هل من كابح لدور المضاربين في ارتفاع أسعار النفط؟

بالرغم من أن المعروض من النفط أكثر من الطلب وبالرغم من أن المهندس علي النعيمي وزير البترول والثروة المعدنية السعودي صرح بأنه يوجد ما يكفي من النفط في الأسواق العالمية وأن العالم ينتج من النفط أكثر مما يستهلك، وبالرغم من أن الوزير النعيمي أعلن بعد ذلك أن السعودية رفعت إنتاجها خلال شهر أيار (مايو) 2008م بمقدار 300 ألف برميل من الخام يومياً استجابة لطلب عملائها، ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية على أن يصل مستوى إنتاجها في حزيران (يونيو) 2008م إلى 9.45 مليون برميل يومياً. وبالرغم من أن منظمة الأقطار المصدرة للبترول "أوبك" أعلنت مرارا أنها مستعدة للتدخل إذا اظهرت السوق الحاجة إلى أي إجراءات إضافية. بالرغم من كل ذلك ما زالت أسعار النفط تواصل ارتفاعها حتى وصلت إلى نحو 135 دولاراً للبرميل، ويتوقع بعض خبراء النفط أن تصل إلى 200 دولار للبرميل في وقت قريب. ويرجع ذلك إلى عوامل عديدة، منها تزايد حدة المضاربة في أسواق النفط العالمية مع دخول العديد من صناديق الاستثمار الكبرى في هذه الأسواق وتحقيقها أرباحا ضخمة من ما يسمى (البراميل الورقية)، حيث يقوم المضاربون وصناديق الاستثمار بتوقيع عقود لشراء كميات كبيرة من النفط وذلك بغرض المتاجرة بهذه العقود حيث يبيعونها مع ارتفاع أسعارها إلى مشترين آخرين، ويستمر تداولها بين المستثمرين إلى أن ينتهي تداولها إلى المصافي والشركات التي تجهز بدورها هذا النفط للمستهلك النهائي.
ليس وزراء النفط في دول أوبك وحدهم يلقون باللوم على نشاط المضاربة المتزايد كعامل من عوامل الارتفاع السريع والمتوالي لأسعار النفط التي تضاعفت أكثر من أربعة أمثال خلال السنوات الخمس الماضية، بل إن بعض الخبراء في الدول الغربية يؤكدون دور المضاربة في هذا الارتفاع، أسوق على ذلك مثالا بتصريح بيتر فوسر المدير التنفيذي في مجموعة رويال داتش شل في 29/4/2008م، الذي قال فيه إن أسعار النفط التي وصلت إلى مستويات قياسية تنطوي على عنصر مضاربة وإن الإمدادات كافية في الأسواق العالمية، بل إن الخبير الألماني أوجين فاينبرج حذر مما سماه "فقاعة المضاربات" في أسواق النفط، وقد جاء هذا التحذير عندما تجاوزت أسعار النفط 125 دولاراً، بل إن الخبير المذكور أعلن عن اعتقاده "إننا على وشك دخول المرحلة الأخيرة لتكوين فقاعة المضاربة أو إننا أصبحنا بالفعل داخل هذه المرحلة"، مضيفاً أنه يعتقد أن السعر العادل لبرميل النفط لا بد أن يكون دون 100 دولار.
وفي يوم الأربعاء 28/5/2008م، نشرت جريدة "الشرق الأوسط" تقريراً حول أسعار النفط جاء فيه أن مؤسسة باركليز كابيتال الاستثمارية في نيويورك انتقدت مؤسسة غولدمان ساكس، وقالت إنها تتحمل جزءاً غير قليل من مسؤولية المضاربات العالمية في سعر النفط وإنها تبالغ في توقعات الأسعار التي تنشرها، وإن ذلك كان من أسباب استمرار الزيادة في سعر النفط، وأشار التقرير إلى دراسة كتبها بول هورسنيل، وكيفين نوريش، خبيران في "باركليز كابيتال" وصفت مضاربات النفط بأنها (سيرك).
من ناحية أخرى، طالب عبد الله البدري أمين عام منظمة أوبك بوضع حدود للمضاربين المسؤولين عن ارتفاع أسعار النفط، وشدد على ضرورة "ضبط المضاربين، وأهمية وجود رقابة مالية". وأضاف "لا أطلب معاقبة المضاربين ولا إبعادهم عن السوق، لكني أطلب وضع حدود لنشاطاتهم".
