غسل الأموال.. جرائم في جريمة!!
غسل الأموال.. جرائم في جريمة!!
تُعد جريمة غسل الأموال، التي يُطلق عليها أحياناً تبييض الأموال، من الجرائم المتطورة التي استغلت تطور الاتصالات، وتيسير وسائل انتقال رؤوس الأموال عبر الحدود، وظهور عالم رقمي جديد قلص من المساحة الجغرافية الافتراضية بين الدول، وقلل كذلك من الشعور بالأمان. وهذا ما ضاعف من المسؤولية الملقاة على عاتق التشريعات والتنظيمات والجهود الرقابية والأمنية المطالبة بتجديد وتحديث الأساليب المتبعة لمواجهة ومكافحة أنماط هذه الجريمة المتغيرة والمتعددة. جريمة غسل الأموال تبدأ عن طريق القيام بنشاط إجرامي، من قبل من يسمون بأصحاب الياقات البيضاء، يتمثل في الحصول على أموال غير مشروعة من تجارة المخدرات أو السرقة أو بيع الأسلحة المهربة أو الاختلاسات والفساد الإداري والمالي واستغلال الوظيفة والتعدي على المال العام أو الجاسوسية أو القمار أو الأنشطة الإباحية وغيرها، لتنتهي عند إضفاء المشروعية وتغيير الهوية لما اصطلح على تسميته بـ"الأموال القذرة" التي يتم تحويلها إلى أصول مالية على شكل شركات وممتلكات عقارية وفنادق ومرافق سياحية ومطاعم فاخرة ومعادن ثمينة وخلافه، بغية الإيهام بأن مصدر المال مشروع ونظامي ونظيف.
ويقدر حجم جريمة غسل الأموال بين 2 في المائة و5 في المائة من إجمالي الدخل القومي العالمي، أي ما يُشكل تقريباً من 590 ملياراً إلى 1.5 تريليون دولار سنوياً، وفقاً لإحصائيات صندوق النقد الدولي، وتقدر هيئة الأمم المتحدة ما يتم غسله من تجارة المخدرات فقط بنحو 120 مليار دولار سنوياً. وتختلف جريمة غسل الأموال عن غيرها من الجرائم الأخرى في كونها قائمة على مبدأ التعاون بين قوى الشر من الخبراء الأشرار المتخصصين والمتمرسين في مجالات الاقتصاد والعمليات المصرفية والتقنية الإلكترونية وغيرهم من المجرمين، مما يستوجب تضافر جهود المواجهة التي يجب أن تتفوق على أولئك المجرمين في ذكائها وتحصيلها العلمي وقدراتها وإمكانياتها المادية والبشرية، خاصةً في ظل تصنيفها ضمن الجرائم الاقتصادية المنظمة التي تخصصت فيها منظمات ذات نفوذ وسيطرة كبيرة. وإذا كانت المصارف هي البيئة الحاضنة المفضلة والمستهدفة لتكون بمثابة مسرح الجريمة لمثل هذا النوع من الجرائم، فإن الحاجة تتبدى إلى وجود موظفين في غاية الفطنة والذكاء، فضلاً عن الأمانة والاستقامة مع المتابعة والإشراف الإداري، لضمان عدم تمرير أي من أساليب الاحتيال والتدليس والخداع المستخدمة، والاهتمام مع تأهيلهم بإلحاقهم بالدورات التدريبية التي تصقل مهاراتهم وتطلعهم على المستجدات التي تطرأ في هذا المجال.
وهذا النوع من الأموال، كما قد يُظن، لا يُوجد اقتصاداً حقيقياً، و لا يُسهم في التنمية الاقتصادية المنشودة، فالاهتمام منصب على تدوير الأموال بشكل زمني متسارع، وزيادة السيولة المحلية بما لا يتوافق مع الزيادة الحقيقية للسلع والخدمات، ويُؤثر بشكل سلبي في المستثمر الجاد الذي يعمل لأجل تحقيق التنمية الاقتصادية المبنية على القواعد النظامية السليمة، من خلال مؤسسات تجارية قائمة فعلياً لها جدواها الاقتصادية ومزاولتها الحقيقية للأنشطة التجارية التي تتضرر من المنافسة غير الشريفة من الشركات والمؤسسات الوهمية التي تكتسح السوق بأسعار تقل عن سعر السوق ، مما يتسبب في تضييق الخناق على المؤسسات الشرعية. ويشمل التأثير أيضاً السوق المالية الدولية نتيجة ًلكثرة تقلبات أسعار صرف العملات التي تتعرض لعمليات تحويل غير متوقعة للأموال من بلد لآخر.
وتستوجب وسائل المكافحة عدم الاقتصار على ما يُبذل من جهود على المستوى المحلي فقط، بل ينبغي أن تتكامل الجهود بين دول العالم، ومن ذلك إبرام الاتفاقيات وعقد المؤتمرات وإقامة الندوات واللقاءات العلمية الدولية للخروج برؤية موحدة متناغمة تسعى إلى سد جميع المنافذ والثغرات التي تحاول الأموال القذرة التسلل من خلالها والتأثير في الاقتصادين الوطني والعالمي. كما أن مساندة وسائل الإعلام مطلب ضروري لتوعية وتنوير الرأي العام بالمخاطر والآثار الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المترتبة عن الوقوع، بسبب الخطأ أو الإهمال أو التواطؤ، في مثل هذا النوع الخطير من الجرائم. ومطلب زيادة الفاعلية في مواجهة جريمة غسل الأموال متى ما تحقق كفيل -بإذن الله- ليس في الحد منها ومن آثار تلويثها المناخ الاستثماري فقط، بل ومن انتشار الجرائم الأخرى المرتبطة بها أيضاً، لعل العالم الذي يُعاني ما يكفي الحروب العسكرية والصراعات السياسية والاقتصادية يكون أكثر أمناً وأماناً.