التكدس الصناعي في 3 مناطق يحد من نمو الصناعة المحلية
التكدس الصناعي في 3 مناطق يحد من نمو الصناعة المحلية
يسعى الكثير من الدول، وخصوصا الدول النامية إلى إيجاد حلول للتكدس السكاني، والذي تعانيه المدن الرئيسة، وذلك من تفعيل الهجرة العكسية، بالطبع المملكة إحدى الدول التي تعاني ذلك التكدس السكاني في المدن الثلاث الرئيسة، وهي جدة، والرياض، والدمام، وتحاول الدولة جاهدة إلى التخفيف من هذه الهجرة السكانية لتلك المدن، وبالفعل بدأت بالعديد من الحلول لذلك، هذا من ناحية التكدس السكاني، فما هو الحل إذا كان هناك تكدس صناعي أيضا. حقيقة كلاهما مرتبط ببعض، ولكن يعد التمركز الصناعي في منطقة، أو مناطق محدودة فقط أكثر تأثيرا على الاقتصاد، وخصوصا من حيث النمو، والتنوع. المملكة حاليا تعاني من تمركز صناعي كبير في المناطق الرئيسة، وهذا انعكس سلبا على نمو القطاع الصناعي في المملكة إجمالا. وللوقوف على واقع هذا التمركز الصناعي، والحلول الممكنة لإيجاد تواجد صناعي في مختلف مناطق المملكة، كان هذا التقرير.
تعاني السوق المحلية وخصوصا الصناعية منها، إلى الكثير من المعوقات والتي تحد من النمو, لعل من أهمها في وقتنا الحالي تركز الاستثمارات الصناعية في مناطق محددة من المملكة، حيث نجد أن الرياض ومكة المكرمة، والمنطقة الشرقية تحظى بنصيب الأسد من تلك الاستثمارات الصناعية، وفي ظل غياب تام للاستثمارات الصناعية عن الاستثمار في المناطق الأخرى من المملكة، هذه ظاهرة، ويحق لنا أن نطلق عليها ظاهرة لأن كل مستثمر حاليا يريد أن يستثمر في تلك المناطق فقط ولا يريد غيرها.
تجدر الإشارة بداية هنا إلى أن ظاهرة تركز النشاط الصناعي يتجاذبها العديد من النظريات الاقتصادية والتنموية, إذ إن المسألة يحكمها العديد من الاعتبارات، فقد تقتضي الكفاءة الاقتصادية تركز النشاط الصناعي في مناطق معينة سواء لاعتبارات اقتصادية كوفرة مدخلات وعناصر الإنتاج، أو اعتبارات إدارية كالاقتراب من المؤسسات أو مراكز اتخاذ القرار، أو اعتبارات تجارية وتسويقية كالاقتراب من الموانئ وأسواق الاستهلاك... إلخ. وهذه الأسس واجبة التطبيق عند تحليلنا لهذه الظاهرة بين مدن المملكة. ونكون بصدد مشكلة حقيقية إذا ما كان تركز النشاط الصناعي في مناطق بعينها وليد اعتبارات غير اقتصادية في وقت تحرم فيه مناطق أخرى من هذا النشاط, رغم ما تنعم به من إمكانات وميزات نسبية. ففي حالة كهذه لا بد من البحث عن الحلول التي تقود إلى إعادة توزيع وتوطين النشاط الصناعي.
عدد المصانع المنتجة بحسب المناطق
تشير آخر إحصائية صادرة من وزارة التجارة والصناعة، إلى أن منطقة الرياض هي المنطقة، بل المدينة وليس المنطقة، هي التي تستحوذ على أكبر عدد من المصانع المنتجة في السوق المحلية، حيث يصل عدد المصانع فيها إلى 1447 مصنعا منتجا، ويليها في الترتيب من حيث تواجد عدد المصانع، منطقة مكة المكرمة، أو المنطقة الغربية، حيث يصل عدد المصانع المنتجة هناك إلى أكثر من 1026 مصنعا، ومن ثم تأتي المنطقة الشرقية في المرتبة الثالثة من حيث تواجد المصانع فيها، حيث يصل عدد المصانع المنتجة هناك إلى أكثر من 884 مصنعا، ومن ثم تأتي بعد ذلك منطقة القصيم في المرتبة الرابعة، حيث يصل عدد المصانع فيها إلى 148 مصنعا فقط، ونلاحظ هنا الفرق الكبير بين المناطق التي تقع في المرتبة الثالثة والرابعة، حيث نجد أن هناك فرقا كبيرا بين تلك المناطق من حيث عدد المصانع المنتجة فيها، حيث يصل الفرق إلى 736 مصنعا، ومن الجانب الآخر نلاحظ أن أقل المناطق يوجد فيها مصانع هي منطقة الحدود الشمالية هي أقل المناطق، حيث لا يتجاوز عدد المصانع فيها تسعة مصانع. حقيقة كل ذلك هذا يشير إلى أن هناك تكدسا، أو تواجدا كبيرا للمصانع في المناطق الثلاثة الرئيسة، الرياض، الشرقية، ومكة المكرمة، وهذا يعد مؤشرا خطيرا جدا، لا بد من الوقوف عنده كثيرا، والبحث عن حلول لإيجاد انتشار مناسب للاستثمارات الصناعية في مختلف مناطق المملكة وليس في منطقة أو مناطق محددة.
