جليدان معلقا: وجود الممارسات الاحتكارية لا يمكن نفيه .. لكن أين الدليل؟
استعرضنا في عدد أمس ردود عدد من الكتاب والاقتصاديين حول آراء تجار المواد الغذائية التي باحوا فيها لـ "الاقتصادية" على مدى خمسة أيام. وشرح الكتاب هذه الآراء مسترجعين الأسباب وطارحين الحلول للقضية التي فتحناها لهدف يتعلق بالوصول إلى أمن غذائي في ظل أحداث ومتغيرات متسارعة.
اليوم نستعرض رأي الزميل سعود بن هاشم جليدان الذي سنفرد له الصفحة بكاملها بالنظر إلى تعمقه في الموضوع ومحاولته الجادة الوصول إلى أسباب ارتفاع الأسعار وطرق معالجتها، معتمدا في ذلك على خلفية اقتصادية متخصصة ووفق أرقام وتحليلات دقيقة، يطرح الجليدان أسئلة مهمة تتعلق بدور التاجر والموزع في رفع الأسعار، وأسئلة أخرى حول مقدار الدور، وطرق تلافي رفع الأسعار وإمكانية تحقيق ذلك.
لن نطيل عليكم في التقديم لتعليق الكاتب، بل فقط ندعوكم إلى قراءته والتأمل فيه، والتعليق أيضا عليه وعلى الردود السابقة، وعلى آراء التجار التي استعرضناها في خمسة أعداد.
ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 14.8 في المائة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 مقارنةً بالشهر نفسه من عام 2005م. وتشكل الأغذية ما يقارب 30 في المائة من الإنفاق الأسري في السعودية، وترتفع هذه النسبة لدى الشرائح السكانية الأقل دخلاً. وتسبب هذا الارتفاع في تراجع الدخول الحقيقية للمستهلكين في السعودية بأكثر من 4 في المائة خلال العامين الماضيين. ويشعر المستهلكون بامتعاض شديد من ارتفاع الأسعار الذي خفض من دخولهم ويلقون باللوم على المنتج أو التاجر أو الموزع المحلي. ومن السهل رمي الاتهامات وإلقاء اللوم ولكن من الصعب إثبات تلك الاتهامات على شخص أو جهة محددة. فهل للموزع أو التاجر دور في رفع الأسعار؟ وما مقدار ذلك الدور؟ وهل كان بالإمكان تلافي رفع الأسعار؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي معرفة مراحل تسعير السلع ونسب ارتفاع الأسعار في كل مرحلة والمسؤول عنها. فإذا ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسب تفوق ارتفاع التكاليف التي يتحملها التاجر أو المستورد أو البائع فهذا يدل على مسؤوليته عن رفع الأسعار، أما إذا كان ارتفاع الأسعار جاء منسجماً مع ارتفاع التكاليف فمن الصعب تحميل البائع أو الموزع أو المنتج وزر رفع الأسعار. وفي هذه الحالة فإنه لم يرفع أرباحه أكثر مما كان قبل زيادة الاسعار بل قد يكون البعض منهم قد خفض من أرباحه.
ولكي يتمكن التاجر أو المستورد من رفع الأسعار بنسب مرتفعة فإن ذلك يتطلب تمتعه بقوة احتكارية. فوجود سوق تنافسية يمنع ارتفاع الأسعار بمستويات تفوق الأرباح المعتادة في الأسواق. ويكون المنتج أو الموزع أو البائع أو التاجر محتكراً إذا كان المزود الوحيد للسلعة أو الخدمة. وقد يكون المنتج أو البائع جزءا من تجمع احتكاري إذا عقد اتفاقاً مع مزودي أو منتجي سلعة أو خدمة محددة يتم بموجبه تحديد الكمية أو السعر. ويستطيع المحتكر أو التجمع الاحتكاري تحديد السعر أو الكمية المباعة في السوق، ولكن لا يستطيع تحديد السعر والكمية المباعة في الوقت نفسه. ويتطلب نجاح الاحتكار في رفع الأسعار غياب سلع مشابهة أو بديلة بأسعار منافسة. ويستطيع المحتكر تحقيق أرباح مرتفعة وذلك بخفض حجم المبيعات أو خفض نوعية السلع والمنتجات. وتثبت التجارب التاريخية انهيار اتفاقات تثبيت الأسعار، فبعد عقد اتفاقات بين عدد من المنتجين أو البائعين لتحديد أسعار مرتفعة لسلعة
أو خدمة ما، تستقر الأسعار عند مستويات عالية.
