شارل هوبر.. من آليزاس لورين إلى نجد وشمال الحجاز

شارل هوبر.. من آليزاس لورين إلى نجد وشمال الحجاز

كانت الجزيرة العربية هي أول الخاسرين، بعد مقتل المستكشف الفرنسي الألماني شارل هوبر على أراضيها في 29 تموز (يوليو) 1884. خسرت لأنها فقدت مستكشفاً مقداماً جاء بدوافع علمية لا سياسية، إذ كان هوبر مبتعثاً من قبل الجمعية الجغرافية الفرنسية لاستكشاف جزيرة العرب، التي جال في شمالها وغربها مرتين، الرحلة الأولى استمرت أربع سنوات من 1878 إلى 1882، والأخرى من 1883 حتى 1884، وشاءت الأحوال أن يبقى في الجزيرة إلى الأبد، إذ قتل في العلا بهدف السرقة ونقل جثمانه إلى جدة ودفن فيها بعد تشييع قصير حضره القنصل الفرنسي في جدة دو لوستالو، وكان في 47 من عمره، عندما قتل.
أدى شارل هوبر خلال تلك السنوات القليلة، خدمات جليلة في المجال الجغرافي مثل رسم الخرائط وتحديد الأماكن وإحصاء السكان، غير أنه برع أيضاً في مجال الآثار، التي تحمّل مشقة السفر إلى بعض الأمكنة من أجلها، وعثر على رسوم وكتابات أثرية عديدة في أماكن متفرقة من الجزيرة واستنسخها في مذكراته ووثائقه، وتوّج أبحاثه الأثرية بالعثور على (حجر تيماء)، الذي يحوي نصاً بالآرامية ورسوماً، تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وقد نقله هوبر قبل مقتله بفترة قصيرة إلى فرنسا وهو يُعرض في متحف اللوفر الآن. وإضافة إلى ذلك فإن مذكراته القليلة ويومياته التي كتبها في رحلتيه (الأولى من 1878 إلى 1882 والأخرى من 1883 إلى 1884) أصبحت، ربما دون أن يحسب حساباً لذلك، من أهم المراجع التاريخية للباحثين في تاريخ جزيرة العرب، خصوصاً أن مذكراته تلك كانت تدوّن معلومات جانبية، غير أنها قيّمة، عن النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في البلدان والقرى التي زارها. وفيما يلي نعرض مختصراً عن رحلة هوبر الأولى، مبنيّة على كتابه "يوميات رحلة في شبه الجزيرة العربية" الذي صدر في باريس عام 1891 وتُرجم في طبعة صدرت عام 2003 بواسطة أليسار سعادة، عن دار "كتب".

كاف .. بوابة الجزيرة العربية
كانت بلدة كاف (20 كلم شرق مدينة القريات) هي باب الخروج من الشام والولوج إلى مفازات صحراء النفود الكبير الذي يُشرف على شمال حائل، وكانت كاف هي نقطة البدء لمعظم المستكشفين، ومن بينهم شارل هوبر، غير أن هوبر يختلف عن البقية في كونه وصل كاف في 17 أيار (مايو) 1878 قادما من البصرة، لا من بلاد الشام كما هو معتاد، ويعود السبب، كما يوضح هوبر في مذكراته، إلى ثورة الدروز هناك ما أدى إلى تأخر عثوره على أدلاء لقطع الصحراء نحو حائل. ولكنه في البصرة ومن خلال أميرها محمد الخليل توافر له أربعة مرافقين استأجرهم، وغادر من هناك نحو كاف، التي وصلها بعد مسير أربعة أيام، وتوقف هناك لإيصال رسالة من شيخ الدروز لأمير كاف عبد الله الخميس.
ويشير هوبر إلى أن اقتصاد البلدة قائم على ينابيع الماء الموجودة فيها، ومنجم الملح الذي يملكه الأمير. وأشار إلى أنها مكونة من 17 منزلاً أما عدد السكان فأحصاه بـ 90 نسمة. وقبيل مغادرته في صباح اليوم التالي من وصوله فوجئ هوبر بالأمير وقد أحضر له فنجان قهوة مملوءا بالماء، وطلب من هوبر أن يقرأ عليه "الكلمات الضرورية" حتى يُشفى ابنه الصغير، الذي يقول هوبر إنه " كان قد أصيب بتلبك معوي البارحة !". على أي حال، أتم هوبر المهمة وغادر كاف متوجهاً نحو الجوف.