وإذا كان المسؤولون والخبراء في الدول المنتجة والدول المستوردة للنفط يرون أن الارتفاعات السريعة والمتوالية لأسعار النفط ليست في مصلحة الطرفين لأن لهذه الارتفاعات أضرارا اقتصادية واجتماعية وسياسية فادحة على الطرفين وخصوصا على المدى الطويل، وإذا كان للمضاربين دور مؤثر في هذه الارتفاعات، فهل من وسيلة لكبح جماح هؤلاء المضاربين؟ ... الوسيلة تكمن كما قال أمين عام "أوبك" في "ضبط المضاربين". هذا الضبط لا يتأتى إلا بوضع نظام قانوني لعقود النفط الآجلة يمنع أن تكون هذه العقود سلعا في حد ذاتها تتم المتاجرة بها وتداولها في أسواق النفط (البورصات)، فالواقع أن كثيرا من عقود النفط الآجلة هي عقود بيع لكميات من النفط غير موجودة فعلاً أو لم يمتلكها البائع بعد، وإنما سوف يمتلكها في المستقبل، وتعرف هذه العملية باسم "البيع على المكشوف short sale". ويقدر بعض الخبراء كميات النفط محل العقود الآجلة بأنها تتجاوز عدة مرات إنتاج دول أوبك وغيرها من الدول المنتجة غير الأعضاء على مدى أعوام عديدة. وهذا يعني أن كثيرا من هذه العقود المتداولة تتعلق بكميات نفط غير موجودة في الواقع. ويمكن القول إن بيع هذه العقود أشبه ببيع الطير في عنان السماء أو السمك في أعماق البحر.
وفي تقديري أن نظرية العقود في الشريعة الإسلامية تعطينا أفضل نظام قانوني لضبط نشاط المضاربين لأنها تحتوي على قواعد وضوابط تستهدف تحقيق العدل ودرء الضرر عن المتعاقدين والمجتمع، ومن هذه القواعد قاعدة (لا تبع ما ليس عندك) وقاعدة (عدم جواز بيع المعدوم) وذلك جاء في البند الخامس من قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، المتخذ في الدورة السابعة المنعقدة في مكة المكرمة من يوم 1 إلى 16 ربيع الآخر سنة 1404هـ، ما يلي:
(العقود الآجلة بأنواعها التي تجري على المكشوف، أي على الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع، بالصورة التي تجري في سوق الأوراق المالية "البورصة" غير جائزة شرعاً، لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك، اعتمادا على أنه سيشتريه فيما بعد، ويسلمه في الموعد. وهذا منهي عنه شرعاً، لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تبع ما ليس عندك"، وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم).
ثم أجرى القرار المذكور في بنده السادس مقارنة بين العقود الآجلة في (البورصة) وعقد السلم الجائز شرعاً وأوضح الفرق بينهما وذلك على النحو التالي:
ليست العقود الآجلة في سوق الأوراق المالية (البورصة) من قبيل بيع السلم الجائز شرعاً، وذلك للفرق بينهما من وجهين:
أ – في سوق الأوراق المالية (البورصة) لا يدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد، وإنما يؤجل دفع الثمن إلى موعد التصفية، في حين أن الثمن في بيع السلم يجب أن يدفع في مجلس العقد.
ب – في سوق الأوراق المالية (البورصة) تباع السلعة المتعاقد عليها – وهي في ذمة البائع الأول، وقبل أن يحوزها المشتري الأول – عدة بيوعات، وليس الغرض من ذلك إلا قبض أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين، مخاطرة منهم على الكسب والربح، كالمقامرة سواء بسواء، بينما لا يجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه.
ونخلص من جميع ما سبق إلى القول إن آلية العرض والطلب لم تعد في الوقت الحاضر هي المتحكمة في أسواق النفط وأن تداول عقود النفط الآجلة على النحو الجاري في البورصات الدولية لا يعدو أن يكون عمليات مقامرة تساهم في تقلب الأسعار بشكل ضار وغير طبيعي، وأن المسؤولية تقع على الدول التي توجد في أقاليمها بورصات النفط وعليها أن تبادر إلى وضع نظام لعقود النفط الآجلة المتداولة في هذه البورصات يمنع عمليات المقامرة المحمومة ويتيح لآلية العرض والطلب أن تعمل بطريقة سليمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي