سعر شراء القمح الحالي يعني التوقف الفوري عن زراعته
سعر شراء القمح الحالي يعني التوقف الفوري عن زراعته
بسياسة زراعية حكيمة وبعيدة النظر ودعم قوي من الدولة ـ رعاها الله ـ حقق القطاع الزراعي في المملكة نتائج باهرة بتغطية الاحتياج المحلي لعدد من السلع الغذائية الزراعية الرئيسة، لقد أسهم ذلك بكل تأكيد في استقرار أسعار هذه السلع عبر ثلاثة عقود من الزمن، في الوقت الذي عجزت فيه كثير من الدول عن تلبية احتياجات سكانها على الرغم من المصادر الطبيعية التي تتوافر لها.
واليوم يعيش المزارعون وبشكل خاص منتجو القمح تحت ضغط أزمات ثقيلة أولها ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج وخدمات ووسائل التشغيل, حيث تسبب ذلك في تدني هامش ربح هذا المحصول، بل تلاشيه في كثير من المشاريع، واستمرار هذه المشاريع في الإنتاج أصبح ليس من أجل تحقيق الأرباح الذي يمثل الهدف من قيامها, بل من أجل تخفيض الخسارة لأقل حد ممكن التي ستحدث حال توقف كبار المزارعين عن الزراعة سواء شركات أو أفرادا لديهم القدرة على تحمل هذا العبء ولكن لأجل محدود جداً.
ومن المؤكد أن خفض كميات الإنتاج من محصول القمح سيعجل ميعاد التوقف عن الإنتاج قبل أوانه الذي حدد بثماني سنوات نظراً لأنه, وكما هو معروف, أن التكلفة حتى بافتراض ثبات كل المؤثرات تزداد طردياً مع خفض الإنتاج, وبالتالي لا جدال بأن التوقف عن إنتاج محصول القمح سيكون بشكل اختياري من قبل المزارعين قبل الوصول إلى آخر سنة من سنوات التدرج بل نتوقع ذلك بأن يكون فوراً ولن يزرع المزارعون الموسم المقبل أي حبة قمح.
ويأتي ذلك في وقت يشهد فيه العالم بداية أزمة غذاء لن تقف عند حدود الارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية بل ربما يتعدى ذلك إلى عدم توافره.
فمحصول القمح قد طرأت زيادة على سعره لم يكن يتوقعها أشد المتشائمين، وكذلك سعر الرز الذي تزايدت أسعاره وتطور الأمر بقيام الدول المنتجة باتخاذ قرارات بإيقاف تصديره.
من مسببات أزمة الغذاء العالمي تحول بعض الدول إلى استغلال الأراضي في زراعة محاصيل لإنتاج الوقود الحيوي كبديل لمصادر الطاقة الحالية والتي في مقدمتها النفط ، وكذلك ما تتعرض له المحاصيل من ظروف جفاف وكوارث. لقد لفتت الأمم المتحدة والبنك الدولي الأنظار إلى أزمة الغذاء وأشارت إلى أهمية وضع الخطط المستقبلية لمعالجتها, وأخيراً تطرق رئيس المنظمة العربية للتنمية الزراعية إلى أن زمن الغذاء الرخيص قد ولى دون رجعة وحث دول العالم العربي على الاهتمام بالزراعة بالاعتماد على مواردها الذاتية وتطوير القطاع الزراعي لكونها تعاني فجوة غذائية تقدر بما قيمته 18.6 مليار دولار نصفها يمثل قيمة لمحاصيل الحبوب المستوردة.
إن تصريحات المسؤولين الدوليين والإقليميين ليست ناشئة من فراغ بل هي نابعة من خبرة ودراية واطلاع. وجاءت مرحلة قامت فيها دول تعتمد اقتصاداتها على الإنتاج الزراعي بإيقاف تصدير أهم المحاصيل التي تنتجها، أفلا يدعو ذلك إلى إعادة النظر في توجهات أو قرارات سبق أن اتخذت قبل أن تطل هذه الأزمة برأسها، والحال كذلك فإنه لا يستبعد يوماً قد يأتي يقف فيه المال عاجزاً عن تأمين الغذاء.
