إيرادات البترول لا تؤثر في السيولة النقدية والتضخم

إيرادات البترول لا تؤثر في السيولة النقدية والتضخم

في خضم الارتفاع في مستوى التضخم، والاجتهادات المختلفة لتحديد أسبابه وآثاره وكيفية التغلب عليها، ربطت بعض الكتابات الصحافية ارتفاع مستوى السيولة النقدية المحلية، وكذلك مستوى التضخم بارتفاع أسعار البترول وإيرادات تصديره. ويشوب بعض هذه المقالات شيء من اللبس، ويفهم من بعضها أن تأثير البترول تأثير مباشر على هذين المتغيرين، السيولة والتضخم.
وأود هنا أن أوضح بداية في هذه العجالة للقراء الكرام الذين لديهم مثل هذه القناعة أن إيرادات صادرات البترول، سواء كانت في حالة ارتفاع كبير، مثل ما هي عليه الآن أم غير ذلك، وسواء كانت هذه الصادرات مسعرة بالدولار أم باليورو أو بسلة من العملات الأجنبية، فليس لإيداع هذه الإيرادات بالدولار لدى مؤسسة النقد ( البنك المركزي (لحساب الحكومة تأثير على الزيادة في السيولة النقدية في المملكة أو على التضخم.
والاستخدامات الأساسية لهذه الأرصدة هو لتحديد مستوى إيرادات الميزانية بالمرتبة الأولى، وتمويل الواردات وتدفقات رؤوس الأموال للخارج، وتحويلات العمالة الوافدة، وكاحتياطيات بالعملة الأجنبية للحفاظ على استقرار القيمة الشرائية للريال.
والاعتقاد بأن إيرادات صادرات البترول أو صادرات أية سلعة أخرى أو خدمات تؤدي إلى زيادة عرض النقود في البلد المصدر هو اعتقاد صحيح بوجه عام حسب النظرية الاقتصادية، خصوصاً بالنسبة للاقتصادات المتطورة، حيث تقوم الشركات الخاصة بعملية التصدير، وتودع إيرادات الصادرات في حساباتها لدى البنوك التجارية، ما يزيد السيولة
النقدية المحلية مباشرة. وينطبق ذلك على صادرات القطاع الخاص من السلع والخدمات في المملكة، هذا إذا كانت الصادرات ملكية خاصة. أما إذا كانت الصادرات ملكية حكومية، مثل: صادرات البترول في المملكة، وكذا بالنسبة لدول الخليج البترولية، فإن آلية تأثيرات إيرادات صادرات البترول على النشاط الاقتصادي بوجه عام، وعلى زيادة العرض النقدي بوجه خاص، تأخذ منحنى مختلفاً وغير مباشر نظراً لوجود سمتين رئيستين للاقتصاد السعودي الذي لا يزال يعتمد كثيراً على صادرات البترول.
السمة الأولى هي أن الإنفاق الحكومي المحلي، وليس إيرادات البترول، يمثل المصدر الرئيس للزيادة في السيولة النقدية المحلية. أما السمة الثانية فهي الاعتماد الكبير للاقتصاد على استيراد مختلف السلع والخدمات من قبل القطاع الخاص وعلى العمالة الوافدة.
بينما صادرات القطاع الخاص غير البتروكيماوية لا تزال حتى الآن قليلة نسبة إلى الواردات، ما يؤدي إلى عجز كبير ودائم في ميزان مدفوعات القطاع الخاص. وهذا العجز بدوره يؤدي إلى تسرب كبير في السيولة النقدية الناجمة من الإنفاق الحكومي.
وفيما يلي عرض مختصر لآلية تأثير إيرادات صادرات البترول في السيولة النقدية وفي الاقتصاد بوجه عام:
1 - إذا بدأنا بعملية إيداع إيرادات البترول بالدولار لسنة معينة لحساب الحكومة لدى مؤسسة النقد، فإن هذا الإيداع في حد ذاته ليس له تأثير لا في النشاط الاقتصادي بما في ذلك ارتفاع الأسعار، ولا في السيولة النقدية. ما يؤثر فيها هو الإنفاق الحكومي المحلي،
سواء كان مستنداً تقريباً كلياً إلى إيرادات البترول أو إليها وإلى الاقتراض من الخارج أو الداخل إذا كانت هذه الإيرادات غير كافية مثلما حصل في فترة أواسط الثمانينيات الميلادية أو كان هناك فائض فيها.
2 - يمكن تقسيم الإنفاق الحكومي الإجمالي من حيث تأثيره في الاقتصاد الوطني إلى قسمين رئيسين: قسم تنفقه الحكومة مباشرة بالعملات الأجنبية على شكل واردات وعقود
حكومية أجنبية واشتراكات ومساهمات في المنظمات الدولية والإقليمية. ويصل متوسط المصروفات الخارجية إلى 30 في المائة من الإنفاق الحكومي الإجمالي (التقرير السنوي لمؤسسة النقد لأعوام مختلفة). وبالطبع، فإن هذه النسبة لا تدخل في الدورة الاقتصادية المحلية . وليس لها تأثير مباشر في نمو الدخل، والاستثمار والاستهلاك.. إلخ، ولا في نمو العرض الكلي من النقد (ن 3).
القسم الثاني من الإنفاق هو الإنفاق الحكومي المحلي، وهو الذي يدخل في الدورة الاقتصادية، كما أنه يشكل حتى الآن المحرك الأساسي لنمو الطلب الكلي المحلي على السلع والخدمات، وعلى الاستثمار. وصافي هذا الإنفاق (بعد طرح الفرق بين الإيرادات والإعانات المحلية) يمثل المصدر الرئيس للزيادة الإجمالية في العرض من النقود.
وتأتي نحو 90 في المائة من الزيادة الإجمالية في السيولة النقدية من هذا المصدر (تقارير مؤسسة النقد) وذلك خلال الفترة التي تلت طفرة السبعينيات حتى أواخر التسعينيات الميلادية، وأكثر من هذه النسبة قبل الطفرة. أما بعد عام 2000، فيظهر أن هذا المتوسط قد انخفض قليلاً نتيجة لارتفاع حصة القروض البنكية المحلية من الزيادة في السيولة.
ومن المهم عدم إغفاله هنا هو أن الزيادة الإجمالية في العرض الكلي من النقد (ن 3) الناتجة من الإنفاق المحلي الصافي هي زيادة تلقائية أو جانبية، وليس للسلطات النقدية سيطرة على مستواها، لأنها نتاج للسياسة المالية.
أما مصدر القروض البنكية التجارية، وهو المصدر الآخر لنمو السيولة النقدية، فلا يزال صغيراً نسبياً، ويمثل مع بنود أخرى صغيرة بقية مصدر الزيادة الإجمالية في السيولة. هذا بينما نجد بالمقارنة في البلدان الصناعية أن قروض البنوك التجارية لمختلف الأغراض، وكذلك شراء البنك المركزي للسندات الحكومية السابق إصدارها هي: المصدر الأساسي لزيادة السيولة النقدية، ومجال مهم لتأثير سياسات البنك المركزي على العرض النقدي وبالتالي على النشاط الاقتصادي.
3 - وبينما يمثل الإنفاق المحلي الصافي المصدر الرئيس للزيادة الإجمالية في (ن 3). نجد أن عجز ميزان المدفوعات للقطاع الخاص في المملكة (أي قيمة صادرات القطاع الخاص ناقصاً قيمة وارداته من السلع والخدمات وتحويلات الوافدين وصافي التدفقات النقدية الخارجية)، والذي يمثل تسربا كبيراً من الدورة الاقتصادية المحلية، يعد من الجانب الآخر مصدر التخفيض الرئيس في الزيادة الإجمالية السنوية في السيولة الناتجة من الإنفاق الحكومي المحلي الصافي.