مصانع المناطق الرئيسة والمناطق الأخرى
نقصد هنا بالمناطق الرئيسة كلا من منطقة الرياض، ومنطقة مكة المكرمة، والمنطقة الشرقية، كل تلك المناطق تستحوذ على نصيب الأسد من التواجد الصناعي، حيث يصل العدد الإجمالي للمصانع المتواجدة في تلك المناطق الثلاث إلى 3357 مصنعا، من إجمالي عدد المصانع المنتجة في السوق المحلية والتي يصل عددها كما ذكرنا إلى ما يقارب 3917 مصنعا.
وهذا يعطي مؤشرا إلى أن ما يقارب من الـ 86 في المائة من المصانع العاملة في المملكة تتواجد في المناطق الرئيسة، والنسبة المتبقية، وهي الـ 14 في المائة مقسمة على مناطق المملكة الأخرى.
التوزيع الجغرافي للسـكان والعمالة الصناعية بين مدن المملكة الرئيسة
بالنظر إلى عدد السكان إلى إجمالي العمالة الصناعية، فقد لوحظ أيضاً أن المدن الثلاث الكبرى على الرغم من استيعابها 36 في المائة فقط من إجمالي سكان المملكة إلا أن نصيبهم من إجمالي العمالة الصناعية بلغ 74 في المائة في مقابل 26 في المائة من العمالة الصناعية للمدن الأخرى التي تستحوذ على 64 في المائة من إجمالي سكان المملكة، وهو ما يعكس تبايناً واضحاً وتركزاً في المدن الثلاث على حساب أغلب مدن المملكة الأخرى (جدول 3).
وأخيراً لوحظ أن غالبية الشركات الأجنبية والمشاريع المشتركة العاملة في المملكة تتركز في الرياض وجدة والدمام, بالإضافة إلى مدينتي ينبع والجبيل نظراً لتوافر البنية الأساسية وسهولة الانطلاق للأسواق العالمية من خلال المطارات والموانئ. فإذا كان عدد المصانع الأجنبية العاملة في المملكة 494 مصنعاً، كان نصيب مدينتي الرياض وجدة وحدهما 331 مصنعاً أي أكثر من ثلثي المصانع الأجنبية العاملة في المملكة.
الأسباب الرئيسة لظاهرة التركز الصناعي في المملكة
سبق أن أكدنا في المقدمة على أن قضية تركز النشاط الصناعي ترتبط باعتبارات الكفاءة الاقتصادية. وبتطبيق هذا المعيار الاقتصادي على واقع الاستثمار الصناعي في المملكة اتضح لنا، أن ذلك وبحسب الوضع الراهن لا يخرج عن هذا، وذلك لتركز النشاط الصناعي في مدن كالرياض أو الدمام أو جدة عن المعيار الاقتصادي (الكفاءة الاقتصادية) الذي عرضنا له في المقدمة وهو الاقتراب من عناصر ومدخلات الإنتاج ومراكز اتخاذ القرار أو موانئ التصدير وهكذا، كذلك لمواقع مؤسسات التمويل المتخصصة في التمويل الصناعي في تلك المدن الرئيسة، إضافة إلى عدم معرفة الكثير من المستثمرين في المناطق الأخرى أن هناك مؤسسات تمويل متخصصة في التمويل الصناعي.
أيضا كان من أسباب هذا التمركز للمصانع في تلك المناطق الثلاث، نظراً لأن أغلب تلك المناطق تمتاز بالكثافة السكانية، وتلك الكثافة السكانية لا شك أنها تمتلك قوة شرائية كبيرة مقارنة بالمناطق الأخرى، لذلك وانطلاقا من أن الصناعات تنشأ من أجل تحقيق عائد ربحي مجز، وهذا لن يكون إلا مع تخفيض تكلفة الإنتاج قدر الإمكان، لذلك تركزت تلك المصانع في تلك المناطق لتكون قريبة من المستهلك.
أيضا من العوامل أو الأسباب التي أدت إلى هذا التمركز، الشركات العائلية، حيث نلاحظ أن أغلب الاستثمارات الصناعية، في السوق المحلية، هي عبارة عن شركات عائلية، والذي يؤدي بالطبع إلى أن تكون تلك الاستثمارات في المناطق التي تتواجد فيها تلك العائلة المالكة لتلك الاستثمارات، وهذا بلا شك انعكس سلبا على توطين الكثير من الاستثمارات الصناعية في مناطق المملكة الأخرى، واقتصر الاستثمار في المناطق الرئيسة الثلاث.أيضا من الأسباب المهمة التي عززت تواجد مثل تلك المصانع في تلك المناطق المحدودة، توجه المصنعين، أو المستثمرين في القطاع الصناعي إلى الاستثمار الأمثل لجميع عناصر الإنتاج، وذلك نظراً لأن الكثير من الصناعات يغذي بعضها بعضاً، وهذا أدى بالطبع إلى تمركز المصانع في مناطق محددة، من أجل تحقيق ذلك الاستثمار الأمثل لجميع عناصر الإنتاج.
