استراتيجية استثمار الفوائض المالية ضرورة يحتمها الواقع الاقتصادي
استراتيجية استثمار الفوائض المالية ضرورة يحتمها الواقع الاقتصادي
المنهجيات والتوصيات التي تقدمت بها الدورة الثالثة لمنتدى الرياض الاقتصادي حول تطوير وإدارة الفوائض المالية وتوظيفها يبدو أن لقاحاتها قد خرجت إلى فضاءات المعالجات السيادية والتحقت بأسبقيات الأجهزة العليا, فقد أصدر مجلس الشورى في الأول من نيسان (أبريل) 2008م توصية تحث على وضع استراتيجية لتطوير استثمار وإدارة الفوائض المالية وإعادة توظيفها بما يلبي احتياجات المواطن الحالية والمستقبلية ويراعي حقوق الأجيال المقبلة.
ويرى الشورى أن هذا المنحى ينبغي أن يتم بالتنسيق بين وزارة الاقتصاد والتخطيط ووزارة المالية إضافة إلى الجهات المختصة الأخرى.
ونبعت هذه التوصية المهمة في معرض مناقشات الأعضاء للتقريرين السنويين لوزارة الاقتصاد والتخطيط للعامين الماليين 1425- 1426هـ - و1426-1427هـ حيث أوصى المجلس بضرورة إيجاد آلية علمية لمتابعة تنفيذ مشاريع الخطة الخمسية وتحديد نسب مئوية لمعدلات التنفيذ والقيمة المكتسبة ومنح الوزارة مرونة في توفير الكوادر والتخصصات وإنشاء وكالة للاقتصاد في الوزارة لتقوم بمهام تطوير آليات لمتابعة وتقييم أداء الجهات الحكومية والقطاع الخاص.
ونحسب أن هذه التوافقية في النظر إلى الكليات الاستراتيجية للاقتصاد السعودي بين ما دعا إليه منتدى الرياض الاقتصادي وما أوصى به مجلس الشورى, ترمز بوضوح إلى وجود حراك نحو بلورة الرؤى المستقبلية في معالجة قضايا الاقتصاد على أسس علمية ومنهجية تأخذ في الحسبان المتغيرات المحلية والدولية كافة وتستجيب لشروط استدامة التنمية كشعار لجميع الأعمال والدراسات التي تقدم بها منتدى الرياض الاقتصادي في دوراته الثلاثة الماضية وكذلك الدورة الرابعة التي انطلقت أخيرا أعمال الإعداد لها.
ومن اليسير كذلك أن نقرأ في هذا الإطار خلفيات الحديث الذي أدلى به حمد السياري محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي حول إرهاصات التوجه لتأسيس صندوق سيادي سعودي، وأن الشركة التي يجري تأسيسها لصالح صندوق الاستثمارات العامة يمكن وصفها بمثابة الصندوق السيادي.
وبشر السياري بأن فكرة الصندوق قد بلغت مراحل متقدمة فهي حاليا منظورة أمام المجلس الاقتصادي الأعلى.. مشيرا إلى أن الشركة ستتبع لصندوق الاستثمارات العامة الذي كان قد أعلن عنه وزير المالية الدكتور إبراهيم العساف لدى افتتاح أعمال منتدى الرياض الاقتصادي في كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي 2007م في الرياض.
وحسب السياري فإن الشركة الاستثمارية المزمع إنشاؤها يمكن توصيفها بالصندوق السيادي لكن رأسمالها سيكون محدودا مقارنة بمعظم الصناديق السيادية حول العالم فلن يتعدي رأس المال نحو 22 مليار ريال وستتركز أعمالها في الدرجة الأولى على الاستثمارات المحلية إلا أنها لن تستبعد مستقبلا الفرص الاستثمارية في الخارج وفقا لما يقرره مجلس إدارتها الذي يرأسه وزير المالية.
تجارب دولية
وتتيح الدراسة التي قدمت ضمن أعمال منتدى الرياض الاقتصادي (الثالث) حول الفوائض المالية، الاطلاع على تجارب ثمانية دول في ميدان الصناديق السيادية وهي تجارب الكويت، أبوظبي، النروي، سنغافورة، ماليزيا، الصين، والولايات المتحدة.
