خريطة طريق على مبدأ التنافسية واستبعاد المعالجة العاطفية لقضية السعودة

خريطة طريق على مبدأ التنافسية واستبعاد المعالجة العاطفية لقضية السعودة

انتظمت مدينة الرياض في الفترة الماضية ما اعتادته بيئة الأعمال بشكل دوري وموسمي من إضفاء مظهر احتفالي لواحدة من أصعب وأهم القضايا الوطنية, وهي قضية البطالة والسعودة وتوظيف العمالة, فقد تشرف عدد من المؤسسات بنيل جائزة الأمير نايف بن عبد العزيز للسعودة في موسمها السادس, وتسلم ممثلو هذه المنشآت الدرجات التي استحقتها من الجائزة من يدي الأمير نايف, الذي رعى الجائزة وبحضور أقطاب وقيادات العمل في هذا الميدان, وفي مقدمتهم وزير العمل.
ويجدر أن نشير في هذا المقام إلى أن غرفة الرياض نالت المركز الأول للسعودة في فئة الغرف التجارية السعودية, كما عملت الغرفة من منطلق رسالتها الوطنية من خلال البرامج الطموحة والضخمة التي تتبناها في استنبات عمليات التوطين وتهيئة الشباب وحملهم للعمل في المنشآت التي تناسب استعدادهم ومؤهلاتهم.
ليس موضوعنا هنا الإشادة بما نالته المنشآت من كسب معنوي بتلقيها هذه الجائزة, فالقضية لا تزال باقية, بل إنها تمثل للكثير من دول العالم منبعا للقلق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
واحتلت هذه القضية أولوية مهمة على مستوى المعالجات الإعلامية والفنية وخضعت للعديد من مباضع التشخيص والتشريح وعقدت ورش العمل والمنتديات وصدرت التوصيات وتأسست مراكز وصناديق.. وغير ذلك من الاجتهادات التي ترمي بسهم في الحلول المرتجاة, ولا تزال مساعي الجميع ماضية لغاياتها.
ما نحن بصدده هنا هو محاولة إعادة قراءة لما خرج به منتدى الرياض الاقتصادي في دورته الثالثة ( ديسمبر 2007), فقد تمكن المنتدى عبر سلسلة من الجهود العلمية والبحثية المتصلة انطلقت منذ دورته الأولى عام 2003 من الخروج برؤية مستقبلية للكيفية التي يجب أن تعاير بها هذه القضية المحورية المهمة التي ظلت بندا ثابتاً ضمن أولويات عمل هذا المنبر الوطني العلمي والمنهجي المهم, ما أضفى ميزة استراتيجية لمخرجاته التي غطت الأبعاد الاقتصادية, التخطيطية, التشريعية, والسلوكية, وحللت أسباب نجاح الدول الأخرى في تنمية مواردها البشرية, وذلك باستدعاء ودراسة تجارب دولية مهمة مثل التجارب: الماليزية, الكورية, الصينية, الفلبينية, والأسترالية, إضافة إلى تحليل لدور توطين الشركات عابرة القارات في تكوين رأس المال البشري.

معيار التنافسية العالمية

الإطار البنيوي لرؤية منتدى الرياض الاقتصادي لقضية الموارد البشرية والكيفية المنهجية التي عالجت بها الدراسة هذه القضية كإشكالية تنموية رئيسة, تستحق أن يتم إدماجها والاستعانة بمخرجاتها كمقوم علمي من مقومات الاستراتيجية الوطنية للتوظيف التي بنتها وزارة العمل ورفعتها أخيرا إلى المجلس الاقتصادي الأعلى, وهي تتعلق باستراتيجية التوظيف لمدة 25 عاماً.
ويقوم مشروع المنتدى على بناء خريطة طريق للارتقاء بقدرات الموارد البشرية تنسجم مع شروط التنافسية العالمية, وبالتالي فإن (التنافسية) كقيمة أساسية هي العامل المشترك الذي لا غنى عنه في أي صياغة لمشروع استراتيجي يستهدف بناء قوة عمل حقيقية ومنتجة، ولذلك فإننا لا نكاد نرى تفاوتاً في مسافة الرؤية بين العام والخاص, حيث إن استراتيجية السعودة في المملكة قامت على أن فكرة الإحلال الوطني يجب أن تتم بطريقة واعية وناضجة ومدروسة طبقاً لمفهوم يرتقي بالكفاءات السعودية لتكون مدربة وجاهزة في سوق ( تنافسية) تتطلب قدرات ملائمة.
وعلى الشروط ذاتها حدد منتدى الرياض الاقتصادي الرسالة التي ينبغي أن تؤديها الكوادر والكيفية التي يتم بها بناء القدرات التنافسية بالقول: إن المسؤولية مجتمعية وتضامنية مشتركة تحتاج إلى تبني القيادة السياسية لرؤية جديدة وموحدة تلتزم بتنفيذها جميع الجهات ذات العلاقة من أجل إحداث النقلة النوعية المستهدفة وصولاً إلى التنافسية العالمية.

السياسات والآليات
عالجت رؤية منتدى الرياض الاقتصادي لقضية الموارد البشرية جملة من السياسات والآليات التي ينبغي انتهاجها طبقاً لشروط "التنافسية" ضمن أربعة أبعاد هي: البعد الاقتصادي, البعد التخطيطي, البعد التشريعي, والبعد السلوكي.
ففي الجانب الاقتصادي نادى المنتدى بضرورة تعظيم الفائدة من الموارد البشرية المعطلة أو المهدرة "المرأة وفائض خريجي الثانوية العامة" وتحسين النوعية والكفاءة (التنافسية) للمورد البشري المحلي, التنويع المهني للتخصصات العلمية والفنية, زيادة كفاءة الإنفاق الحكومي والخاص على قطاعي التعليم والتدريب, وتوسيع الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية في هذا الميدان.
ولتنفيذ سياسات البعد الاقتصادي اقترح منتدى الرياض تفعيل تنفيذ القرار 120 الخاص بتوسيع مشاركة المرأة, التأهيل السريع على رأس العمل, إدخال اللغة الإنجليزية والحاسب الآلي في مناهج المرحلة الابتدائية، تحديث وربط برامج التعليم والتدريب باحتياجات اقتصاد المعرفة، جذب الجامعات العالمية والمعاهد التقنية لتفتح فروعا لها في المملكة، ومنح المزيد من الاستقلالية الإدارية للجامعات وتشغيلها بنظام الفترتين صباحية ومسائية, تحفيز المتميزين بمكافآت أدبية ومادية، ترشيد استقدام العمالة غير الماهرة، وتوجيه الاستثمار في التعليم والتدريب إلي المناطق الأقل نمواً.
وذهبت توصيات المنتدى في بعدها التخطيطي إلى تبني سياسات تحث على توجيه الاستثمارات إلى المناطق الأقل نموا وزيادة الطاقة الاستيعابية للتعليم الفني والاهتمام بالبحث العلمي وتحديث وتطوير المناهج والأساليب التعليمية والتربوية.
وضمن الآليات المحققة لهذه السياسات نادى المنتدى بإعداد خطة طويلة المدى لتنمية الموارد البشرية "الاستراتيجية الوطنية للتوظيف" وزيادة المخصصات المالية للتوسع في التعليم الجامعي وإيجاد قاعدة بيانات حديثة للموارد البشرية وإزالة المعوقات أمام الاستثمار في قطاعي التعليم والتدريب واستخدام الحوافز لتوجيه الطلاب إلى التخصصات العلمية والمهنية المطلوبة.