الجوف .. مفتاح الصحراء
من كاف خرجت قافلة صغيرة مكونة من هوبر ودليله الجديد أمير كاف، بعد أن سرّح مرافقيه المستأجرين من البصرة، إضافة إلى اثنين من سكان الجوف كانا قادمين من الشام، ويريدان الجوف. سارت القافلة بعد إشراق شمس 21 أيار (مايو) 1878 وتوقفت عند بعض الآبار على طول مجرى وادي السرحان، حتى وصلوا الجوف في 25 أيار (مايو)، وهناك استقبلهم أحد أعيان المدينة وهو سلطان بن حبوب، الذي كان صهر عبد الله الخميس الأمير الدليل (بالدال). وفي الجوف قابل هوبر الحاكم من قبل حائل (جوهر) وهو أحد التابعين للأمير محمد العبد الله الرشيد، الذي كان يحكم نجد وأنحاء من الجزيرة في تلك الفترة من الزمن. ويصف هوبر الحاكم جوهر بالقول : "هو زنجي جميل، في العقد الخامس من عمره، ينضح وجهه ذكاء، ولا تفارق الابتسامة شفتيه، وتصرفاته في غاية اللباقة، وقد استقبلني دوماً بكثير من الترحاب كما أنه أجلسني مجلس الشرف ليس في مضافته فحسب، بل أيضاً عندما كان يقصدني". ويصف هوبر الجوف بأنها مؤلفة من 15 مدينة صغيرة، يحيط بكل منها سور، ويشير إلى أن هذا الوضع هو سبب الانقسامات الداخلية التي جلبت لها الغزو الخارجي بدءاً من الدولة السعودية الأولى ثم احتلالها من قبل الرشيد. ويقوم اقتصاد الجوف آنذاك، بحسب هوبر، على انتاج التمر الذي يصفه بأنه "يضاهي أفضل أنواع تمور الجزيرة العربية"، كذلك على الصناعة الخفيفة كصناعة العباءات والأغراض الجلدية والأدوات الحديدية. وقدر عدد سكانها بـ 12 ألف نسمة. وبقي هوبر في الجوف ستة أيام، ثم غادرها مبتدئاً رحلته الحقيقية في وسط كثبان النفود الكبير.

النفود .. لون الزهر الباهت
في الأول من حزيران (يونيو) 1878 بدأت الانطلاقة عبر النفود الكبير، والغاية كانت مدينة جبة (100 كلم شمال حائل) بوابة النفود الجنوبية على نجد. وكان برفقة هوبر دليل جديد اسمه محارب أمّنه له الحاكم جوهر، ويصف شارل محارب، بأنه : "رجل مسن، قصير القامة ضامر الجسم، يرافقه صهره صايل، وهما من الجوف وقد اجتازا النفود مرارا".
لقد شكلت صحراء النفود مفاجأة سارة لشارل إذ وصل إليها وهو مملوء بالوصف "المحبط" للنفود، الذي كتبه المستكشف الإنجليزي بلجريف، غير أن هوبر وجدها بعكس ما قال بلجريف، ليست مجرد رمال متحركة تنفث سمومها كأنها بحر من نار، بل إن النفود الكبير حسب قوله : "يتمتع بميزات عديدة تحدوني إلى الاعتقاد بأنه لا يوجد بدوي واحد لا يفضل صحراء النفود على أي صحراء أخرى".
في اليوم الأول لم تقطع القافلة سوى 22 ميلاً (35 كيلو مترا) والسبب كما يروي هوبر أنه وجد مشهد النفود "جديداً وغريباً وساحراً"، وبالتالي لم يحثوا الجمال على المسير بسرعة، غير أنهم وبعد تجاوز آبار الزهيري، عرفوا أن عليهم الوصول بأسرع ما يمكن إلى جبة، إذ يشير هوبر إلى أن "الصحراء الفعلية تبدأ من آبار الزهيري إلى جبة"، فغادروا الآبار في الثالث من حزيران (يونيو)، ومروا في نهاية ذلك اليوم بالمنطقة المسماة بـ الفلوح، وهي أصعب المناطق على الإطلاق، كما يصفها، مشيراً إلى أنها تسببت حتى بإرباك الدليل محارب، الذي كان يسأل هوبر بين حين وآخر عن الوجهة قائلاً : "الدرب؟ الدرب؟" .. أي أين الطريق، ذلك أن هوبر كان يحمل معه بوصلة. ويشير هوبر إلى أنه كان يدلّه على الوجهة بالطريقة العربية: "أشق الأفق بكفي، بخط عمودي ويدي مفتوحة وذراعي ممدودة".
وبعد سبعة أيام طويلة، كانت بساتين جبة ومنازلها تلوح في الأفق.

