لتحول من التقنيات القديمة إلى الحديثة .. من الخاسر ومن الرابح؟
عندما تظهر التقنيات الفائقة، لا تختفي التقنيات القديمة ببساطة بل على العكس من ذلك، فكثيراً ما يقفز أداؤها بشكل مفاجئ، الأمر الذي يطيل أعمارها ويتسبب في إبطاء تبني التقنيات الجديدة. وحدث هذا الشيء مع السفن التي كانت تسير بواسطة الأشرعة بعد تطوير السفن البخارية. ومن الأمثلة الأحدث على ما أطلق عليه "الأنفاس الأخيرة" الطباعة اليدوية مقابل الطباعة الكمبيوترية، والدراجات الهوائية المصنوعة من الصلب مقابل دراجات الألمونيوم، وكاربوريترات السيارات مقابل أنظمة حقن الوقود الإلكترونية، وجراحة معالجة الشريان التاجي بالشريان البديل مقابل طريقة معالجة الشرايين بتوسعتها.
ولعدة عقود، كانت تفسر هذه الظاهرة تقليدياً من ناحية سلوكية: فعندما تعرضت شركات التكنولوجيا القديمة لخطر الاختفاء، بدأت تبحث جادة عن طرق تنقذها من هذا المصير. ولكن حينما بدأتُ في إجراء دراسة عن الأنفاس الأخيرة، وجدت شيئاً محيراً بشأن هذا التفسير. ذلك أن معظم التقنيات التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة بيعت في أسواق كانت تتميز بشدة المنافسة قبل وصول التقنية الجديدة. وهكذا، بدا أن اللاعبين الموجودين يبذلون كل ما بوسعهم لتحسين التقنية القديمة، مخضعين الافتراضات القديمة إلى التساؤل. وحينما تعمقت أكثر، وجدت أنه كانت هناك آليتان مغفلتان تعملان.
تراجع لاتخاذ موقع دفاعي
في غالبية الحالات، يتم التحول إلى التقنية الجديدة بشكل تدريجي. ففي البداية، تتم إزاحة التقنية القديمة من شرائح السوق(أو التطبيقات) التي لم تعد تلائمها نسبياً، الأمر الذي يتركها في المواقع التي تكون أكثر قدرة على المنافسة فيها, وفي بعض الحالات تكون النتيجة تحسناً في الأداء بفضل إدخال بعض التغييرات عليها. فالسفن الشراعية أخلت طرق النقل القصيرة للسفن التجارية ولكنها واصلت الإبحار على الطرق الطويلة، الأمر الذي كان يعني أن السفن الشراعية تمضي وقتاً أقل في القيام بالأشياء التي لم تكن تحسن القيام بها (المناورة حول الموانئ في ظل ضيق الحيز المتاح وأحوال الرياح المتقلبة)، وزادت من قيامها بالأشياء التي كانت تحسن القيام بها (الإبحار في البحار المفتوحة دون أن تضطر إلى حمل الوقود). ونتيجة لذلك قفز أداؤها- الذي يقاس بمتوسط السرعة وكلفة طن الحمولة.
وفي حالات أخرى، فإن التركيز على إحدى شرائح السوق يكون محفزاً لإدخال تحسينات على التقنية القديمة. فقد كشفت الدراسة التي قمت بها بالاشتراك مع روبرت هوكمان من كلية هارفارد للأعمال أن هذا الشيء حدث مع جراحة معالجة الشريان التاجي بشريان بديل بعد بدء العمل بتوسعة الشريان كوسيلة لعلاج مرض الانسداد الشرياني الذين يتمتعون بصحة جيدة نسبياً. فرغم أن الجراحين الذين يقومون بالنوع الأول من المعالجة يتعاملون مع الأشخاص الأشد مرضاً والأخطر حالاً، فقد تحسنت النتائج فعلياً بالنسبة لهؤلاء المرضى. ويبدو أن تركز الحالات الصعبة وفر للأطباء فرصاً أفضل لكي يتعلموا كيف يطورون الأساليب التي يستخدمونها.
استخدام الجديد لتحسين القديم
كثيراً ما تلجأ التقنيات القائمة إلى استعارة بعض عناصر التقنية الجديدة. فقد عملت شركات صنع الكاربوريترات على زيادة كفاءة الوقود بإدخال أجهزة ضبط إلكترونية في المنتجات التي طورتها لأنظمة حرق الوقود الإلكترونية. وزادت الشركات التي تنتج الشرائح الخاصة بالحواسيب التي تستخدم الكثير من التعليمات المعقدة من أداء منتجاتها عبر تبنيها لبعض ميزات الشرائح التي تستخدم تعليمات أقل، مثل تصميم الشرائح الأخيرة بحيث تتمكن من إجراء بعض عمليات المعالجة الأساسية.
إن هذه الأضواء على أسباب الأنفاس الأخيرة لها إيحاءات استراتيجية رئيسية بالنسبة للشركات العاملة في الصناعات التي تحدث فيها عمليات انتقال للتقنيات. ومن الأخطار التي تتعرض لها شركات التقنية الحديثة، التقليل من شأن طول مدة التأخير الذي تسببه لها الأنفاس الأخيرة حتى تصبح مربحة. ففي دراسة أجريتها على صناعة المواد شبه الموصلة، تبين لي أن سوء التقدير هذا قد تسبب في تعثر وإخفاق العديد من شركات التقنية المبتدئة. وبالنسبة للشركات المرسخة التي تمكنت من بث روح جديدة في التقنيات القديمة، يتمثل الخطر في أن تعتبر الأنفاس الأخيرة تحسناً مستداماً، إذ يمكن أن يؤدي ذلك إلى المبالغة في تقدير إمكانات منتجاتها، وإلى الإفراط في الاستثمار في محاولة تعزيزها والانتظار مدة أطول من اللازم قبل التحول إلى التقنية الجديدة. وقد وقعت في هذا الفخ شركتا هوليي وكارتر لصنع الروديترات، كما وقعت فيه شركة المعدات الرقمية. ويتضح من خبرات هذه الشركات وشركات أخرى أن الاستراتيجية يمكن تؤثر على كيفية حدوث عملية التحول من التقنيات القديمة إلى التقنيات الجديدة ومن يربح ومن يخسر. علماً بأن الطريق و الخطى والنتيجة ليست مقدرة ومحتومة.
شرح صورة
يتضح أن الاستراتيجية يمكن تؤثر على كيفية حدوث عملية التحول من التقنيات القديمة إلى التقنيات الجديدة ومن يربح ومن يخسر.