وفي البعد التشريعي نادى المنتدى بأن تكون تشريعات وأنظمة العمل والعمال متوازنة فيما يتعلق بحقوق كل من صاحب العمل وواجباته من جهة وحقوق وواجبات العمال ذكورا وإناثا مع إشراك القطاع الخاص في صياغة التشريعات المتعلقة بتنمية الموارد البشرية وتحديث التشريعات لتواكب المستجدات والمتغيرات العالمية.
وينبغي أن ترتبط هذه التشريعات بتشديد العقوبات لحماية المرأة في بيئة العمل وإدراج اللغة الإنجليزية والحاسب الآلي ضمن مناهج المرحلة الابتدائية ومواد في التربية المهنية والسلوكية للمرحلة المتوسطة وما بعدها, وتبني تشريعات لتغليب اعتبارات الكفاءة والخبرة والنوعية في لوائح التوظيف والترقي والتدريب الوظيفي وتولي المناصب القيادية, وإعطاء مرونة تتيح لصاحب العمل الاستغناء الفوري عن العمالة غير الكفؤة, وإصدار تشريعات ضابطة لسلوكيات العامل وصاحب العمل.
وفي سياسات البعد السلوكي نادى المنتدى بتغيير النمط الاستهلاكي للمجتمع إلى نمط إنتاجي وتغيير القيم والسلوكيات السالبة تجاه عمل المرأة والعمل المهني وتثقيف المجتمع بقيم وسلوكيات بيئة العمل التنافسية عبر إعداد برامج إعلامية تسهم في إصلاح القيم السالبة وتعديلها وضخ الاعتراف بقيم القدرة التنافسية وإدراج أخلاقيات العمل والمهن ضمن مناهج التعليم العام والعالي.
وحددت توصيات المنتدى الجهات المنوط بها تنفيذ هذه السياسات وإصدار التشريعات في الجهات التالية: مجلس الشورى, وزارة العمل, وزارة الاقتصاد والتخطيط , وزارة التربية والتعليم, المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني, وزارة التعليم العالي, وزارة المالية, ووزارة الخدمة المدنية، كما أسندت مهمتي الإشراف ومتابعة التنفيذ إلى المجلس الاقتصادي الأعلى.

الحث الثقافي والأخلاقي
لقد ترجمت كلمة الأمير نايف بن عبدالعزيز أمام حفل تسليم جائزة السعودة أهمية البعد الثقافي في معالجة القضية, كما عكست توافقا في المفاهيم بين ما دعت إليه توصيات منتدى الرياض وقناعة القيادة بالفاعلية الثقافية كباعث على القيم الإيجابية, حيث جاء في كلمته أن السعودة بمفهومها السامي وغاياتها النبيلة تعد مطلبا دينيا وواجبا وطنيا واحتياجا اقتصاديا واجتماعيا, فهي تحمي الشباب الذين هم عماد مستقبل الوطن من مخاطر الفراغ وقلة ذات اليد, وهو عمل إنساني جليل يشكر فاعله ويعظم أجره عند ربه.
على النسق ذاته, دعا منتدى الرياض إلى الاستفادة القصوى من تعاليم الدين الإسلامي الذي يحث على العمل وأخلاقياته واحترام كل المهن والحرف, ما سيسهم في إزالة كثير من المفاهيم السلبية المتعلقة بتنمية الموارد البشرية.

لكن رؤية المنتدى ذهبت إلي أبعد من مجرد الحث الأخلاقي بالتأكيد على أن التنافسية عملية ديناميكية متجددة ومتغيرة حسب حاجة الاقتصاد في كل مرحلة وحسب تنامي الأطماح الشخصية وتكييف أدواتها مع تلك المتغيرات.
إن متطلبات التنافسية في حالة تغير وتبدل مستمرة, وعلى سبيل المثال فإذا كنا في حاجة إلى تعلم مهارة استخدام الفأس لقطع الأخشاب, فسيتعين على الشخص خلال زمن وجيز أن يحسن استخدام المنشار أو نحوها من المهارات التي تحمل قيمة إضافية للمهنة.
ومن ثم فإن المجتمع مواجه كذلك بحالة من حالات التنافسية (الكلية) إن صح التعبير مع المجتمعات الأخرى، وعليه أن يكون قادرا على الاستجابة لمتطلباتها بكفاءة عالية, وبالتالي فإن منتدى الرياض الاقتصادي يدعو إلى تركيز الاهتمام على إعداد المورد البشري بدلا من التركيز على الوظائف التي سيعملون فيها.
وسيكون على مؤسسات التعليم والتدريب والتأهيل أن تعمل على التكيف مع هذه المتغيرات وحشد البرامج المناسبة وتطويرها باستمرار .

الأكثر قراءة