جبة .. متعة العين
" ما إن هبطنا منحدر آخر تلة من النفود حتى وجدنا أنفسنا في سهل جبة، التي يبدو مظهرها متعة للعين، مع بعض أشجار أثل هرمة خارج الأسوار تنعش المنظر". هكذا يستهل هوبر وصف لقائه بجبة، التي أحصى سكانها بـ 800 نسمة، ويشير إلى أن الزراعة فيها تعتمد على النخيل فقط، مضيفاً أنهم يستوردون حاجاتهم الأساسية من أرز وقمح من حائل. وأثناء إقامته في جبة عرف هوبر أن الأمير محمد العبد الله الرشيد في زيارة لبلدة أم القلبان، وهي لا تبعد عن جبة أكثر من مسيرة يوم واحد، وهنا استغل هوبر الفرصة فغادر جبة مبكراً، قاصداً أم القلبان، عله يلتقي الأمير هناك.

لقاء الأمير .. والحصول على الدعم
في منتصف الطريق بين جبة وأم القلبان أرسل هوبر دليله محارب إلى أم القلبان ليستكشف لهم الوضع. وقابلهم محارب قبل وصولهم بدقائق منفرج الأسارير معلناً أن الأمير مستعد لمقابلة هوبر على الفور.
يصف هوبر مشهد دخوله أم القلبان بقوله: "انبسطت أمامنا ملكية واسعة، سرنا بمحاذاتها حتى وسطها.. وبدا في المحيط بعض الرجال بقمصان ناصعة البياض، ومنذ غادرت سورية لم أعتد مثل هذه النظافة الفخمة.. أخذ أحد هؤلاء الرجال ناقتي من رسنها، وسار بها عبر ممر طويل إلى باحة كبيرة، حيث ترجلت وكان بانتظاري رجل يعتمر كوفية وعلى كتفيه عباءة سوداء مطرزة بالذهب ويحمل بيده سيفا بمقبض من الفضة، وبادرني بـ "السلام عليك" فرددت بتودد : "وعليك السلام" فأبلغني بتحية الأمير وأنه مكلف بمرافقتي إليه".
ويشير هوبر إلى جمال المكان حيث كانت المياه تجري وسط بستان ليس فيه سوى أشجار الرمان، وهناك كان الأمير موجوداً برفقة 40 رجلاً، حين دخل هوبر المجلس : "حييت الأمير فنهض عندئذ وأضاف في رده على تحيتي :مرحبا. وسألني بكثير من الاهتمام ما إذا كانت رحلتي موفقة ولم ألق مشقة أو تعباً". ويضيف هوبر أن الأمير سأله لاحقا (بعد يومين أو أكثر) عن هدف رحلته، فأجابه أن أهدافه علمية، فرد عليه الأمير بالقول إنه: "لا يرى في صحاري الجزيرة العربية شيئا علميا على الإطلاق".
ويصف هوبر الأمير عند لقائه بأنه كان "في السادسة والأربعين من عمره، وجهه ينضح بالعزم، ونظره ثاقب، غير أنه يبدو دائم القلق، وفي المقابل له ابتسامة سخية وعذبة". ويذكر أنه كان شديد الاهتمام براحة ضيفه وكان يصر عليه أن يرتاح في جلوسه، كما يذكر أنه أوصاه بألا يتبع تقاليد مواطنيه (أهالي حائل)، بل عليه أن يسير وفق التقاليد التي يعرفها، وأنه يسعده أن يفعل ذلك. ويشير هوبر إلى أنه عرّفه على جميع أسماء ضباطه الرئيسيين، وكان الجميع ينادونه بالأخ أو الصديق، لافتاً إلى أنه لم يختبئ قط لكتابة مذكراته كما هو الحال مع بلجريف في رحلته، ويذكر: "في كثير من الأحيان، عندما كنت أرغب في الحصول على الكتابة الصحيحة للأسماء الجغرافية، كان الأمير يكتبها لي بنفسه. والرسائل الكثيرة التي تلقيتها منه ومن أصدقائي في الجبل منذ مغادرتي الجزيرة العربية، تثبت لي أنني تركت ذكرى طيبة فعلاً، وأنا مدين للأمير بكل ما أنجزته في مهمتي، وسأحفظ له امتناني".

