حمراء الأسد.. رواية ملوثة بدأت منذ 20 عاما وتنتظر نهايتها!

حمراء الأسد.. رواية ملوثة بدأت منذ 20 عاما وتنتظر نهايتها!

أضحت القضية المنظورة في ديوان المظالم ضد أمانة المدينة المنورة ووزارة التجارة والرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة قضية رأي عام بامتياز، ولم تعد تعني المدعين فقط وهم 600 شخص من حي حمراء الأسد، الذين يطالبون بتعويضات تتجاوز قيمتها مليار ونصف المليار ريال، ولا تعني فقط الشركات الأربع المرفوعة ضدها هي الأخرى قضية تنظر بدورها في المحكمة العامة في المدينة المنورة بداعي التلوث، فالكثير ينتظرون نتائج هذه الدعاوى!
قد تعد هذه القضية هي الأولى من نوعها، ليس لارتباطها بمطالبات مالية فقط، بل لوفاة عدد من سكان حي متخم بالنفايات، ومحاط بعدد من المصانع التي تبث أمراضا قد ترتبط بالتلوث البيئي وقد لا ترتبط، وهذا الأمر المفجع يوجد أكثر من علامة استفهام وأصابع الاتهام تتجه إلى أكثر من وجهة تمس كلا من المصانع، الأمانة، وبعض الجهات الحكومية التي قد تنعت بالإهمال في هذه الحال.
هنا وقفت إمارة المدينة المنورة موقفا نظر إليه بإيجابية عالية، حين وجه الأمير عبد العزيز بن ماجد عددا من التوجيهات التي خففت العبء عن أهالي المنطقة، وحاولت الحد من حجم أضرار التلوث التي تم اكتشافها، ليأمر بتزويد أهالي الحي بحصة وافرة أسبوعيا من مياه الشرب العذبة، ويبدأ من خلال إيقاف التدهور الصحي الدخول إلى قضية الكشف حول حقيقة وجود التلوث في المياه المحيطة بالحي السكني ومن المتسبب فيها، ما دعاه في رمضان الماضي إلى إيقاف عدد من المصانع عن العمل في تلك المنطقة قبل أن يتم التأكد من طريقتها في معالجة مخلفاتها، ويرفض تصريحا صحافيا لوكيل أمانة المدينة المنورة نفى فيه وجود تلوث أصلا، وقد وصف الأمير عبد العزيز هذا التصريح المشكك في دراسات جامعة طيبة حول الموضوع بـ"غير الدقيق".

تابعها: أحمد الديحاني
تصوير:

"حمراء الأسد"، اسم ارتبط بمعركة في العصر الإسلامي الأول بين جيوش قادمة من مكة وأخرى تدافع عن المدينة، واليوم يرتبط الاسم من جديد بمعركة من نوع آخر أصبحت المعركة القضائية الأبرز -إعلاميا على الأقل-، ولتتداخل فيها موضوعات التلوث المؤدي للموت من جانب الطرف المدعي والرغبة في التعويض و"التعريض بالآخرين" من جانب آخر ما زال يدافع.
المدعي في القضيتين اللتين تنظر إحداهما في ديوان المظالم والأخرى في المحكمة العامة، جهة واحدة يمثلها عدد من سكان حمراء الأسد أو "حمراء نملي"، ويقف للدفاع عنهم قضائيا أربعة من المحامين، حيث قدموا شكواهم قبل أقل من عام ضد ثلاث من الجهات الحكومية في ديوان المظالم وضد أربع مؤسسات خاصة في المحكمة العامة، والمبالغ المطلوبة للتعويض تصل نحو ملياريّ ريال.
وتقع حمراء الأسد في طريق الهجرة المؤدي إلى مكة المكرمة وخلف منطقة آبار علي أو ميقات ذو الحليفة على بعد نحو 30 كيلومترا من مركز المدينة المنورة، وتتمتع بأرضية سهلة ليست على شاكلة عموم أرض المدينة المنورة، التي تشكل الحرات والأرض الصخرية الشكل الطبيعي لها.

شكوى السكان
تبدأ القصة في عام 1403 هـ (1983م) عندما استيقظ سكان منطقة حمراء الأسد البالغ عددهم 650 أسرة على غيوم سوداء وروائح كريهة تصدر من مرمى النفايات الذي استحدث آنذاك، وأبدى أهالي الحي انزعاجهم من التلوث الحاصل ليخطوا أول خطوة تجاه الجهات الحكومية في إبلاغهم عما يضايقهم من مرمى المخلفات الصناعية و يطالبون بإزالة الضرر.
لم تتجاوب الجهات الرسمية الممثلة في الأمانة ووزارة التجارة مع شكاوى المواطنين بحسب عدد من أهالي الحي في عريضتهم المقدمة لديوان المظالم، ومنذ ذلك التاريخ والأهالي بحسب العريضة، ما بين شكوى وإصابة لقريب أو جار نتيجة زيادة التلوث ولما تعرض له أهل الحي من أمراض وتشوهات خلقية في الأجنة جراء التلوث الصناعي لمخلفات المصانع في مرمى الصرف الصحي جنوب غرب المدينة.
ومع تراكم التلوث لـ 20 عاما بحسب بيان المحامي الرئيس للمدعين سعود الحجيلي، تولدت كارثة بيئية منذ أربع سنوات ويظهر الفرق بين التلوث البيئي والكارثة البيئية، إذ إن الأخيرة تعد أشد ضرراً على الإنسان نتيجة انتشار الضرر من تجمع التلوث البيئي لمحيط أكبر.
ويستقبل مرمى مخلفات الصرف الصناعي جميع مخالفات مصانع المدينة بتسعيرة صادرة من أمانة المدينة في منتصف شهر المحرم لعام 1425 وهي تسعيرة لسعر المركبات الناقلة للصرف (عشرة ريالات لناقلة من نوع مرسيدس عادي، 15 ريالا لناقلة مرسيدس ذات العجلات، و26 ريالا لمرسيدس تريلا).
وعلمت "الاقتصادية" أن التلوث وصل إلى أبيار الماشي المجاور لمضمار الهجن، وهي ضاحية تحتوي على 25 بئرا تتزود المدينة المنورة منها أحيانا بمياه الشرب، ما ينذر بخطر صحي كبير على المواطنين في حال ثبوت التلوث الصناعي بها من جانب الجهات المسؤولة.
وأفادت تقارير من جهات عدة تلوث منطقة حمراء الأسد بمواد مسببة للأمراض التي عاناها المواطنين الذي توفي البعض منهم ومازال الآخرون يعانون المرض.
ويفيد التقرير الطبي الصادر في شهر رجب الماضي عن 12 حالة إصابة لأطفال بالتخلف العقلي، في حين يمتلك عدد من سكان منطقة حمراء الأسد تقارير تثبت إصابتهم بحساسية الصدر والجلد وأمراض الربو.

أساس القضية
مع مطلع العام الماضي قام نحو 600 شخص من أبناء حمراء الأسد برفع دعوى قضائية ضد كل من أمانة المدينة المنورة ووزارة التجارة وهيئة الأرصاد وحماية البيئة، مطالبين من خلال أربعة محامين بتعويض يقدر بأكثر من مليار ونصف المليار ريال سعودي نتيجة إصابتهم بأمراض يرونها وبائية وبسبب التلوث، وتولى ديوان المظالم الشكاوى الموجهة ضد الجهات الحكومية الثلاث في حين تكفلت المحكمة العامة بالنظر في القضية المرفوعة ضد الشركات الأربع العاملة في منطقة الأضرار، وهي شركات تعمل في دباغة الجلود والصوف الصخري وفي مجال النظافة والتصريف.
ومنذ بدء المحاكمة في الجهتين القضائيتين في منتصف العام الماضي، تعددت الجلسات القضائية، التي من المتوقع أن يبت فيها قريبا وركزت عريضتا الدعوى المرفوعة لرئيس محاكم المدينة المنورة ولديوان المظالم، على أن ما قامت به بعض الشركات والمصانع المرخص لها من جانب الأمانة ووزارة التجارة ومصلحة الأرصاد في المدينة من مخالفات التخلص غير السليم من مخلفاتها الكيميائية في موقع مرمى النفايات التابع لإشراف تنسيق الأمانة، تسبب في إزهاق أرواح العديد من الأشخاص إلى جانب انتشار الأمراض بين الناس؛ بسبب تلوث المياه والخضراوات واللحوم والمواد الغذائية، الأمر الذي نتج عنه انتشار داء السرطان وتشوه الأجنة وعددا من الأمراض الخطرة التي أثبتت الدراسات والتحاليل أن سببها يعود إلى تسرب المواد الكيميائية إلى المياه الجوفية نتيجة التخلص غير السليم من مخلفات الصرف الصناعي غير السائلة إلى جانب غياب الدور الرقابي للجهات الرقابية.
وفي بيان للمحامي سعود الحجيلي رئيس فريق الادعاء الممثل لسكان الحي الواقع جنوب غرب المدينة، أفاد أن الأضرار لم تقتصر على البشر الذين يحصون بنحو ألف أسرة، فكثير من الحيوانات وبالذات الأغنام قد نفقت وولد لكثير منها ولادات مشوهة، مؤكدا أن البحوث العلمية أثبتت أن التلوث سببها إلى جانب ما يلاحظ في المنطقة من موت سريع دون سبب واضح، موت بطيء مع مرض السرطان، التشوهات، الشلل، فقدان القدرة على التركيز والصرع، مشيرا إلى أن الطيور التي ملأت الأرض موتا في مأساة لم يسبق لها مثيل وفق الوصف الذي أورده البيان.
وقال الحجيلي إن الحي الذي يقطنه أكثر من نحو ألف عائلة، لا يوجد به منزل لم يتضرر، إذ لا يخلو أي بيت من مصاب أو مبتلى، وكشف أن التقارير العلمية أثبتت أن المنطقة التي تقع بها هذه الأحواض التي يتم التخلص غير السليم من السموم السائلة فيها، وهي الواقعة بين آبار علي ومفرحات وهي الأعلى في المدينة، في حين أن المنطقة الأكثر انخفاضا هي المنطقة المركزية حول الحرم، بمعنى أن ذلك يزيد الخشية من تسرب السموم إلى قلب المدينة، لافتا إلى أن الأرض المحيطة قد تشربت بالمواد الملوثة السامة وأضحت الكثير من الخضراوات مسرطنة بحسب البحوث العلمية.
وفي حين وافقت المحكمة العامة على قبول الدعوى المقامة من المواطنين ضد الشركات بعد النظر فيها حسب الاختصاص وفق الأنظمة القضائية، استمرت إحدى جلسات القضية لخمس دقائق فقط، بعدها أعلن القاضي المكلف بالنظر في قضية التلوث البيئي إرجاء النظر فيها إلى أواخر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، رافضا الاستماع لموكل الادعاء إلا من خلال شكاوى تكتب بشكل مستقل لكل مواطن بدلا من الترافع بشكل جماعي عن كل أفراد الحي المتضرر بيئيا.
وأرجع القاضي سليمان الدويش هذا القرار إلى اعتبارات عدة، أبرزها أن النظام ينص على أن تكون شكاوى المتضررين مستقلة ولا ينظر فيها دفعة واحدة، وذلك لاختلاف حجم الضرر من مواطن لآخر.
وآنذاك قال المحامي سعود الحجيلي الذي يملك توكيلا بالادعاء من 191 مدعيا على جهات حكومية وخاصة بالإضرار البيئي: "إن طلب القاضي الادعاء بشكل مستقل من جانب كل مدع، حتَّم علينا طلب التأجيل لحين الاستعداد للشكل الجديد من المحاكمة الذي لم نكن مستعدين له أصلا"، لافتا إلى أن اثنين من زملائه المحامين في هذه القضية لم يسمح لهما بالحضور.
ومن جهته، أعد المحامي حامد فلاته الممثل الشرعي عن المصانع الثلاثة المدعى عليها، أن محامي المدعين لم يستطع الرد على سؤال للقاضي حول قائمة الأضرار من المرمى المخصص للمخلفات الصناعية التي لحقت بموكله الأساسي في مذكرة الادعاء، ما دعاه -بحسب المحامي فلاته- إلى طلب التأجيل.

