطال ضمن القصة إلى كتابة نص كامل باللهجة العامية، وبعيداً عن التعليق على سجال مشروعية استخدام العامية في الإبداع، أفضل الحديث عن سمات استخدام عبدون لها في غالب نصوصه.
ثمة ثلاث سمات متداخلة لهذا الاستخدام، أولاها أنها أتاحت للمؤلف سعة في التعبير أكثر من الفصحى، وثانيتها أن هذا الخيار لم يجره إلى الاشتغال بإبراز اللهجة، وحمل مهمة إحياء التراث، بل استعمل اللهجة بوصفها أداة تعبير في مواضيع معاصرة، وثالثتها أن هذا الخيار مثّل إطاراً ملائماً للشكل الحميمي الذي حرص عليه، فبالإضافة للغة، حرص السالم الذي ينشر أعماله بنفسه، على القطع الصغير من الورق، ونوعيته المائلة للصفرة، ووزنه الخفيف، بحيث يمكن حمل الكتاب وقراءته في أي موضع، وهو تقليد غربي لم تستورده الرواية المحلية، فضلاً عن حرصه على إدراج صور مختلفة ضمن صفحات كتبه، وهي أشبه بفاصل بين فصول الرواية، أو القصص، وهذه الملامح الشكلية هي أول ما يقابل القارئ في تجربة عبدون، التي ما زالت –فيما أرجو- تعيش مراحلها الأولى.
-2-
إن القراءة المتمهلة لأعمال "عبدون" تفضي إلى استنتاج أن الملامح الشكلية المميزة ليست مبعث الاختلاف الأهم في تجربته عن غالب الإنتاج الموازي، ففي هذه التجربة انخفاض لافت للهجة الوعظية، سواء الوعظية الأخلاقية، أو الوعظية المعارضة لها، ونزعة ظاهرة صوب الإنجاز الفني، لا التوسل بالفني لإنجاز سواه.
وأرجح أن القارئ سيلاحظ – معي- غياب استخدام أساليب الإثارة القائمة على التماس مع كل خط أحمر يمكن مسه، وتراجع خيارات الإدلاء بتصريحات مباشرة، أو نشر مذكرات شخصية، أو تلاوة مرافعة اجتماعية، لصالح محاولة لاكتشاف الذات بصيغة إبداعية، في رحلة فنية سامية باتجاه الإنسان، ومثل كلما هو سام، ليست ضد شيء.
فضلاً عن الانحياز لخيار أكثر تفاؤلاً من خلال بروز المظهر الكوميدي عوض فجاجة الفضيحة، واجترار المأساة، وفي الخلاصة تمثل تجربة عبدون تمرداً على النمط، أو الأنماط، الشائعة للقصة والرواية السعودية في السنوات الأخيرة، في رأيي على الأقل.
-3-
بالاقتراب أكثر إلى الجانب الفني، فإن عبدون عظيم التمسك، في القصة، والرواية، بأسلوبين –مجتمعين- في كتابته، الأول هو الترجمة الذاتية الذي تروى فيه القصة على لسان احد أبطالها، كما أنه مخلص لأسلوب المونولوج الداخلي، وهو أسلوب يقوم على تصوير الأفكار المتداعية في أذهان شخصيات القصة، بحسبان رصد الفكرة أهم وأجدى من رصد الكلمة، لذا تغمرك نصوصه بأسئلة ذكية وقلقة وعميقة، وبمشاعر متحركة تشتبك معها لفرط برأتها، وكلا الأسلوبين سبب للآخر، ونتيجة له.
يتجاور مع هذا حرص ظاهر على تصوير مشاهده بكثافة تفصيلية، تنقلك بيسر إلى المكان، وموالاة للحدث تهديك التشويق، وتعفيك من تلقي اصطناع المؤلف التأمل، ونمو مواز للشخصيات المتفاعلة مع الحدث، وإصرار مشاغب على مواربة النهاية، فلا إجابات قاطعة، ولا لحظة تنوير حاسمة، ومجموع هذه السمات الفنية تتوحد في رفق، لتشكل خلاصة تجربة هذا المبدع الذي اختط قصصه لكي تخبر بما في عمق نفس البطل، أكثر من أن تخبرك بما جرى له، أو بمواقفه وآرائه في الحياة العامة.

-4-
نشر عبدون روايتين، الأخيرة هي رواية الألم في التفاصيل التي نشرت عام 2006م، وهي تحكي في خطها الرئيس تجربة عزيز، وهو طالب سعودي يجيد العزف على العود سافر للدراسة في مدينة نيويورك، وربطته المصادفة بفتاة أمريكية –زهرة- محبة للموسيقى العربية، فكونا معاً ثنائياً عازفاً، وجمعتهما جملة من الأحداث الصغيرة، وتفرع من هذا الخط الرئيس آخر فرعي، تمثل في حكاية عزيز لزهرة عن زيارتيه لمدينة ليلى -جنوبي الرياض- التي تخلد اسم المحبوبة الأشهر، وشيئاً فشيئاً يتحول المتكلم بحكايته من زهرة إلى القارئ، قبل أن تمر سنة على عودة الطالب المبتعث لوطنه، لتأتي زهرة لزيارته، وتلح على زيارة ليلى أيضاً، فيصير الفرعي هو الرئيس، ويستحيل الهامش متناً.
النص تميز عن أغلب نصوص مؤلفه باتخاذه العربية الفصحى لغة أساسية، وإن تسامح المؤلف مع حضور محدود للعامية، ولم يحدث هذا من قبل إلا في المجموعة القصصية "قفاك"، إلى ذلك أدى استعماله لأسلوب ثنائية المكان، نيويورك وليلى، قبل امتزاجهما، ثم اختفائهما، إلى صناعة قصة ممتعة.
ورغم صغر الأحداث التي سجلها لنا المؤلف، إلا أن عنايته بالتفاصيل، واجتهاده في استحضار آثارها النفسية، هو ما جمع لهذه الرواية بساطة الشكل، وعمق المشاعر، فهو نص تراه، وتحس به.
-5-
الرواية الأولى لعبدون نشرت في عام 2003م، وحملت اسم "جن .. ثالث"، وهي قصة شابين يقومان برحلة سياحية إلى "بلبوان راتو"، شاطئ الشياطين شرق الآسيوي، الذي تخبرنا الرواية عن أسطورته، وخلاصتها أن فتاة من القرية الساحلية قتلت ظلماً ورميت في البحر، ومنذ ذلك الحين وهو بحر هائج لا يجرؤ أحد على الإبحار فيه، ولا السباحة فيه ليلاً.
وحيث لا تسعني إعادة إنتاج الرواية هنا، فإني أختصر بالقول إن الحدثين الأكثر بروزاً هما أولاً لقاء كائنات شبه بشرية، وثانياً المغامرة التي يخوضها السياح، بالنزول للشاطئ ليلاً، والتي انتهت بابتلاع شاطئ الشياطين لأحدهما، واضطرار الآخر للعودة إلى الوطن بدونه.
وقد انفرد هذا العمل عن "الألم في التفاصيل" بموضوعه الما ورائي، وصياغته كاملاً باللهجة المحكية النجدية، القصيمية إن أردت الدقة، ما دفع المؤلف إلى وضع قائمة في نهاية الكتاب بتعريف بعض المفردات للقارئ غير المطلع على اللهجة المحلية، كما اتسم بإيقاعه السريع الذي تناسب مع أحداثه المشوقة والغامضة، وهذه الصفة الأخيرة ستترك القارئ أمام أكثر من خيار لفهم الرواية.
والنص بالإضافة إلى غنى خياله، يقدم نموذجاً –آخر - يطمئن القارئ إلى أن العامية التي لم تحل دون تقديم تجارب شعرية محلية وعربية مميزة، يسعها –أيضاً- أن تكرر الأمر نفسه في ميدان القصة والرواية.
-6-
بالإضافة إلى الروايتين، نشر "عبدون" خمس مجموعات قصصية، إحداها بالعربية الفصحى، وحيث لا يسع المقام هنا استعراض الجميع، سأكتفي بتعريف موجز بمجموعة "بنت راع الدكان" التي صدرت عام 2004م، وهي مجموعة قصصية تضم ثماني قصص، تحتل أولاها "آخر أيام جدتي" أكثر من نصف مساحة الكتاب، والتي كان مقرراً نشرها في كتاب مستقل، إلا أن المؤلف تراجع عن هذا الخيار فأضاف إليها سبع قصص قصيرة، و"آخر أيام جدتي" تجربة سردية تستعيد الأسلوبين السالف ذكرهما، فطوال القصة نحن –القرّاء- نتلقى معلوماتنا من الحفيد، ونتعاطى مع مشاعره تجاه جدته التي تعيش أيامها الأخيرة.
ويأخذ المؤلف خياراً رمزياً في نصوص "الصدور" و"مستحيات الظاهر" و"دمية اسمها لطيفة"، فيما تتراجع هذه الرمزية في بقية النصوص.
ولعل الملاحظة الأبرز هنا انخفاض وتيرة الحدث في نصوص "الصدور" و"مستحيات الظاهر" و"شويتين غزل مكسور"، لدرجة تجعلك على شك في تصنيف النص بين القصة والخاطرة.
-7-
من المؤمل أن تشكل هذه الكتابة إضافة نوعية لما سبق أن نشرته من قراءات في الرواية السعودية، حيث رصدت فيها تجربة أعتقد أنها لم تحظ بالاهتمام الذي لقيته تجارب أقل في المعيار الفني، وهي تجربة مختلفة من عدة أوجه تضيف رصيداً إلى المشهد الروائي المحلي، ولن أتردد أن تكون كلمتي الأخيرة هنا أن أقترح على القارئ أن يطلع على تجربة عبدون.

الأكثر قراءة