توسعة المسعى تمت بدراسة واستشارة لاهل العلم والخبرة

توسعة المسعى تمت بدراسة واستشارة لاهل العلم والخبرة

قدم الدكتور أحمد بن يوسف الدريويش أستاذ الفقه في كلية الشريعة في الرياض ومستشار مدير جامعة الإمام, رؤية فقهية حول المسعى الذي تمت توسعته في بيت الله الحرام, وهو بعد التعديلات يسمى المسعى الجديد, وبدأت هذه الرؤية الفقهية بالحديث عن مكانة السعي في الإسلام, حيث يقول السعي: ركن من أركان الحج والعمرة لا يتم واحد منهما إلا به, ولا يجبر بدم. هذا هو قول الأئمة الثلاثة: مالك, الشافعي, وأحمد في رواية راجحة, وحكاه النووي – يدل على ذلك قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله ..) الآية.
فهذا يدل على أن السعي بينهما لا بد منه, لأن شعائر الله يجب تعظيمها, ولا يحل أو يجوز التهاون بشيء منها .. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحلو شعائر الله ..) الآية.
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "طاف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطاف المسلمون – يعني بين الصفا والمروة – فكانت سنة, ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة".
وفي صحيح مسلم – أيضاً – عنها – رضي الله عنها – أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "يجزي عنك طوافك بين الصفا والمروة, عن حجك وعمرتك" .. معنى هذا أنها إن لم تطف بينهما لم يحصل إجزاء عن حجتها وعمرتها.
وروى الدار قطني والبيهقي عن صفية بنت أبي شيبة عن نسوة من بني عبد الدار أنهن سمعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد استقبل الناس في المسعى, وقال: "يا أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم" وقد حسنه النووي في المجموع, وصححه الألباني في الإرواء .. وهذه دلالة على وجوبه.
ولأنه نسك في الحج والعمرة, فكان ركناً فيهما كالطواف في البيت.. ولصحة السعي شروط وواجبات ذكرها أهل العلم مع اختلاف في بعضها, منها ما يلي:
أن يتقدمه طواف صحيح, الترتيب في السعي (بأن يبدأ بالصفا ويختم بالمروة), استيعاب ما بين الصفا والمروة, إكمال سبعة أشواط.. (يحسب الذهاب من الصفا إلى المروة مرة, والرجوع من الصفا إلى المروة مرة ثانية), وأن يكون السعي في موضع السعي.
وأورد الدكتور الدرويش قول الذين يقولون إن السعي بمحاذاة المسعى سواء من داخل المسجد, أو من خارجه لا يعتد بسعيه, ولا يجزئه .. وذلك لأن السعي مختص بمكان فلا يفعله بغيره .. هذا إذا لم يعلم موضعه ومكانه.. أما إذا علم وحدد من قبل أهل العلم والاختصاص والخبرة والدراية.. حيث يقول معلقا على ذلك إن لي وقفة حول هذا وهو أن الدولة السعودية – وفقها الله وأيدها – تولت أمر الحرمين الشريفين, وقامت عليهما عناية ورعاية واهتماما وحفظا وتوسعة وكل ما من شأنه أن ييسر على الحجاج والمعتمرين والزوار أداء نسكهم بسهولة وراحة وأمن واطمئنان .. وأنفقت في سبيل ذلك الأموال الطائلة, وواصل المسؤولون فيها العمل الجاد ليلا ونهارا لتحقيق ذلك .. كل ذلك وفق استشارات شرعية وعلمية وفنية وتقنية من أهل الخبرة والاختصاص .. وإن اختلفت الاجتهادات والآراء ووجهات النظر .. إلا أنه يوازن بينهما ويؤخذ بما تقتضيه المصلحة ولا يتعارض مع أحكام الشريعة وثوابتها.
وأضاف: لا يخفى على الجميع ما قامت به الدولة من عمل جبار في المشاعر المقدسة وتحديدا في منى يستحق الإشادة والتقدير والعرفان ألا وهو مشروع الجمرات العظيم - حتى إنه ليعد من عجائب الدنيا السبع إذا اكتمل – الذي وجه به خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود – حفظه الله –الذي ظهرت آثاره الإيجابية واضحة جلية على حجاج بيت الله من حيث التيسير ودفع الحرج وأداء هذه الشعيرة التي هي الرمي بانسيابية وراحة وأمن وخشوع .. ما جعل الجميع يلهج بالدعاء بأن يحفظ الله هذه البلاد وولاة أمرها وعلماءها وأهلها من كل سوء ومكروه, وأن يؤيدها بالحق وأن يبقيها راعية للحرمين, حافظة لهما, رائدة للعالم الإسلامي أجمع .. ومن غيرها يقوم بمثل هذه الأعمال – وذلك من فضل الله ومنته.
وتوالت هذه المشاريع العظيمة في المشاعر المقدسة ومنها (توسعة المسعى) وذلك ابتغاء وجه الله, ورجاء ما عنده, وخدمة للإسلام وأهله, بنية صادقة, وعقيدة صافية, واستحضارا لتزايد أعداد الحجاج والعمار والزوار التصاعدي عاما بعد عام .. وما ينبغي أن يصاحب ذلك من عمل وتخطيط تجاه هذه النازلة, ومواكبة لهذه الواقعة, ودراسة فقهية شمولية لها .. وبيان الحكم الشرعي للمحاذاة في المشاعر ومواقيت الحج, ومراعاة لما كان عليه كان السعي في حجة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد حج معه الجم الغفير حيث وصل العدد إلى (100 ألف تقريباً) وبعضهم كان يسعى على الإبل, ومعلوم ما تأخذه الإبل من المسافة والمساحة والتباعد فيما بينها أثناء المسير .. وكذا امتداد جذر جبلي الصفا والمروة, واتصال جبل الصفا بأبي قيس وشهادة الشهود في ذلك .. كل ذلك يصاحبه إدراك وفقه لعظمة هذه الشريعة ويسرها, وشمولها, وتمام لهذا الدين وكماله: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) هذه الآية الكريمة العظيمة التي نزلت في حجة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم عرفة .. هذه الحجة التي تجلى فيها بوضوح يسر هذا الدين وسماحته وعظمته.
ذلك أنه لما كان الحج مظنة المشقة والضنك والعسر لكثرة أعماله وتزاحمها وتتابعها .. فضلا عن أجناس وحالات وأوضاع الحجاج .. كان اليسر مصاحبا له, وبلسما شافيا يطمئن النفوس, ويريح العقول والقلوب من هم الضنك والمشقة والعسر والتشديد على الجسد والبدن ويحفظه من الهلاك أو ما دونه .. فالرمي والنحر والحلق والطواف والسعي .. أعمال تؤدى في يوم واحد ألا وهو (يوم الحج الأكبر) إلا أن فضل الله واسع ورحمته وسعت كل شيء .. والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو الرحيم بأمته الرؤوف بها (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) فما سئل ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك اليوم عن شيء قدم أو أخر إلا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (افعل ولا حرج) .. فرخص للأقوياء فضلا عن الضعفة والنساء .. ولما سئل عن مقدار حجم حصى الرمي قال كما في الحديث الصحيح: "نعم بأمثال هؤلاء, وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" وقال يوم عرفة وقد اشتد الزحام, وحرص الصحابة على القرب منه لأخذ مناسكهم عنه: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف .." وعن مزدلفة: "وقفت هاهنا ومزدلفة كلها موقف" وعن النحر "نحرت هاهنا ومنى كلها منحر .. نحرت هاهنا وكل فجاج مكة طريق ومنحر" .. فرفع الحرج عن أمته ويسر عليها أداء مناسكها ليكون ذلك نبراسا لها في سائر أمورها وشؤونها فما من عسر ومشقة إلا ويصحبه يسر وفرج قال تعالى: "فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسراً" ومن القواعد الفقهية المقررة التي تدور عليها كثير من الأحكام "المشقة تجلب التيسير" وما يتفرع عنها وما يبنى عليها من أحكام .. وربطت الشريعة اليسر ودفع الحرج بالدين قال تعالى "وما جعل عليكم في الدين من حرج" وقال عليه الصلاة والسلام "إن هذا الدين يسر .." وهذا دليل على عظمة هذا الدين، حيث لم يربطه بأحوال الناس، أو بأهوائهم وشهواتهم ورغباتهم .. وإنما فيما يحقق مصالحهم ويدفع الحرج عنهم بعامة .. ولا شك أن الشريعة عدل كلها، مصالح كلها، ورحمة كلها، ويسر كلها كما هو مقرر .. فلا تأتي إلا بخير، ولا تدل إلا عليه، فمن يسر هذا الدين مراعاته لمصالح العباد، وحفظه لأنفسهم ودينهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم ونسلهم .. وقد أنزل لهم وكلفوا به .. والنبي عليه الصلاة والسلام ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن آثما .. ولنا في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسوة حسنة.