أطراف أخرى

تحفظت أمانة المدينة المنورة من خلال خالد متعب مدير العلاقات العامة فيها، على الحديث حول القضية، طالما أن القضية ما زالت قيد التداول في المحكمة، معتبرا ذلك غير مسموح به حاليا، في حين صرح المهندس صالح قاضي وكيل الأمين للخدمات أثناء تداول القضية في المحكمة، نافيا تلوث المنطقة بفعل المصانع، وشكك حينها في دراسات جامعة طيبة، الأمر الذي رفضه الأمير عبد العزيز بن ماجد أمير المدينة المنورة، معداً إياه تصريحا غير دقيق، وأكد أن الإمارة شكلت العديد من اللجان لرصد ومعاينة مرمى المخلفات الصناعية، لافتا إلى أنه سيتم اتخاذ كافة الإجراءات الإدارية والاحتياطات الفنية اللازمة للحد من التلوث ومعالجة القائم منه، وتحمل كل جهة مسؤولياتها السابقة لعدم تكرار ذلك.

وكان الجانب الإعلامي طرفا مهما في القضية, زُجّ به أحيانا من أطراف رئيسة ليكون المسؤول عن تفجير القضية قبل وصولها إلى المحكمة وتداولها منذ منتصف العام الماضي وهنا يشير الزميل الصحافي عبد المحسن البدراني مدير مكتب صحيفة "المدينة" في المدينة المنورة إلى جانب آخر من الموضوع هو أن الجهات المعنية يجب أن تبدأ خطوات إصلاح الضرر بالاعتراف أولا بمسؤوليتها بدلا من التنصل منها.
ويضيف البدراني والذي يشار إليه من جانب الجهات المدعى عليها باعتباره أكثر من أثار الموضوع, وأعطاه صبغة مأساوية. إن ما يثير القلق أكثر هو إصرار بعض المسؤولين في تلك الجهات على أن لا شيء خطيرا حدث بالفعل بدلا من الاعتراف ومحاولة إصلاح ما يمكن لهم أن يصلحوه، وقال إن القضية كشفت نفسها ولا تحتاج إلى إعلام كي يهول منها, بل فقط ليكشفها.
أياً كان فإن قضية التلوث في حمراء الأسد أخذت بعدا إعلاميا مازال الكثيرون يرونه متفاوتا بين الضعف الشديد إزاء ضخامة حجم القضية وبين من يرون تهويل الموضوع من قضية تلوث "عادية" إلى "كارثة بيئية " وهم يعدون أن العالم كله يمر الآن بمثل هذه التلوثات الصناعية المخالطة للأحياء السكانية ولم يسمها أحد بعد هناك بالكارثة البيئية.

الأكثر قراءة