قراصنة الكمبيوتر يضربون الاقتصاد ويطردون الاستثمارات الأجنبية

قراصنة الكمبيوتر يضربون الاقتصاد ويطردون الاستثمارات الأجنبية

قراصنة الكمبيوتر يضربون الاقتصاد ويطردون الاستثمارات الأجنبية

طاولة، ومئات أقراص الكمبيوتر، وصوت جهوري، هي عدة وعتاد الشاب محمد (سعودي)، لترويج بضاعته من الأفلام المنسوخة، والألعاب الإلكترونية "المقرصنة".
عشرات الزبائن يتحلقون حول طاولات مستطيلة، كل يبحث عن حاجته أو قل "برنامجه"، من "الفوتشوب"، إلى "الفيروسات"، مرورا بألعاب الكمبيوتر. هنا في وسط العُليا (الحي الأشهر في الرياض) وسط غابة الأبراج الطويلة، ولافتات شركات إنتاج التقنية العالمية يمكن أن تحصل على برامج بأقل من عشرة ريالات، سعرها الحقيقي بعشرات الآلاف من الريالات. يمكن أن تفرح هنا للحصول على حاجتك بسعر بخس، ويمكن أن تنفرج أساريرك وأنت تضع الـ CD بين راحتيك، لكن في الحقيقة أنت تدخل من حيث تدري أو لا تدري في عملية طرد الاستثمارات الأجنبية في مجال تقنية المعلومات، وخرق حقوق الحماية الفكرية، ومخالفة الأنظمة والقوانين المحلية والدولية.
ورغم أن عملية البيع في السوق (الوقتية) تبدو عشوائية وبريئة للوهلة الأولى، إلا أن العارفين ببواطن الأمور يدركون طريقة عملها، حيث يتقاسمها الأجانب مع السعوديين بطريقة ذكية للغاية. في الفترات الصباحية تلوح العمالة للمارة بالأقراص المخبأة تحت ملابسهم، وفي فترات ما بعد العصر يبدأ السعوديون في رصف طاولاتهم بالبرامج المقرصنة على قارعة الطريق، الذي تصب فيه عدة طرق فرعية من بين الفنادق والشقق المفروشة التي تحد الحي من جميع اتجاهاته.
"الاقتصادية" تبدأ اليوم نشر سلسلة حلقات عن ظاهرة "القرصنة"، التي يتداخل فيها الشأن الاقتصادي بالقانوني والأخلاقي في سوق يقدر حجمها بمئات المليارات من الريالات، لتبحث المشكلة وتعرض أسبابها وتستطلع آراء الخبراء المحليين والعالميين في هذا الشأن لتحديد طرق مواجهتها: هنا تفاصيل الحلقة الأولى:

البداية من سوق الكمبيوتر في حي العليا أرقى أحياء العاصمة، هذه السوق أو كما يسمونها "حراج الكمبيوتر" تعمل بطريقة فائقة التنظيم من الداخل على الرغم من الانطباع الظاهر لدى البعض بأنها تنطوي على العشوائية، حيث يوزع "القراصنة" نسبه إلى "قرصنة" وهي نسخ برامج الكمبيوتر وبيعها الأدوار فيما بينهم وفقاً لنظام دقيق كنظام تجارة المخدرات، بداية من الأفراد الذين يراقبون باستمرار مداخل السوق ومخارجها، مروراً بمن يتوجه إلى السيارات فور توقفها، أو حتى قريباً منها والتعرف على طلبات الزبائن، في حين يسارع آخرون لإحضار الأقراص المطلوبة من داخل المباني القريبة من السوق حيث يتم استنساخ البرامج المطلوبة في وقت وجيز.

اقتسام العمل

من الدلالات التي تشير إلى أن وجود "جريمة" اقتسام هؤلاء الوافدين القراصنة مع بعض رفاقهم السعوديين ممن جذبتهم العوائد المجزية للتعدي على حقوق الملكية الفكرية فترات العمل في السوق بالتناوب، حيث يستمر بيع البرامج المنسوخة على الأرصفة في شوارع العليا طوال أيام الأسبوع من الصباح حتى منتصف الليل دون انقطاع فالسعوديون يقتطعون حصتهم من البيع على الأرصفة من بعد صلاة العصر إلى الساعة التاسعة مساء، في حين يتصيد الوافدون خلال هذه الفترة زبائنهم في الشوارع التي تمر بأطراف "الحراج".