وبينت الدراسة أوجه التشابه الكبير بين تجربة أبوظبي ومقومات المشروع في المملكة من حيث مصدر الفوائض المالية التي تغلب عليها الإيرادات النفطية، وتمتلك أبوظبي جهازين عملاقين لاستثمار فوائضها المالية قدر مجموع استثماراتها بنحو تريليون دولار وهما جهاز أبوظبي للاستثمار وشركة مبادلة للتنمية.
وقدرت الدراسة مجمل الفائض المالي في هذين الجهازين أنه يكاد يعادل في قيمته مجمل ما حصلت عليه المملكة من إيرادات نفطية منذ عام 1993م إلى نهاية عام 2006م التي تبلغ نحو 2.4 تريليون ريال مضافا لها جملة ما يملكه صندوق الاستثمارات العامة وهي نحو 800 مليار ريال وما تملكه مؤسسة النقد من استثمارات وهي نحو 800 مليار ريال .
واصطحبت الدراسة فوارق الإنفاق التنموي الذي قامت به المملكة نتيجة لاتساع رقعتها الجغرافية وعدد سكانها والتزاماتها الدولية التي تفوق مجتمعة بعدة أضعاف نظيرتها في أبوظبي وبالتالي فإن ما تبقى من هذه الموارد للاستثمار يقل كثيرا وبعدة أضعاف عما استطاعت أبوظبي تجنيبه من مواردها المالية للاستثمار, إلا أن حصيلة أبوظبي من إيراداتها النفطية تقل بدورها بفارق كبير كذلك عن إيرادات المملكة لكونها أكبر مصدر للنفط في العالم وبفارق كبير مع الإمارات، ومنها استنتجت الدراسة أن الحكمة والكفاءة في الاستثمار للمبالغ الصغيرة نسبيا يفوق العائد على استثمار المبالغ الكبيرة إذا لم توفق في اختيار سياسات ووسائل استثماره.
منهجيات لاستثمار الفوائض المالية
وانتقت الدراسة المنهجيات التي تناسب المملكة لاستثمار فوائضها المالية التي تمثلت في:
ـ تحويل صندوق الاستثمارات العامة إلى شركة مساهمة عامة مستقلة تكون مرجعيتها للمجلس الاقتصادي الأعلى.
ـ تحديد منهج محدد وثابت لتكوين الفوائض المالية يقوم على إضافة باب خامس إلى الميزانية العامة للدولة يسمى الفائض المالي أو مخصص الاستثمارات العامة وتخصص له نسبة 10 في المائة من الإيرادات المقدرة وكل عوائد خصخصة الشركات والهيئات التي تملكها الدولة.
ـ تتفرغ مؤسسة النقد العربي السعودي لدورها كمصرف مركزي.
ـ صياغة الاستراتيجية الاستثمارية للفوائض المالية التي تشمل الكيفية المنهجية، وأين تستثمر هذه الفوائض، والمدى الزمني الذي ترتبط به الموارد المستثمرة مثال الاستثمار طويل الأجل وقصير الأجل وسياسات التحول إلى نقد، ومناهج لتقبل المخاطر المرتبطة بهذه الاستثمارات وتحديد الجهات المكلفة بتقييم نتائج هذه الاستثمارات, والجهات التي تعود لها في النهاية عوائد هذه الاستثمارات.
ـ اقتراح أمثلة لمجالات استثمار الفوائض، ومنها تمويل المشاريع التي تستثمر المزايا النسبية للمملكة ومن هذه المزايا حسب الدراسة توافر المملكة على أكبر احتياطيات العالم من النفط وتوافر عدد كبير من الخامات المعدنية كالفوسفات والبوكسايت والسيليكا وموقع المملكة الجغرافي المميز.
ـ تمويل مشاريع تعظيم حركة العمرة والزيارة, وشراء حصص في المنشآت التعليمية العالمية المتطورة أو امتلاكها.
آليات توظيف الفوائض
وتبنت الدراسة عددا من الآليات التي تتسق مع المنهجيات المشار إليها ومنها:
ـ تأسيس الشركات التي ينبغي أن تقوم على دراسات جدوى اقتصادية عالية المستوى المهني للمشاريع التي توظف فيها الفوائض تسويقيا وفنيا وماليا.
