ارتفاع الأسعار بين الاحتكار وبطء استجابة السوق وغياب الجمعيات
الحوارات التي أجرتها صحيفة "الاقتصادية" على مدى الأيام الخمسة الماضية حول ارتفاع الأسعار والذي استضافته فيه مجموعة من التجار للتحري ومعرفة أسباب الارتفاع المفاجئ والكبير للسلع خاصة الاستهلاكية تهيئ الفرصة لمناقشة القضية من جميع جوانبها وبشفافية. وأحسب أن "الاقتصادية" قد نجحت أيما نجاح في لعب دور اجتماعي كبير وعلى قدر كبير من الأهمية في محاولة لتوضيح الصورة واستشفاف الآراء وتقريب وجهات النظر. فقضية التضخم قضية وطنية تمس حاجات الناس المعيشية اليومية، ولأنها تهم شريحة كبيرة من الناس فإنها تتطلب أن تكون ضمن أجندة العمل الحكومي وربما قفزت إلى أول القائمة. وهذا في ظني ما تسعى إليه "الاقتصادية" من تجلية المشكلة ووضعها في حجمها الطبيعي وفهم حقيقتها على أساس من التحليل الموضوعي وفي الوقت ذاته إتاحة الفرصة لجميع أطراف القضية في إبداء الرأي وشرح وجهة نظرهم. هذه هي الوسيلة الناجعة التي تخلق نوع من التعلم وتبادل الآراء حتى يكون الجميع على بينة من الأمر. ومتى كان هناك فهم لوجهة نظر الآخر يتم البحث عن حلول توافقية وأطر عامة يكون فيها الجميع رابحا. القصد هنا إيجاد حلول وتلاقح أفكار وافتراض حسن النية والنظر إلى الجوانب الإيجابية. كان هذا تنويه بالدور المقدر الذي تلعبه "الاقتصادية" في القضايا العامة وما تتبناه من ندوات وتقارير تسهم في معالجة هذه القضايا لأن معظم التحديات التي نواجهها في المجتمع هي نتيجة جهل الأطراف للرأي الآخر والنظرة الضيقة التي تدور في دائرة المصلحة الخاصة دون محاولة استيعاب أن هناك مصلحة مشتركة بين الجميع وأنه بالإمكان أن تكون الأوضاع أكثر ربحية ومنفعة لو أن هناك توافقا مشتركا.
في الحوارات التي تمت كان الرأي السائد بين التجار أن ارتفاع الأسعار خارج عن إرادتهم بحكم أنهم يستوردون بضائعهم من الخارج وأن تكاليف الإنتاج والطلب العالمي على المنتجات أدى إلى ارتفاعها. هذا التبرير قد يصح في حالات كثيرة ولكن ليس في جميعها على الأقل ليس بهذه النسبة من الارتفاع! ولكن ثمة حقائق اقتصادية يجب أخذها بعين الاعتبار حتى يكون النقاش في إطار أكثر موضوعية. أولا أن الاقتصاد السعودي يتبع نظام السوق ما يعني حرية المنتج والمستهلك وأن قوى الطلب والعرض تحدد السعر. هذا يعني أن السعر لا يتحدد من قبل المنتجين فقط ولكن أيضا من قبل المستهلكين. فالتاجر يضع السعر الذي يحقق له أكبر عائد ممكن والمستهلك يقبل السعر أو يرفضه بناء على تقديره للمنفعة التي سيتحصل عليها من شرائه للسلعة. بمعنى آخر أن المنتج يرغب في البيع بسعر عال والمستهلك يرغب في الشراء بسعر منخفض إلا أن الطرفين يجدان أنفسهما قد انجذبا إلى سعر يوازن بين كمية العرض وكمية الطلب بحيث لا يكون هناك فائض ولا نقص. الحقيقة التي يجب أن تعرف هي أن بمقدور المستهلكين الامتناع عن شراء البضائع عندما لا تكون الأسعار تساوي المنفعة والتقدير الذي يضعونه للسلعة وإذا ما كان أولئك كثر فإن التجار سيجدون مستودعاتهم قد امتلأت بالبضائع ما يضطرهم إلى خفض السعر إلى مستوى يمكنهم من بيع جميع البضائع المكدسة في مخازنهم. لكن يجب الاعتراف بأن آلية السوق لا تعمل على الوتيرة نفسها وأن هناك حالات تنعدم فيها المنافسة ويكون التاجر هو الوحيد المتفرد في السوق المحتكر للسلعة ليضع السعر الذي يرغبه وليس على ما يرغبه المستهلك وإذا ما كانت السلعة ضرورية مثل الدواء والطعام