أفلام إباحية

أما بعد حلول منتصف الليل فإنه يجري في السوق ما لا يعرفه كثيرون، إنه أكبر من "حراج" لبيع البرامج وأجهزة الكمبيوتر وإن كانت "القرصنة" تفرض نفسها بقوة، حيث تتحول هذه السوق ـ على ذمة عدد من المتعاملين في الحراج ـ إلى أوكار لبيع الأفلام الإباحية المنسوخة التي يروجها باعة وافدة بحجة أنها برامج كمبيوتر منسوخة.
فمن يريد الحصول على برامج ما لإحدى الشركات العالمية المعروفة أو أي برامج عالمية وموسوعات مقلدة بملصقاتها وأغلفتها الملونة فسوف يحضرونها له على الفور وبسعر منخفض لا يقارن بأسعار النسخ الأصلية الموجودة في المعارض والمحال القريبة، ويحققون من وراء ذلك أرباحا طائلة فتكلفة الـ CD الواحد مع غلافه لا تزيد على ريال واحد، في حين يبيعونه بعد النسخ بـ 10 ريالات أو 15 ريالاً.

ترقب وانتظار

في حراج العليا يعمل "القراصنة" بجهد لإغراء زبائنهم وإتقان سرقتهم، فكم واحد من القادمين إلى شوارع هذه السوق عاشوا حالة من الترقب والانتظار لوافد لن يأتي بعدما تسلم نقوده إثر فصال ونزال في سعر أحد البرنامج وذهب لإحضاره ولم يعد، وكم من مار اشترى منهم برنامجا منسوخا وعندما أراد تشغيله وجده فارغا أو معطوبا. كما أنه لا يستطيع إعادته لهم أو استبداله لأنه لا يوجد لديهم محل ثابت يمكن الذهاب إليه.

الضحايا في ازدياد

ويرفض هؤلاء المتعدون على حقوق الملكية الفكرية أن يصطحبهم أحد إلى حيث يأتون بمنتجاتهم، خوفا من كشف أمرهم والتعرف على كيفية قيامهم بنسخ هذه الأقراص أو مواقع تخزينها، إلا أنه في كل يوم ينجذب لهم مزيد من الضحايا الطامعين في الحصول على ما يحتاجون إليه من برامج بأقل التكاليف.

ماذا يقول عملاء القرصنة؟

بالنسبة لمرتادي "بسطات" بيع النسخ المقلدة من المستهلكين، فإنه من الملاحظ أن معظمهم من أصحاب القدرة الشرائية المتراجعة، فهم يتفقون على أن شراء المنتجات الأصلية ذات التكلفة المرتفعة ليس خياراً، فكلهم يبحثون عن الأرخص، ولذلك يشتري الزبون قرصاً واحداً يحوي عشرات البرامج المعلوماتية مقابل مبلغ يراوح بين 10 و 20 ريالا، فيما يبلغ سعر البرنامج الأصلي الواحد أكثر من 1000 ريال، وينسحب هذا الأمر على الأفلام والتسجيلات الغنائية، وإن كان معظم المشترين مدركين تماماً الفارق بين ما هو شرعي وما هو مقرصن.

مؤيدون ومعارضون

في لقاءات متعددة أجريناها مع بعض المتعاملين في سوق "القرصنة" كما يسميه البعض وجدناهم قد انقسموا بين مؤيد لهذه الممارسات ومعارض لها، ولكل واحد مبرراته ووجهة نظره، حيث يرى سعد الغامدي أحد الذين وجدناهم يتصفحون أغلفة البرامج المنسوخة تمهيدا للشراء، أن البرنامج الذي يصل ثمنه أحيانًا إلى 1000 ريال يحصل عليه منهم بـ 15 ريالا"، معتبرا أن شراء البرامج من المعارض المعتمدة بأسعار عالية مضيعة للمال في غير محله طالما هناك إمكانية شراء نسخة من البرنامج نفسه مقابل مبلغ أقل.