وبعد فترة قصيرة من الزمن سيرى طرف واحد على الاقل أن باستطاعته تحقيق مكاسب عالية بزيادة المبيعات، عندها يقوم بخرق الاتفاق بصورة سرية. وعندما تدرك الأطراف الأخرى خرق أحدهم للاتفاق يتخلى الجميع عن الاتفاق ويرفعون حجم مبيعاتهم أو يخفضون أسعارهم. ولهذا فإن التآمر لرفع الأسعار في العادة يتسمر لفترة محدودة ثم ينهار من تلقاء نفسه. ولا يوجد حسب علمي في السوق السعودية احتكار واضح لسلعة أو طعام محدد. فأسعار المواد الغذائية في الأسواق التنافسية تتحدد بدرجة كبيرة بتكاليف الإنتاج في الأسواق العالمية والمحلية وتكاليف النقل والتوزيع. وتوجه تهم لوكلاء الاستيراد بتحديد أسعار عالية للسلع المستوردة، ولكن يتطلب تحديد الاستيراد بمورد واحد أو ما يسمى الوكيل الحصري منع أي طرف آخر من استيراد نفس السلعة وهذا غير موجود أو مطبق في السعودية، حيث لا تمنع الأنظمة استيراد سلع لها وكلاء في السعودية. وفي حالة قيام مستوردٍ ما برفع أسعاره بصورة مجحفة لتحقق هامش أرباح أعلى من متوسط الأرباح في السوق، فإن هذا التصرف سيشجع الآخرين على الدخول في عمليات الاستيراد، مما يخفض الأسعار في نهاية المطاف إلى مستويات مقبولة.
تجار الماضي موجودون لم ينخفض عددهم ولا وجود لتركيز سلع على عدد محدود منهم بل العكس
يتبادر إلى الأذهان تساؤل عن مدى صحة توجيه تهم الاحتكار في الوقت الحالي وعدم توجيهها في الماضي. فما زال التجار الموجودون أنفسهم في الماضي موجودين في الوقت الحالي، فلم ينخفض عددهم ولا توجد دلائل على ارتفاع تركيز السلع بعدد محدود من المستوردين أو المنتجين أو التجار، بل على العكس من ذلك فالتطورات الاقتصادية والتجارية تشير إلى تزايد عدد المنتجين والمستوردين والتجار. وتشجع سياسات السعودية التجارية الانفتاح والتنافس وذلك في ظل دخول المملكة إلى منظمة التجارة العالمية وقيام السوق الخليجية المشتركة. والسوق السعودية مفتوحة أمام الاستيراد ولا توجد أي رخص استيراد أو منع لاستيراد المواد الغذائية السليمة والمطابقة للمواصفات السعودية. ومما سبق يمكن القول إن عرض المواد الغذائية يتأثر بصورة مباشرة بمستويات العرض في الأسواق العالمية، وإن ارتفاع أسعار المواد الغذائية ناتج بصورة رئيسية عن مستويات العرض والطلب العالمي.
ولا يوجد في العادة احتكار تام أو كامل كما لا توجد منافسة تامة أو كاملة، ولكن كلما قل عدد منتجي أو موزعي سلعة أو خدمةٍ ما ارتفعت القوة الاحتكارية، وكلما ارتفع عدد المنتجين والموزعين ارتفع مستوى المنافسة. ونظراً لكثرة الاتهامات الموجهة لبعض التجار بالاحتكار ولمنع نشوء احتكارات في المستقبل والتصدي لها على المستوى المحلي والخارجي، فإن هذا يتطلب إنشاء إدارة أو هيئة لمكافحة الاحتكار بحيث تكون قادرة ومؤهلة على القيام بعمليات التحقيق في قضايا الاحتكار سواءً كان المتسبب طرفاً محلياً أم خارجياً. كما ينبغي سن الأنظمة التي تيسر إنشاء مثل هذه المؤسسات. وتوجد توجسات من أنشطة احتكارية في بعض الدول المصدرة ترفع أسعار بعض السلع المستوردة، حيث قد تتساهل هذه الدول مع الاحتكارات المحلية أو العالمية لتعظيم استفادة تلك الدول من الممارسات الاحتكارية ضد العالم الخارجي.