والسكن كانت قدرته على التحكم أكبر فالمستهلكون يجدون أنفسهم مضطرين للشراء بالسعر المفروض وليس لديهم الخيرة في ذلك. هذا ما يجعل كثيرا من الدول، حتى تلك الدول مثل الولايات المتحدة التي تعتبر مهد الرأسمالية ونظام السوق الحر تضع القوانين والتشريعات التي تكسر الاحتكار وفي الوقت ذاته تسمح بتكوين جمعيات حماية المستهلك للدفاع عن حقوق المستهلكين. هذه الجمعيات لا تنشأ داخل البيروقراطيات والتنظيمات الحكومية مثل وزارة التجارة ولكن هي جمعيات غير ربحية مدنية تتمتع بالاستقلال المالي والإداري. ولذا نجد أن المشكلة التي نحن بصددها هي مشكلة تنظيمية تتطلب تدخل الحكومة ومراقبة السوق والتأكد من أنه ليس هناك إية ممارسات للاحتكار بأنواعه المختلفة. إن وجود عدد كبير من الموردين والتجار يؤدي إلى المنافسة الحرة الكاملة التي تؤدي إلى انخفاض الأسعار وزيادة مستوى الجودة. الأمر الآخر هو جمعيات حماية المستهلكين بحيث تكون النقاشات أكثر تقنينا وأكثر فاعلية وموضوعية بدلا من الأشعات والأحاديث التي لا تؤدي إلى نتيجة. إن وجود جمعية لحقوق المستهلكين توحد الجهود وتكون نقطة اتصال ونشر للمعلومات الموثقة وجهة رقابية تحقق مصالح المستهلكين وتحفظ حقوقهم وتتحدث وتفاوض باسمهم. وعلى أن إنشاء الجمعية قد يبدو في ظاهر الأمر أنه ضد مصلحة التجار وهذا ليس بصحيح خاصة لأولئك التجار المخلصين النزيهين، إذ إنها دعامة لتميزهم وتطبيقهم لمعايير الصحة والسلامة والجودة. ثمة حقيقة في غاية الأهمية وهي أن آلية السوق والتي تعتم على الاستجابة للطلب والعرض ليست آنية بمعنى أن الإشارات التي يبعثها السوق من خلال تغير الأسعار تأخذ بعض الوقت للاستجابة لها، وهذا ما يجعل الأسعار لا تنخفض في الوقت ذاته الذي ينخفض فيه الطلب، وهنا يلزم التفريق بين الاستجابة في المدى الطويل والمدى القصير. لذا يجب ألا يعتقد المستهلكون إن إحجامهم عن الشراء بسبب ارتفاع الأسعار سيستجيب له التجار في اللحظة ذاتها ما عدا المنتجات التي تتلف بسرعة مثل المنتجات الزراعية الطازجة ومنتجات الألبان والعصائر. هناك بعض التجار الذين يجدون الفرص مواتية لجني أرباح بسبب ظروف غير اعتيادية وهذه تسمى في الاقتصاد "أرباح الثمار المتساقطة" Wind fall profit والتي يحصل عليها التجار ليس نتيجة عناء وإنتاج وإنما بسبب الظروف التي يستغلونها لأنفسهم.
الأمر الآخر الذي يحاول فيه بعض تجار التجزئة تبرير رفع الأسعار بسبب ارتفاع إيجارات المحال، وهذا تبرير غير صحيح على الأقل من ناحية اقتصاديات الأراضي. فالإيجارات مرتفعة لان العائد من بيع التاجر لسلعة كبير وليس العكس، والدليل أن التاجر يقبل بالإيجار المرتفع لأنه يستطيع البيع بأسعار مرتفعة. إن الحل لهذه الأزمة التي تزداد سوءا مع مرور الوقت هو الحوار من خلال إطار قانوني يحقق مصالح جميع الأطراف، فليس من صالح المستهلك أن يخسر التاجر أو أن يكون ربحه ضئيلا لأن ذلك سيقلل من مستوى الإنتاج وليس من صالح التاجر أن تظل الأمور عائمة يتداخل فيها الجميع دون استناد إلى حقائق ومعلومات وإحصائيات مما يؤدي إلى احتقان المستهلكين والتصرف بشكل خاطئ تجاه المنتجين، كما يتم التصعيد له ضد مصانع الألبان الوطنية التي يوما ما أقدمت على خفض أسعار منتجاتها بسبب قوى الطلب والعرض في السوق. فآلية السوق إذا كفيلة بأن تصل بنا إلى التوازن المطلوب الذي يرضي جميع الأطراف بشرط أن تكون القوى بين المنتجين والمستهلكين متساوية وألا طغى البعض على الآخر.