حائل .. منظر الفرح
بعد أربعة أيام في أم القلبان، انتقل هوبر مع الأمير إلى حائل، ومرّوا في طريقهم بـ "الأصوَر"، ثم "اللقيطة"، التي باتوا فيها تلك الليلة في بستان للنخيل والفاكهة يملكه الأمير، ومن الغد كانوا قد أشرفوا على مدينة حائل حالما التفوا حول أجا فوقعت عينه على "منظر حائل الفرح" بحسب وصفه.
في حائل، استقر شارل هوبر واستأجر منزلاً، وكان قد خطط لكي تصبح حائل مركزاً لعملياته ورحلاته الاستكشافية في أنحاء الجزيرة، مشيراً إلى أنه لم يعد يحمل معه في رحلاته فيما بعد إلا بطانيتين وبساطا، والمؤن التي كان يتفق مع من يستأجره، على توفيرها. ويذكر هوبر: "كنت أترك صناديقي في بيتي في حائل خلال غيابي، وأترك مفاتيحه مع أحد ضباط الأمير الرئيسيين وهو حمود الإبراهيم المجراد، الذي ذهب مراراً في مهمات دبلوماسية استثنائية إلى خديوي مصر". ويحصي هوبر سكان منطقة حائل بـ 55.470 ألف نسمة.
من حائل، خرج هوبر في عدة رحلات استكشافية، كان يزور فيها المنطقة التي يريدها، ويعود إلى حائل، وأول مكان زاره هو عقدة، وهي مدينة تقع وسط جبال أجا إلى الغرب من حائل. ووصف هوبر مدخل البلدة الضيق وسط سلسلة الجبال، وأحصى سكانها بـ 500 نسمة. وأشار إلى اعتمادها على أشجار النخيل التي لا تحتاج إلى ري، ويصف سكانها بـ (السعداء) كونهم غير ملزمين بحفر الآبار العميقة والعناية بها، ولا رعاية قطعان الأبل لاستخراج الماء، ويشير إلى أن جلّ ما عليهم فعله هو أن "يتمنوا أن تمطر في الشتاء". ويحصي هوبر عدد النخيل في عقدة بـ 70 ألف نخلة.
ولم تغب عن ملاحظة هوبر عادات السكان، إذ يروي عن رحلته إلى عقدة : "خلال الأيام الثلاثة التي أمضيتها في عقدة، اضطررت إلى الدخول إلى تسعة عشر منزلاً، حيث قدمت لي القهوة وطبق كبير من الشمام أو البطيخ المقطع إلى مكعبات، وأقول (اضطررت) إذ إن أحدهم ما إن يلمحني سائراً حتى يأخذ بمطيتي من الرسن ويقودني إلى بيته، متجاهلاً ملاحظاتي !".
من حائل انطلق هوبر في رحلة أخرى إلى جبل سراء (على مسافة 40 كلم إلى الجنوب الشرقي)، حيث ذكرت له كتابات أثرية هناك، وذُكر له رجل متعلم في تلك الأنحاء يُدعى عواد الشمري سبق أن استنسخ بعضاً منها، وكان غرض هوبر الاطلاع عليها، وعندما وصل إلى هناك، رافق عواد إلى الجبل، وهناك بدأ هوبر بنسخ الكتابات، التي اتضح له أنها حميَرية، ويقول هوبر :"لقد اغتبطت حقاً بنسخ هذه الكتابة.. فمن بين كل النقوش الحميرية التي صادفتها في رحلاتي اللاحقة لم تكن أي منها بهذا الحجم، فقد كانت تحوي 98 حرفاً"، ويثني هوبر على عواد الذي دله على الكتابات والذي قدم له بعض ما استنسخ منها بالقول : "تبين لي أن عواد قد نسخ بالضبط، نصف الأحرف الموجودة تقريباً".
وفي طريق العودة إلى حائل سلك هوبر الطريق المؤدية إلى بلدة قفار، إذ كان على موعدٍ مع حمود العبيد الذي أعدّ له "وليمة تتكون من طبق هائل من الأرز ولحم الغنم في بستانه في قفار".
بريدة .. المدينة الاقتصادية
في 31 تموز (يوليو) ، بدأ هوبر رحلته إلى القصيم، منطلقاً من حائل، وبصحبته رجلان من رجال الأمير، ومر بطريقه على كل من: فيد وعدد سكانها 250، والكهفة وعدد سكانها 200، وقد وصف الأخيرة بأنها "بلدة صحية"، ومنها إلى القوارة، حيث يروي هوبر أنه حل ضيفاً على مالك إحدى الآبار في القوارة وأن الأخير قد استضافه في المسجد الصغير الذي ألحقه بمنزله، ويقول هوبر عن القوارة إنها "أول بلدة في القصيم، رغم أن سكانها يقولون إنهم من ذرية طيء"، وأحصى سكانها بـ 120 نسمة. ومن القوارة حلّ في مدينة العيون، التي يقول هوبر إنها أكبر مدينة بين بريدة وحائل ويبلغ عدد سكانها 2500 نسمة، ويذكر أن منتوجها من التمور يعد الأفضل في القصيم. ومن هناك سار إلى الشقة، ثم وصل بريدة، التي كانت مطوقة بجدران من الآجر بارتفاع أربعة أمتار، ويصفها بأنها "مركز تجاري كبير، لكنه لا يعرف أوج ازدهاره إلا خلال الأشهر الأربعة من السنة التي تلي قطاف التمر". وكان هوبر قد قابل أمير بريدة حسن المهنا، وأعطاه رسالة من الأمير محمد، فلما قرأها له خادمه رحب الأمير به وجند له رجلين لحمايته أثناء تجواله في بريدة، خصوصاً أنه وصلها في الأول من رمضان (1295هـ) وكان مظهره الأجنبي خطرا عليه هناك. لكنه يروي أن الأمير أعد له القهوة في صباح ذلك اليوم، مشيراً إلى أنه قال له :"لا يجب عليك الصوم" بما أنه غير مسلم. وبعد أربعة أيام في بريدة، زار عين ابن فهيد، التي قال عنها إنها "في ازدهار مطرد" وأحصى عدد سكانها بـ 600 نسمة أما سكان بريدة فأحصاهم بعشرة آلاف نسمة.