ويطالب الكثير من الناس بتحديد أسعار السلع الغذائية للحد من ارتفاع الأسعار. ويصعب الحد من ارتفاع أسعار المواد الغذائية وقد يكون هذا سبباً في رفض الرسول صلى الله عليه وسلم تسعير الأغذية عندما ارتفعت أسعارها في طيبة الطيبة.
وسيقود تحديد أسعار السلع الغذائية تحت مستوى تكاليف توفيرها في الأسواق إلى اختفائها من الأسواق، إلا إذا تم دعم المستوردين أو التجار بفرق التكاليف مع هامش ربح يشجع على الاستمرار في توفير السلع. وسيكون دعم السلع الغذائية كلها مكلفاً للغاية وعرضةً للابتزاز والاحتيال، ويتطلب تطبيقه بذل جهود إدارية ضخمة. وقد يسهم الدعم الكبير لخفض الأسعار في إهدار الموارد، كما يشاع عن استخدام بعض مربي المواشي القمح المدعوم لإطعام مواشيهم.
وتستهدف الدولة دعم عدد محدود من السلع الأساسية الضرورية لكي تتمكن من توفير الموارد المالية والبشرية اللازمة لإدارتها. ويكلف مثلاً دعم أسعار سلعة محددة مثل القمح مليارات الريالات، وتتطلب إدارة إنتاجه وتوزيعه وتثبيت أسعاره وجود إدارة متكاملة هي المؤسسة العامة لصوامع الغلال. ويمكن الجزم بوجه عام أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية جاء منسجماً مع تغير أسعارها على المستوى العالمي وإن كان هذا لا ينفي وجود بعض الممارسات الاحتكارية ولكن لا يمكن تحديدها دون أدلة. ويشير الجدولان المرفقان إلى ارتفاع أسعار السلع الزراعية والأطعمة بنسب تفوق ما هو مشاهد في السعودية.
وتتطلب مواجهة ارتفاع أسعار الأطعمة تبني السياسات الرافعة للمعروض منها على المستوى العالمي. ونظراً لوجود أزمة عالمية في إمدادات السلع الزراعية فإن تأثير سياسات المملكة في أسعار المواد الزراعية العالمية محدود. ولهذا فإن التصدي لارتفاع الأسعار على المستوى المحلي يتركز في تبني حزمة سياسات لمواجهة التضخم بوجه عام مع التركيز على الاستمرار في دعم القطاع الزراعي بما في ذلك استمرار دعم زراعة القمح وتثبيت أسعار الخبز واستمرار وزيادة دعم السلع الزراعية والغذائية الأخرى، وخصوصاً الأساسية منها. وقد يساعد التخلص من بعض الأنظمة والرسوم الجمركية المؤثرة في إمدادات السلع الزراعية مثل الروزنامة الزراعية على خفض محدود لأسعار بعض الأغذية.
الدعم المحلي وتثبيت أسعار بعض المواد الغذائية
خفف الدعم الموجه محلياً لبعض السلع الزراعية المستوردة والمنتجة محلياً من فورة الأسعار العالمية وتأثيرها في المستهلك. فقد حجب الدعم المقدم للقمح في المملكة على مستويي الإنتاج والاستهلاك، تأثير ارتفاع أسعار القمح العالمي في المستهلك المحلي. فقد ارتفعت أسعار القمح إلى أكثر من الضعفين خلال العامين الماضيين، ولو مررت الزيادة في أسعار القمح إلى المستهلك لأدى ذلك إلى ارتفاع قوي في أسعار الخبز ومنتجاته، ولكن الدعم الذي توفره السعودية وتثبيت أسعار الخبز منع تمرير زيادة التكاليف إلى الأسعار. من جهةٍ أخرى، خفف الدعم الكبير المقدم لمستوردي الشعير والأعلاف الأخرى من ارتفاع أسعار هذه المواد في السوق المحلية، وأدى بدوره إلى الحد من ارتفاع أسعار اللحوم والدواجن المنتجة محلياً والتي تمثل جزءا مهماً من سلة استهلاك الفرد في المملكة. كما لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال تجاهل الأثر الإيجابي لتثبيت أسعار المشتقات النفطية في تكاليف المنتجات الزراعية المحلية. وسيسهم الدعم المقدم أخيرا لمستوردي الأرز وحليب الأطفال في خفض أسعار تلك المادتين.
ارتفاع أسعار المواد الغذائية على مستوى العالم
رفع النمو الاقتصادي القوي في الدول الناشئة وخصوصاً الصين والهند مستويات الطلب على السلع الزراعية. ويقف وراء الارتفاع في الأسعار عدد من الأسباب التي أثرت في المستويات العالمية لأسعار هذه السلع. ولا يمنع وجود مسببات كونية لارتفاع الأسعار تواجد أسباب محلية يمكن أن تسهم في تغير الأسعار. وتتأثر بعض السلع الزراعية كالخضار مثلاً بالظروف المناخية المحلية والإقليمية أكثر من غيرها. ويمكن أن تشهد الشهور المقبلة ارتفاعاً في أسعار الخضراوات بسبب البارد القارص الذي ضرب منطقة الشرق الأوسط خلال الأيام الأخيرة.
وبإلقاء نظرة سريعة على بيانات البنك الدولي عن متوسطات أسعار المواد الزراعية والأطعمة يمكن ملاحظة حدوث ارتفاعات قوية للأرقام القياسية لأسعار المجموعات الرئيسية للسلع الزراعية والأغذية كما هو موضح في الجدول (1). فقد ارتفعت الأرقام القياسية لمجموعة السلع الزراعية في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2007م بنسبة 44.3 في المائة، مقارنةً بمتوسط عام 2005م. وارتفعت الأرقام القياسية لأسعار الحبوب وأسعار الشحوم والزيوت في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2007م بنسبتي 77 في المائة، 102.6 في المائة على التوالي مقارنةً بالأرقام القياسية لتلك المواد في عام 2005م. ومن الجدير بالذكر أن أسعار السلع الزراعية لبيانات البنك الدولي مقيمة بالدولار الأمريكي مما يجعلها مطابقة لتغيرات هذه الأسعار بالريال السعودي خلال فترة المقارنة.
وارتفعت متوسطات أسعار كثير من السلع الزراعية لشهر كانون الأول (ديسمبر) 2007م مقارنةً بمتوسطات أسعارها لعام 2005م (جدول 2). فقد ارتفعت أسعار الشاي، زيت فول الصويا، فول الصويا، الذرة الصفراء، الذرة، الأرز، القمح والبرتقال خلال العامين الماضيين. وشهدت أسعار القمح وزيت النخيل وزيت فول الصويا والذرة والذرة الصفراء أشد الارتفاعات وذلك في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2007م مقارنةً بمتوسط عام 2005م. وشهد السكر ارتفاعاً قوياً في أسعاره في عام 2006م بلغ نسبة 37.5 في المائة، ولكن تراجعت أسعاره في عام 2007م.
ودفع ارتفاع أسعار السلع الزراعية بأسعار المستهلكين في كافة أنحاء العالم إلى الأعلى، حيث ارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية ذات العلاقة بكل منتج زراعي. وكانت التغيرات في أسعار المستهلكين أقل من ارتفاعات مستويات أسعار المنتجين. وينتج التباين بين مستويي ارتفاع أسعار المنتجين والمستهلكين عن تأثير العوامل الأخرى الداخلة في تكاليف إنتاج وتجهيز المواد الاستهلاكية. والعوامل الأخرى المسببة لهذا التباين تتركز في درجة تصنيع وتجهيز المواد ورواتب العمالة والمنافسة بين الشركات.
أسباب ارتفاع المواد الغذائية
يرجع ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية على المستوى العالمي إلى عدة أسباب أسهمت كلها في رفع أسعار المواد الغذائية في الأعوام الماضية، وستسهم في حالة استمرارها في دفع أسعار المواد الغذائية إلى الارتفاع خلال الأعوام المقبلة. وأهم هذه الأسباب :
1- ارتفاع أسعار الطاقة الذي رفع أسعار المنتجات الزراعية من جانبي العرض والطلب. فمن جانب العرض دفع ارتفاع أسعار الوقود تكاليف الإنتاج إلى الأعلى، حيث يعتبر القطاع الزراعي من أكثر القطاعات الاقتصادية كثافةً في استخدام الطاقة. كما رفعت زيادة أسعار الغاز الطبيعي والنفط أسعار الأسمدة والمبيدات الحشرية التي تستخدم في الإنتاج الزراعي، وزاد ارتفاع أسعار الطاقة أيضا تكاليف التبريد والتخزين والنقل. وأسهمت كل هذه العوامل مجتمعة في رفع تكاليف إنتاج المواد الزراعية. ومن جانب الطلب أدى ارتفاع أسعار المنتجات النفطية إلى رفع الطلب على بعض السلع الزراعية وخصوصاً السكر والذرة الصفراء لإنتاج الإيثانول. فقد رفع التوسع في استخدام السكر في البرازيل لإنتاج الإيثانول، أسعار السكر على مستوى العالم في عام 2006م. وأدى تشجيع استخدام الذرة لإنتاج الايثانول في الولايات المتحدة إلى توجيه جزء كبير من إنتاج الذرة الصفراء في الولايات المتحدة لإنتاج الإيثانول. ويعتقد أن خمس إنتاج الولايات المتحدة من الذرة الصفراء يستخدم في إنتاج الإيثانول، حيث يخلط مع البنزين لإنتاج وقود للسيارات. ونتج عن ارتفاع الطلب وتكاليف إنتاج الحبوب، ارتفاع أسعار الأعلاف والذي رفع بدوره تكاليف إنتاج اللحوم والدجاج والبيض والألبان ومنتجاتها.