أن الآراء المطالبة بالمحافظة على المخزونات الجوفية كمصدر للمياه للاستخدام البشري بإيقاف ما يستغل منها في الزراعة ينقصها كثير من المعلومات الدقيقة والموثوقة التي يمكن من خلالها وصف هذا التوجه بأنه الأفضل للمصلحة العامة أو أنه حق للأجيال المقبلة ينبغي الالتزام به. فمن هذه المخزونات ما هو متجدد المصادر ولم تتأثر مستوياته بما استخدم منه في الزراعة، كما أن الأمر يستوجب المقارنة بين تكلفة استخراج هذه المياه ومعالجتها مع تكلفة المصادر الأخرى سواء كانت تحلية أو غيرها، ثم إن الموضوع يتعلق باستراتيجيتين كلتيهما على جانب كبير من الأهمية، فالمحافظة على مصادر المياه أمر ملح وضروري وكذلك تأمين الغذاء الذي تنامت أهميته في ظل ظروف ومؤثرات مستجدة لم تكن معروفة, ونقصد بذلك الزيادات الكبيرة في أسعار السلع الغذائية وتوجه بعض الدول المنتجة لهذه السلع إلى تقييد ومنع عمليات تصديرها.
لقد أقرت وزارة المياه والكهرباء أن المياه المحلاة التي تنتجها محطات التحلية بتكاليف عالية تتعرض للهدر أو الفقدان نتيجة قدم شبكات المياه وتهالكها, وقدرت الكميات المفقودة بنحو 100 ألف متر مكعب، وهنا يبرز السؤال عن السبب الذي يحول دون المبادرة إلى إصلاح هذه الشبكات, فالتأخير في ذلك يعني المزيد من الفقدان والتسرب، وعلاوة على ذلك فإن الأرقام التي وضعت تقديرياً لحجم استهلاك القطاع الزراعي من المياه استندت إلى معطيات مضى عليها سنوات وتغيرت هذه المعطيات بشكل كبير من حيث تقلص المساحات المزروعة بنسبة مرتفعة بعد انصراف كثير من المزارعين عن هذا النشاط لعدم الجدوى بعد ارتفاع تكاليف الإنتاج وعدم تغير أسعار البيع. وشهد القطاع الزراعي في السنوات الأخيرة عمليات تطور نوعية بإدخال تقنيات وأساليب حديثة تبنتها الشركات الزراعية أسهمت بشكل فاعل في خفض كميات المياه المستهلكة في الزراعة بلغت في محصول القمح ما نسبته 40 في المائة مقارنة بما كان يستهلك سابقاً. وللمعلومية فإن محصول القمح يعد من أقل المحاصيل التي تزرع في المملكة من حيث احتياجه إلى المياه.
إن المراقب لوضع الإنتاج الزراعي العالمي وتجارة السلع الزراعية يلاحظ تغيرات ذات شأن وتحولات غير مسبوقة, فهناك قيود على حركة هذه السلع من قبل الدول المنتجة، وكذلك توجه نحو استغلال المساحات الزراعية في إنتاج سلع تستخدم في مجالات لا تتعلق بالغذاء, هذا بخلاف ما قد يتعرض له النشاط الزراعي من تذبذبات في مستوى الإنتاج نتيجة تغير الظروف المناخية, وأخيراً فإن المنتجات الزراعية وفي مقدمتها محصول القمح تعيش ومنذ مرحلة مستمرة زيادات في الأسعار حتى بلغ فيها طن القمح مستوى سعريا مرتفعا تجاوز ألفي ريال للطن, أي وصل إلى أكثر من ثلاثة أضعاف سعره قبل ثلاث سنوات مع تدن في أحجام المخزونات منه في الدول الرئيسة المنتجة لهذا المحصول, وبالتالي فإنه مهيأ للمزيد من الزيادات في المستقبل القريب.
إن الارتفاع الهائل في تكاليف الإنتاج لمحصول القمح دون أي تعديل عاجل في سعر شرائه يعني ودون شك توقف زراعته في مدى قصير جداً ليس بسبب الجدوى المتدنية بل لأن هذه التكاليف تجاوزت معدل سعر البيع الحالي، واستمرار المزارعين في الإنتاج قد استوجبه السعي إلى تجنب خسارة أكبر عند التوقف التام. ولدي أمل وتطلعات للتريث في موضوع خفض إنتاج القمح وتعديل سعر الشراء بما يوازي سعره عالمياً كهدف مرحلي يعطي المزارعين الإمكانية لتعويض جزء من استثماراتهم والتوجه نحو بدائل مجدية, وفي الوقت نفسه تنفيذ عملية التحول نحو تأمين هذا المحصول الحيوي من مصادر خارجية دون التعرض لاختناقات أو أزمات قد تنشأ نتيجة استيراد كامل احتياج البلد من الخارج.
وأنا على يقين أن القرارات التي تم اتخاذها أخيرا من قبل مجلس الوزراء ستسهم ـ إن شاء الله ـ في إيجاد حل للأمن الغذائي على المدى البعيد إذا ما تم تنفيذها بالطرق المناسبة، إلا أنه من المهم جداً المحافظة على ما هو متوافر من إمكانات إنتاجية لمحصول القمح برفع سعره محلياً للسعر العالمي حتى نضمن توافر القمح المستورد من الخارج بالشكل المناسب.