عروض مغرية

لا يختلف الأمر كثيرا عند عبد الله السالم الذي وصف عروض هؤلاء الباعة بـ "المغرية" على الرغم من إقراره التام بأن الغالبية من تلك البرامج منسوخة أو مقلدة وقد لا تعمل قطعيا.
ولفت السالم (33 عاما) إلى أن ارتفاع أسعار البرامج الأصلية هو ما يدفع كثيرا من مستخدمي الكمبيوتر إلى اللجوء إلى المنسوخ لأنه يباع بأسعار زهيدة دون النظر في شرعية هذا النوع من البرامج أو مخالفته النظام.
ويواصل السالم حديثه: "إن تكلفة شراء برنامج واحد تبلغ الآلاف من الريالات فكيف يستطيع الشخص العادي شراء هذه البرامج"؟ وطرح السالم مثالا على ذلك برنامج "الويندوز" يكلف 700 ريال وغيرها من أسعار البرامج المرتفعة، مطالبا الشركات المنتجة بضرورة إعادة النظر في أسعار برامجها.

برنامج أغلى من الجهاز!

يتفق معه خالد الشهري على أن أحد أهم أسباب توجه مستخدمي الكمبيوتر إلى شراء البرامج المقرصنة هو أسعارها الرخيصة، إذ يمكن للشخص أن يجد برنامج "الفوتوشوب" الذي تتجاوز قيمته الحقيقية 3000 ريال بخمسة ريالات على الرصيف. وزاد: إن متوسط قيمة جهاز الكمبيوتر لا يتجاوز 2500 ريال في حين أن قيمة البرامج الأصلية تتجاوز 3000 ريال.
ويقترح الشهري أنه يمكن القضاء على القرصنة من خلال تطبيق عدة شروط من بينها: خفض الأسعار بشكل كبير، تفعيل خدمات ما بعد البيع مثل الدعم الفني، إقامة العروض والتخفيضات على البرامج بشكل مستمر، وإقامة حملات توعوية توضح الفوائد التي سيحصل عليها مستخدمو البرامج الأصلية بعد شرائهم البرنامج.

نسخ البرامج ليس طريقا للتوفير

اتفق عبد الرحمن السعيد مع الذين سبقوه على ارتفاع أسعار البرامج الأصلية، إلا أنه أكد أن ذلك من حق الشركات المنتجة لهذه البرامج، على اعتبار أن إنتاج برامج ضخمة مثل Photoshop و Windows يكلف ملايين الدولارات وآلاف الساعات من عمل موظفيها، "وأرباحهم قد لا تكون خيالية كما يقول البعض".
وقال: إنه لا يصح أن نقول إن نسخ البرامج هو طريقة للتوفير، وإنما يمكن أن يكون الحل للأشخاص الذين لا يستطيعون شراء البرامج الأصلية باستبدالها بمثيلها المجاني، خاصةً البرامج المفتوحة المصدر، مثل: Ubuntu Linux هو نظام تشغيل مجاني ومتكامل، ويأتي معه كثير من البرامج المجانية مثل OpenOffice الذي يشابه Microsoft Office وبرنامج Gimp الذي يشابه Photoshop، وقس على ذلك.

دعوة لاحترام الملكية الفكرية

أما الشاب عبد الله القاسم فهو يدعو إلى احترام الملكية الفكرية، مشيرا إلى أن الشركات التي تنتج البرامج تنفق عليها ملايين الريالات وتستنزف جهدا ووقتا، وبعد عدة ساعات من عرضها في السوق تجد أن نسخها تملأ الشوارع بأسعار لا تتجاوز 10عشرة ريالات للنسخة، وتابع حديثه قائلا: "ضع نفسك في مكان هذه الشركة أو تلك وقمت بتصميم برنامج استغرق منك جهدا وعملا لمدة سنة وبعدما انتهيت منه عرضته في السوق بـ 2000 ريال وتحملت مقابل ذلك تكاليف تسويق وتوزيع وغيرها، وبعد فترة وجدته في السوق بعشرة ريالات، ماذا ستكون ردة فعلك؟
وأضاف قائلا: "لو أن أحدا كان منتجا لبرنامج معين وبعد فترة وجد أن هذا البرنامج تمت سرقته ونسخه وبيعه بأسعار زهيدا جدا، بالتأكيد أن صاحب البرنامج الأساسي سيتوقف عن العمل ولن يستمر في الإنتاج مما يترتب عليه فقدان للإبداع الذي قد يسهم في المستقبل في سيطرة التبلد وغياب المحفزات التي تدفع المبدعين إلى التفكير".

برامج للتثقيف والتوعية

قال القاسم (26 عاما): "أعتقد أنه أصبح قليلا جدا من يهتم باقتناء برامج كمبيوتر أصلية مهما كان التزامه الديني والأخلاقي، في ظل الوضع الحالي الذي نشهده من انتشار هائل للبرامج المقرصنة، يصاحبه غياب تام لبرامج التوعية بخطورة هذا العمل، مطالبا الشركات المنتجة بأن يكون لها برامج تتبنى من خلالها تثقيف وتوعية مستخدمي التقنية بشكل مستمر.

إتلاف أجهزة الكمبيوتر

في يقول ناصر العتيبي ـ أحد المتعاملين في سوق الكمبيوتر ـ إن البرامج تكلف الشركات المنتجة مبالغ عالية جدا لما تحتاج إليه من جهد ومبرمجين ومراجع ومراجعة، ولنا أن نعرف أن البرامج المنسوخة أو "المسروقة" هي السبب في تردي أجهزة الكمبيوتر لدينا وتراجع أدائها بعد فترة بسيطة من شرائها. وتابع قائلا: أكاد أجزم أن جميع أجهزة الكمبيوتر التي تستخدم فيها برامج "مقرصنة" سرعان ما تصبح بطيئة العمل وكثيرة المشاكل ومن ثم إتلاف جهاز الكمبيوتر بأكمله.

برنامج منسوخ مضاد للفيروسات!

زاد ناصر: إن من الأمور الطريفة في هذا الجانب أن البعض يستخدم برامج مضادة للفيروسات غير أصلية "مقرصنة" لحماية جهازه من الفيروسات، وهذا ينطبق عليه كالذي يأتي بحرامي ليحرس له منزله! كيف لبرنامج "مسروق" أن يحمي جهاز الكمبيوتر من الفيروسات والاختراق؟
ويرد العتيبي على المتذمرين من ارتفاع أسعار البرامج، أن من يرد استخدام التقنية على حقيقتها يجب أن يضع في الحسبان أن اقتناء التقنية يحتاج إلى برامج أصلية وبرامج حماية جيدة وأنه لا بد أن ينفق على جهازه كلما أصبح استخدامه للتقنية أكثر تطورا.

الشركات المنتجة المستفيد الأول من القرصنة!

في جانب مناقض تماما لما تحدث عنه المتعاملون مع سوق الكمبيوتر والبرامج المقرصنة تحديدا، يقول عبد الرحمن الخالدي "إن القرصنة هي سبب انتشار ومعرفة الناس بالمنتجات البرمجية، إذ إنه لو لم يشتر أحد برنامج windows بعشرة ريالات لما عرفه طيلة حياته".
ولفت الخالدي إلى أن معظم الشركات المنتجة للبرامج هي المستفيد الأول من القرصنة، لأن البرامج المقرصنة هي التي جعلت ما أسماهم "متوسطي الدخل" يستخدمون هذه البرامج والتعرف على التقنية أكثر، مستدلا بالخطوة التي اتخذتها "روتانا" أخيرا عندما خفضت سعر الـ CD من 50 ريالا إلى 15 ريالا، وهو الأمر الذي أسهم بشكل كبير في رفع حجم المشتريات وتراجع معه الطلب على شراء الـ CD الأغاني المنسوخة.

"صفقة" بين الشركات المنتجة والمستخدم النهائي

في السياق ذاته، عبر طلال الحارثي ـ أحد المترددين على سوق العليا للكمبيوتر ـ عن رأيه الذي كان أكثر قربا إلى المنطقية بإقراره التام بأن أسعار البرامج الأصلية وأن كانت عالية جدا إلا أن لهذا الأمر أسبابه، إذ أنها ـ أي البرمجيات ـ تأخذ جهدا كبيرا وتكاليف ضخمة.
وقال: لا ننكر أنه جهد كبير لكن لا بد من عقد ما أسماه "صفقة" يستفيد منها الطرفان، الشركات المنتجة والمستخدم النهائي وهي: تخفيض الأسعار بنسب معقولة مقابل وقف القرصنة، كما أنه في حالة تخفيض أسعار البرامج سيتضاعف حجم المبيعات الأمر الذي سيسهم في توازن المعادلة.

الأكثر قراءة