2- رفع النمو السكاني والاقتصادي وخصوصاً في آسيا، الطلب على الغذاء والمنتجات الأولية الأخرى على المستوى العالمي. ونتج عن نجاح الصين والهند في خفض معدلات الفقر وارتفاع معدلات الأجور، رفع مستوى ونوعية الطلب على الأغذية. وارتفع بالتالي الطلب فيهما على الأغذية ذات القيمة الغذائية العالية وخصوصاً اللحوم. وأسهم انتشار إنفلونزا الطيور في توجيه المزيد من الطلب إلى اللحوم الحمراء بدلاً من لحم الدجاج. ومن المعروف أن إنتاج اللحوم الحمراء يتطلب كميات كبيرة من الأعلاف تفوق الكميات المطلوبة لإنتاج لحوم الدجاج. ونتج عن هذا كله رفع الطلب على الأعلاف والحبوب مما دفع بأسعارها إلى الأعلى.
3- أدى ارتفاع الطلب على الحبوب إلى خفض مخزونها، فمخزون القمح في الوقت الحالي يعتبر في أدنى مستوى له خلال 30 عاماً الأخيرة. كما يقدر أن الإنتاج العالمي عام 2007م من الأرز سيقل عن الطلب. وتتأثر أسعار المواد الغذائية وخصوصاً الحبوب بشدة ببيانات مستويات المخزون، فانخفاض بيانات مخزونات الحبوب أعطى إشارات قوية للأسواق لرفع أسعارها.
4- هناك شواهد على حدوث تغير مناخي في إرجاء المعمورة. وقد أثر التغير المناخي بصورة سلبية في مستوى الإنتاج الزراعي العالمي.
5-رفع النمو السكاني الطلب على الأراضي من أجل توسع الحياة الحضرية. وقاد توسع الحياة الحضرية إلى خفض الأراضي المخصصة للزراعة، فالصين مثلاً تخسر أراضي زراعية لإغراض التوسع السكاني تعادل مساحات دول صغيرة. وكان من الأجدى أن تضيف الصين المزيد من الأراضي الزراعية بدلاً من خسارتها للتطور العمراني وذلك لتلبية الطلب المتزايد على الطعام فيها. من ناحيةٍ أخرى، أدى الاستخدام الطويل للتربة إلى تدني نوعية التربة المنتجة في أصقاع كثيرة من المعمورة.
6- رفع انخفاض أسعار الدولار الأمريكي مقابل اليورو وبعض العملات الأخرى تكاليف الإنتاج في الدول التي ارتفعت عملاتها مقابل الدولار. وأهم الدول التي ارتفعت عملاتها هي دول منطقة اليورو والدول المرتبطة باليورو. كما ارتفعت معدلات صرف عملات دول رئيسية منتجة للأغذية على المستوى العالمي ولكن بصورة أقل وأهمها الصين والهند.
يعتقد الكثير من الاقتصاديين أن التضخم في أسعار المواد الغذائية الذي بدأ منذ فترة ليس حدثاً طارئاً أو استثنائيا وإنما هو وليد تغيرات في الاقتصاد العالمي، ومن المرجح أن تستمر لفترة من الزمن. فأسعار المواد الزراعية ارتفعت خلال الأعوام الثلاثين الماضية بوتيرة أقل من ارتفاع أسعار المواد والخدمات الأخرى. ولهذا فمن المرجع ان تشهد أسعار المواد الغذائية ارتفاعاً متواصلاً في الأسعار خلال السنوات المقبلة للحاق بمعدلات أسعار المواد والخدمات الأخرى، والله أعلم.