أيضا من الأسباب التي دفعت للتمركز في تلك المناطق هو وجود بنية صناعية تحتية، متوافرة في تلك المناطق لا تتوافر في بقية مناطق المملكة الأخرى، وتلك البنية التحتية تعد من أهم عوامل الجذب المهمة لتوطين الصناعات، فمتى كانت هناك بنية صناعية تحتية، أتت تلك الاستثمارات.
كيفية إعادة تركز النشاط الصناعي
قبل الدخول في عرض المقترحات الهادفة إلى إعادة تركز الاستثمار الصناعي بين مدن المملكة, تجدر الإشارة إلى أن أنه خلال العامين الماضيين تم اتخاذ خطوات إيجابية على مختلف الأصعدة بهدف تشجيع الاستثمار الصناعي في المدن النائية يمكننا إيجازها فيما يلي:
إعادة رسم الخريطة الصناعية ليس من السهل ذلك، إن لم يكن هناك تكامل وتفاعل بين الجهات ذات العلاقة بالشأن الصناعي المحلي، وهذا التكامل أو التفاعل لن يكون فاعلا إن لم يكن مؤسسا على دراسات متخصصة في ذلك. ومن أجل إعادة رسم الخريطة الصناعية المحلية، هناك بعض الأسس التي من الممكن أن ينطلق منها لإعادة تمركز تلك المصانع والصناعات في مناطق المملكة الأخرى، ومنها ضرورة إجراء دراسة علمية موسعة لاستكشاف المزايا النسبية لمختلف مدن ومناطق المملكة, وذلك من أجل التعرف على الإمكانات والمزايا النسبية في تلك المناطق، وفي الوقت نفسه التعرف على ما تحتاج إليه للاستفادة من تلك الإمكانات بشكل أفضل، ومن ثم الترويج لتلك الفرص، والميزات الناتجة في تلك المناطق محليا، وإقليميا. وحقيقة هذا لن يتم بصورة جيدة إن لم يكن هناك دعم وتشجيع من اللجان الاقتصادية التابعة لمجالس تلك المناطق.
أيضا من المقترحات التي من الممكن أن تكون فاعلة لإعادة رسم الخريطة الصناعية المحلية، هو إنشاء فروع للمؤسسات المعنية بالاستثمار الصناعي في المملكة، وذلك حتى تكون تلك المؤسسات قريبة من المستفيدين، أو بمعنى آخر المستثمرون في تلك المناطق. فمثلا وزارة التجارة والصناعة، وهيئة المدن الصناعية، وصندوق التنمية الصناعية، وغيرها من الجهات أو المؤسسات الحكومية الأخرى، لابد أن تصل للمستفيدين من خدماتها، ولا تنتظر أن يأتي المستثمرون إليها، وأن يبادروا إلى تشجيع الاستثمار في تلك المناطق.
كذلك لفك هذا التمركز، ونشر الصناعة السعودية في مختلف مناطق المملكة، من المهم جدا توفير بنية تحتية محفزة من جميع الجوانب، مثل إنشاء مؤسسات تعليمية، وتدريبية، وخدمية، وصحية، وذلك لتشجيع الأفراد أو للانتقال لتلك المناطق والاستقرار فيها.
أيضا يتطلب إعادة تركز الاستثمار الصناعي في المناطق النائية، توفير حزمة من الحوافز بتلك المدن بشكل يفوق ما يمنح للاستثمار في المناطق الثلاث الرئيسة، وبشرط ألا يتعارض هذا مع أنظمة منظمة التجارة العالمية. أيضا منح العديد من الميزات التنافسية للمستثمرين الأجانب إذا كان الاستثمار بعيدا عن المناطق الرئيسة الثلاث. أيضا من ناحية استقدام العمالة، لابد من إعطاء مستثمري تلك المناطق الأفضلية، والأولية في منح العمالة، دعما لهم وتشجيعا من أجل توطين الصناعة في مختلف المناطق، وليس في مناطق محددة.
أيضا من المحفزات للاستثمار الصناعي في مناطق المملكة المختلفة هو الإسراع في عملية تحويل الشركات العائلية إلى شركات مساهمة، وذلك لتحفيزها للانتقال وإعادة التمركز.
ويعد التوجه الحكومي خلال السنتين الأخيرتين بتفعيل العديد من البرامج الصناعية المتخصصة، للنهوض بالصناعة المحلية، والاستفادة من الميزات النسبية للكثير من المناطق، أحد الحلول المناسبة لتغيير شكل الخريطة الصناعية، من حيث التنوع والانتشار المقنن بناء على الميزات التنافسية لكل منطقة.