واقترحت إشراك القطاع الخاص السعودي والشركات الأجنبية مالكة التقنية إضافة إلى شركة الاستثمارات العامة.
ـ تملك حصص في الشركات غير السعودية ذات التقنية المتطورة التي تحتاج إليها المملكة حيث لا يقتصر دور شركة الاستثمارات العامة على إقامة المشاريع داخل المملكة بل يمكنها حسب الاستراتيجية الاستثمارية المعتمدة ونسب التوازن المقررة فيها, تملك حصص في رأسمال الشركات الأجنبية ذات التقنية المتطورة كإحدى آليات نقل التقنية وتوطينها في المملكة.
ـ تملك شركة استثمارات مالية مثل إنشاء شركات مالية تمكنها من توفير السيولة وتتخصص في وسائل مالية سريعة التسييل والتحول إلى نقد كالأسهم والأوراق المالية والودائع البنكية.
ـ دعم توسعات الشركات السعودية القيادية حيث تستثمر شركة الاستثمارات العامة في أداء دورها الحالي في دعم الشركات السعودية القيادية مثل "سابك" و"معادن" وتوسعاتها وشركاتها الجديدة.
ـ التنازل عن حصصها في الشركات الناجحة، فشركة الاستثمارات العامة لا تهدف إلى تعظيم ملكية الدولة للاقتصاد ولا تنافس القطاع الخاص ولا تشكل استثماراتها مهما عظمت رجوعا أو تناقضا مع سياسة الخصخصة التي اعتمدتها المملكة وإنما هي في الدرجة الأولى أداة دفع وتوجيه للاستثمارات في الاتجاه الصحيح، وبذلك فبإمكانها التنازل عن حصتها في ملكية أي مشروع سبق لها تأسيسه أو المساهمة في تأسيسه إذا تأكد لها نجاح المشروع وقيامه بتحقيق الهدف من إنشائه واستقراره.
إيجابيات انبثاق الشركات القيادية
توقعت الدراسة جني نتائج بالغة الأهمية من قيام الشركات والمشاريع التي تتبناها شركة الاستثمارات العامة ومنها:
أ- مشاركة عدد من منشآت القطاع الخاص كمؤسسين:
إذ ستسعى شركة الاستثمارات العامة لدعوة عدد من شركات ومؤسسات القطاع الخاص للمشاركة كمؤسسين في تأسيس ما تطرحه من شركات.
ب- مشاركة عدد كبير من صغار المستثمرين في مشاريع موثوقة كمكتتبين:
حيث تعمد شركة الاستثمارات العامة إلى طرح جانب كبير من رأسمال الشركات التي تؤسسها للاكتتاب العام مما يعني اشتراك أعداد ضخمة تصل إلى مئات الألوف إن لم يكن عدة ملايين من المواطنين العاديين في ملكية هذه الشركات كمساهمين.
ج- توظيف المدخرات الصغيرة والحد من تبعثرها في منشآت غير قادرة على المنافسة:
وذلك عبر إتاحة الفرصة أمام أصحاب المدخرات الوطنية الصغيرة لتوظيف مدخراتهم في شراء أسهم شركات موثوق بها قامت بتبنيها شركة استثمارات مرموقة, وعدم توجه هذه الاستثمارات نحو إقامة مشاريع بالغة الصغر وتكرار تأسيس منشآت فردية (كالبقالين وما شابه) تفوق أعدادها حاجة البلد ويرافق نجاحها وقدرتها على الصمود والمنافسة قدر كبير من الشك.
د- الاستفادة من سوق رأس المال:
وذلك بتأسيس المشاريع عبر إشراك القطاع الخاص المحلي والقطاع الأجنبي (شركات التقنية) للاستفادة من سوق رأس المال المحلي والأجنبي في تمويل مشاريع التنمية في المملكة وبالتالي تخفيف الضغط على الميزانية العامة ومضاعفة طاقة شركة الاستثمارات العامة على تمويل المشاريع.