أي أن الزيادة الصافية السنوية في (ن3) تعد في الحقيقة الفرق بين الزيادة الإجمالية فيها الناتجة من الإنفاق الحكومي المحلي، وبين الانخفاض في هذه الزيادة الإجمالية الناتجة من العجز في ميزان مدفوعات القطاع الخاص. وهذا الانخفاض الناتج من العجز في الميزان هو الآخر انخفاض تلقائي في السيولة، لأنه ناتج من قرارات القطاع الخاص والعمالة الوافدة، ولا سيطرة للسلطات النقدية عليها، مثل حال الزيادة في السيولة من الإنفاق الحكومي. وهكذا فليس لمؤسسة النقد سيطرة لا على مستوى الزيادة الصافية في (ن 3) ولا على معدل نموها.
ويتضح للقارئ الكريم مما ذكر سابقاً، أنه إذا افترضنا جدلاً تثبيت مستوى الإنفاق الحكومي، وكذلك إيرادات البترول عند مستوى معين، فإن مقدار الزيادة الصافية في العرض النقدي (ن 3)، وهي الزيادة السنوية التي تظهر في بيانات مؤسسة النقد سيكون أكبر كلما انخفض التسرب الذي يحدثه مقدار العجز في ميزان مدفوعات القطاع الخاص، وذلك عن طريق انخفاض بند أو أكثر من مكونات مدفوعات هذا الميزان، مثل إما ازدياد الإنتاج المحلي من السلع والخدمات على حساب الواردات، وإما انخفاض في تحويلات الوافدين، أو في صافي تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج إلخ، أو خليط من ذلك. وسيكون مقدار الزيادة أصغر طبعاً كلما ارتفع مستوى العجز في هذا الميزان. أي أن السيولة النقدية الحالية والاحتياطيات الرسمية من العملات الأجنبية يمكن أن تكون أكبر لو انخفض ميزان مدفوعات القطاع الخاص.
وعلى هذا وبدون الخوض في أسباب موجة التضخم الحالية وآثارها وحلولها، فإنه يجب أن لا تعزى الزيادة في السيولة النقدية ولا التضخم مباشرة إلى زيادة إيرادات البترول.
ويمكن القول بناءً على ما ذكر سابقاً، بأن الإنفاق الحكومي المحلي والظروف المالية والتجارية الداخلية، وكذلك التطورات التجارية الخارجية هي المعنية بشكل أساسي في نظري بتفسير أسباب وآثار التضخم في المملكة، وليس أسعار البترول وإيراداته.
وقد يقال بطبيعة الحال أن ارتفاع أسعار البترول لها نصيب من ارتفاع أسعار كثير من السلع المستوردة والتي بدورها أسهمت بشكل كبير في مستوى التضخم الحالي . إلا أن هذا التأثير البترولي في التضخم المحلي غير مباشر ومحدود مقارنة بالعوامل الاقتصادية والتجارية العالمية المؤثرة في ارتفاع أسعار الواردات. ويبدو لي أن هذا النوع من
التأثير ليس المقصود في كثير من المقالات الصحافية التي تربط ارتفاع مستوى التضخم بزيادة إيرادات البترول أو ارتفاع أسعاره، بل يبدو من تحليل بعض تلك المقالات أن المقصود هو وجود ارتباط مباشر بين التضخم المحلي وارتفاع أسعار البترول وزيادة إيرادات تصديره.
هذا ما حاولت إيضاح عدم صحته، ليس دفاعاً عن إيرادات البترول، فهذا ليس هدف المقالة. بل الهدف هو المساهمة في إزالة الالتباس في هذه الجوانب المهمة من الاقتصاد الوطني وعلاقتها بالهياكل الاقتصادية وبالسياسات المالية والنقدية.

أستاذ الاقتصاد (سابقاً) بجامعة الملك سعود

الأكثر قراءة