وأكد الدكتور الدريويش أنه بناء على هذا كله نقول التوسعة لا تعد خروجا عن حدود المسعى المعتبر شرعا له وإن ما حصل من توجيه كريم من قبل ولاة الأمر – حفظهم الله وسددهم – من توسعة للمسعى إنما كان بدراسة واستشارة وشهادة شهود ووثائق ورجوع لأهل العلم والخبرة والنظر في تحديد البداية والنهاية والسعة والعرض له وما يلحق به مما يدخل فيه شرعا من غير إهمال لآراء من سلف ومراجعة لها ونظر فيها .. وإن اختلفت وجهات النظر، وتنوعت الاجتهادات والآراء في ذلك كما أسلفنا ولكل وجهة .. ولا شك أنها محل اعتبار وتقدير واحترام وإن جرى العمل على خلافها، ورجح الحاكم ما يراه، ذلك أن حكم الحاكم يرفع الخلاف كما هو مقرر فقها .. فإذا رجح أحد القولين أو الأقوال المتعارضة ظاهرا لمصالح يراها فإنه يؤخذ بقوله، ويعمل به عملا بالسياسة الشرعية، وذلك بحكم ولايته العامة، ولأن نظره نظر مصلحة، ولأنه مؤتمن على الرعية .. فضلا عما في ذلك من مصلحة محققة، ويسر ورفع الحرج والمشقة.. وأي مصلحة أعظم من حفظ الأنفس التي قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيها: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وقال ـ سبحانه تعالى ـ "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان عليكم رحيما" .. فمن قدم مكة حاجا أو معتمرا وسعى بين الصفا والمروة في السنوات الأخيرة ولا سيما أيام الحج وفي رمضان, خاصة في العشر الأواخر منه, رأى الهلاك بعينه وخاف على نفسه منه .. ناهيك عن المشقة والعسر والتزاحم والإيذاء وعدم الخشوع والخروج بهذا الركن العظيم عن روحانيته وما شرع من أجله .. ثم إنه وكما هو مدون في كتب الفقهاء المعتبرين أن من الفقهاء من قال: إن السعي واجب وليس بركن، فيجبر بدم .. وهو مذهب أبي حنيفة .. ورواية عن أحمد .. وروي عن عطاء بن أبي رباح .. وبه قال القاضي من الحنابلة قال ابن قدامة في المغني: وهو أولى .. بل إن من الفقهاء من قال: إنه سنة وليس ركنا ولا واجبا، وهو رواية عن الإمام أحمد – رحمه الله – كما روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – وغيره.
وبناء عليه فإن الحج والعمرة يصح من دونه .. ولست في مقام التدليل لهما، لأنهما قولان ـ في نظري ـ مرجوحان.
وإن ما أريد تقريره هنا أن ورود الخلاف في هذه المسألة وأخذ بعض الفقهاء به دلالة على سعة الأمر في هذه النازلة (أقصد السعي في المسعى الجديد) وقبول الخلاف فيها، وأعذار المخالف.. وإعمالا لما قال به بعض أهل العلم من أن الفتوى على ما كان عليه العمل.. وما ينتج عن ذلك من توفير لأهل العلم والفضل، وإحسان الظن بهم، وإعزاز الثقة بهم والأخذ عنهم، وتوحيد الكلمة، ونبذ الفرقة والاختلاف، وتضييق دائرة النزاع، وعدم تخطئة أو بطلان سعي من سعى في التوسعة الجديدة التي نفذت حاليا وأن التوسعة لا تعد خروجا عن حدود المسعى المعتبر شرعا له .. وذلك استنادا إلى ما ذكرناه من استنباطات وتوجيهات وإدراك لمقاصد الشريعة، وضروراتها، ويسرها، وشمولها وسعتها ومراعاتها لأحوال الناس قوة وضعفا وصحة وسقما، واختلاف أزمنتهم، وأمكنتهم .. ولا سيما في عباداتهم وعلاقتهم بربهم .. وما أجمل ما قيل (إن اختلاف الناس في الحق لا يوجب اختلاف الحق في نفسه، إنما تختلف الطرق الموصلة إليه، والقياسات المركبة عليه، والحق في نفسه واحد) ولهذا وصف بعض العلماء هذه الأمة بأن اختلافها في فروع أحكام دينها رحمة، يقول عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – (ما أحب أن أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام لا يختلفون، لأنه لو كان قولاً لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة) كل ذلك إذا صلحت النيات، وسلم المعتقد، ولم تمس المصادر الشرعية، أو تخالف الأدلة القطعية من الكتاب والسنة، أو النصوص غير المحتمة للتأويل, والله أعلم بالصواب.

الأكثر قراءة