هـ - تحقيق خطط التنمية وتحويلها إلى مشاريع ملموسة:
عند رصد أهداف اقتصادية في خطط التنمية يمكن تقدير ما يحتاج إليه تنفيذ هذه المشاريع من وحدات إنتاجية وخدمية وتحديد الجهة التي سيوكل لها تنفيذ هذه المشاريع وبالتالي وقوف كل جهة - ومنها شركة الاستثمارات العامة - على ما يترتب عليها تنفيذه، أي أن خطط التنمية تكتسب بوجود استثماري كفؤ مثل شركة الاستثمارات العامة مزيدا من القدرة على التنفيذ والتحول من أهداف إلى وحدات إنتاجية فاعلة.
ز- تخفيف الضغط على الميزانية العامة:
بإمكان شركة الاستثمارات العامة طرح مشاريع شركات مساهمة يكون الغرض منها تقديم خدمات صحية وعلاجية وتملك منشآت العلاج والاستشفاء بأجر، وكذلك طرح شركات مساهمة يكون الغرض منها تقديم خدمات تعليمية من خلال تملك مدارس ومعاهد وجامعات خاصة وإدارتها، وطرح شركات تعمل في مجال تشييد المباني وبيعها نقدا وبالتقسيط، وفي ذلك كله تخفيف من الضغط على الموازنة العامة لتقديم مثل هذه الخدمات ضمن الإنفاق العام.
ح- الضغط على المعوقات وتحسين بيئة الاستثمار:
سيؤدي طرح مشاريع استثمارية تأخذ شكل الشركات المساهمة التي تتبناها شركة الاستثمارات العامة إلى زيادة عدد المنشآت الاقتصادية القوية القادرة على كشف المعوقات والسلبيات في إدارة الاقتصاد السعودي والسعي المشترك مع الجهات المعنية على التصدي لهذه السلبيات وحل هذه المعوقات.
ط - قيام شركات تمارس نشاطها فور تأسيسها:
شركة الاستثمارات العامة لن تطرح للاكتتاب العام إلا إذا استوفت شروط تشكيلها وأكملت جميع الإجراءات السابقة لممارسة نشاطها والتي يمكن لمعظمها ممارسة نشاطها فور استكمال شخصيتها القانونية أي استكمال المفاوضات مع موردي الآلات وربما مع المستهلكين المحتملين واختيار العناصر القيادية، كما أن طلب رأس المال عبر الاكتتاب العام يأتي لتمويل هذه الاتفاقيات وتنفيذها دون إبقاء رأس المال معطلا بانتظار إنجاز مثل هذه الإجراءات بعد التأسيس كما يحدث في بعض المشاريع.
ي- توزيع رأس المال المستثمر على عدد أكبر من المشاريع:
تتيح المنهجية المقترحة في الدراسة (أي مشاركة كل من شركة الاستثمارات العامة كمطور للمشاريع والقطاع الخاص والقطاع الأجنبي مالك التقنية) تتيح لشركة الاستثمارات العامة تحمل جزءا من رأسمال هذه المشاريع فقط وبالتالي توزيع طاقتها التمويلية على عدد أكبر من المشاريع.
ك- وأخيرا وربما كان هو الأثر الأهم استثمار هذه الفوائض داخل المملكة والتخفيف من توجهها خارج المملكة.
وبالعودة إلى إفادات حمد السياري محافظ مؤسسة النقد حول هذا الموضوع يجدر أن نلتمس هنا ما أشار إليه ردا على ما إذا كانت الشركة تتجه للاستثمار في الأصول أم الأسواق المالية أن مثل هذه القرارات متروكة لدراسة الفرص الاستثمارية وتقديرات مجلس إدارة الشركة.
وكانت قد ترددت أخيرا في الأوساط المالية العالمية أن صندوق النقد الدولي قد شرع في وضع لمسات أولى لأول ميثاق عالمي يراد له أن ينظم استثمارات الصناديق السيادية في العالم، وذلك بعد أن اكتسبت الصناديق القائمة أهمية متزايدة في النظام النقدي والمالي الدولي بما في ذلك تأثيرها في الاستقرار المالي والتدفقات الرأسمالية في جميع أنحاء العالم.