ضبابية مستمرة
ضبابية مستمرة
هل بدأت أخيرا أسعار النفط المرتفعة تفعل فعلها وتؤثر في حجم الطلب، وبالتالي لن يكون مطلوبا من منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) الاستمرار في ضخ المزيد من الإمدادات وتخفيف الضغط السياسي الواقع عليها في هذا الاتجاه؟
رقمان يمكن أن يعضدا هذا الاحتمال، أولهما أن إنتاج (أوبك) خلال الشهر الماضي بلغ أدنى معدل له خلال خمسة أشهر، وهو يزيد قليلا على 32 مليون برميل يوميا، وذلك منذ تشرين الثاني (نوفمبر) عندما بلغ الإنتاج 31.3 مليون.
ومع أن أحد الأسباب الرئيسية للتراجع تعود إلى الوضع في نيجيريا، حيث أدت الأحداث التي تشهدها منطقة دلتا النيجر إلى تقليص ووقف الإنتاج في بعض المرافق، الأمر الذي نتج عنه تراجع الإنتاج النيجيري إلى أقل معدل له منذ عقد من الزمان. لكن لم يصل الأمر إلى حدوث شح، فقد كانت هناك دائما إمدادات كافية في السوق يمكن للمستهلكين الوصول إليها.
الثاني وهو الأهم، أن الوكالة الدولية للطاقة قالت في تقريرها الدوري لهذا الشهر إن أسواق النفط ظلت تتمتع بفائض في الإمدادات على مدى الشهرين الماضيين. وتتوقع أن يستمر الوضع على هذا الحال حتى نهاية العام إذا ما حافظت (أوبك) على معدلات إنتاجها عند المستويات الحالية، متوقعة أن الطلب سيسجل بعض التراجع هذا العام من التقدير السابق للوكالة بنحو 230 ألف برميل ليكون في حدود 1.03 مليون برميل يوميا.
وهذا تحول مهم، فقد ظل مسؤولو الوكالة يكررون الطلب تلو الطلب إلى (أوبك) أن ترفع من حجم إنتاجها وما تضخه للأسواق. ويبدو أنهم توصلوا أخيرا إلى مشكلة لا تتعلق بـ (أوبك). لكن كل ذلك لم ينعكس بصورة واضحة على سعر البرميل، الذي لا يزال صامدا في المعدلات العالية التي تسنمها منذ بداية العام.
ولعل هذا ما دفع الكونجرس الأمريكي إلى التصويت وبأغلبية ساحقة من 97 مقابل معارضة صوت واحد لصالح قرار يطلب من إدارة الرئيس جورج بوش وقف مشروع استئناف ملء المخزون النفطي الاستراتيجي بنحو 70 ألف برميل يوميا، وهو ما يمكن أن يخفف من الضغط على جانب الإمدادات، وذلك رغم أن الإدارة تقول إن هذه الكمية لا تساوي شيئا يذكر في محيط الاستهلاك اليومي للولايات المتحدة من النفط الذي يتجاوز 20 مليون برميل يوميا، لكن الخطوة يمكن أن تسهم في المزيد من التأمين للسوق الأمريكية. فقد تم تجميع 701 مليون برميل في هذا المخزون الاستراتيجي، وتهدف إدارة بوش إلى رفع هذا الحجم إلى 727 مليونا قبل انتهاء ولايتها، الأمر الذي يضع المخزون قرابة نصف ما يأمله المخططون وهو مليار ونصف المليار برميل تكون مؤمنة داخل البلاد للجوء إليها وقت الحاجة.
وإذا كان الكونجرس قد قام بخطوة منطقية من خلال هذا القرار، إلا أن بعض الأفكار الأخرى المتداولة لا يمكن تصنيفها بالصفة ذاتها مثل التهديد بوقف صفقات الأسلحة للدول المنتجة التي لا ترفع من حجم إمداداتها أو الطلب من الأمين العام لـ (أوبك) المثول أمامها وتقديم دفاعاته عن ارتفاع أسعار النفط وما تعتزم (أوبك) عمله لوقف هذا الارتفاع.
من الواضح أن هناك خلطا بين حقائق السوق والبعد السياسي في قضايا الطاقة، وهو أمر غير مستغرب منذ أن قرر ونستون تشرشل وزير البحرية البريطانية في 1911 التحول إلى النفط كطاقة مستعملة في الأسطول بدلا من الفحم، وهو ما أعطى هذه السلعة بعدها السياسي والاستراتيجي.
لكن هناك فرق بين مشكلة داخلية أمريكية تحتاج إلى التعامل معها هي نفسها وليس بتحميل الآخرين مسؤولية ذلك، فزيادة الاستهلاك الأمريكي تعود في نهاية الأمر إلى نوع الحياة الأمريكية واستهلاكها المفرط فيه، وهو وضع سيستمر بسبب المكانة المحورية للولايات المتحدة في عالم اليوم سياسيا واقتصاديا رغم علامات الضعف التي بدأت تبرز في القطبية الوحيدة في العالم.
والمشكلة ليست أمريكية فقط، فهناك الملايين من الصينيين والآسيويين الآخرين تحديدا ومن سكان الدول النامية عموما الذين دخلوا عالم الطاقة الحديثة مستهلكين متحولين من ركوب الدراجات الهوائية والمشي على الأقدام إلى السيارات الخاصة.
كما أن المشكلة مركبة، فهناك الدعم الكبير الموجهة من قبل حكومات هذا الدول إلى المنتجات المكررة التي يتم استهلاكها، وبالتالي لا يتحمل هؤلاء السعر الحقيقي لسعر البرميل الذي يستهلكونه، هذا إلى جانب غياب الإحصائيات التي يمكن الاعتداد بها لمعرفة توجهات العرض والطلب، الأمر الذي يجعل من عنصري الدهشة والمفاجأة ملمحا أساسيا، وبالتالي تضعف إمكانية مواجهة هذا الوضع، فخلال مسيرة السنوات الخمس الماضية من الارتفاع المستمر في الأسعار وحجم الاستهلاك الصيني ظل لغزا إلا بعد حدوثه على أرض الواقع فعلا، الأمر الذي يجعل من الضبابية سيدة الموقف.