عنيزة .. المدينة المستقلة
في ظهراليوم الخامس من وصوله بريدة، غادر هوبر نحو عنيزة، ودخلها مع شروق شمس اليوم التالي، ويصف عنيزة بأنها: "تطل عليك بمظهر عظيم وأنت قادم من الشمال". وتوجه مباشرة لأميرها زامل السليم، ويذكر أنه: "قد بلغ الخمسين من عمره، صغير القامة، أعرج بسبب رصاصة أصابته أثناء الحرب، وجبهته عريضة، وعيناه الحيويتان شديدتا الذكاء، ومجمل ملامح وجهه ملامح الدهاء". وقد أعطاه رسالة من الأمير محمد أيضاً، ويقول هوبر أنه لما قرأها بدا حائرا وقلقاً، كما يشير إلى أنه رفض أن يسمح لهوبر بالخروج من القصر دون أن يكون بصحبته حراس كافين. ويذكر أن عدد سكان عنيزة بين 18 ألفا و20 ألف نسمة، وأن فيها أربع مدارس، واحدة منها للبنات. ويضيف هوبر: "عنيزة اليوم هي مدينة مستقلة، هي شبه جمهورية برئيس منتخب" قال ذلك في سياق حديثه عن سلطة الأمير على السكان، التي كانت أقل من نظيراتها. وقابل في عنيزة التاجر عبد العزيز المحمد البسام، الذي قال إنه أصبح صديقه.

تيماء .. بلد التاريخ
بعد عودته من القصيم، استقر هوبر في حائل حتى 30 تشرين الأول (أكتوبر)، وفي ذلك اليوم انطلق برفقة دليله عجلان السويدي الشمري، وسارا باتجاه الغرب نحو مناطق الحجاز الشمالية، وبعد عشرة أيام كاملة وصل هوبر إلى تيماء، ودخلها ضحى يوم 10 تشرين الثاني (نوفمبر). واتجه حالاً إلى قصر حاكمها المعين من حائل عبد العزيز العنقري وسلمه رسالة من الأمير، ويذكر هوبر: "حظيت باستقبال في غاية الاحترام والود في آن واحد".
ويروي هوبر أن "أعجوبة تيماء تكمن في بئرها (هداج) المشهورة في كل أنحاء الجزيرة، وقد رُوي لي مراراً أن مائة جمل تسحب منها الماء باستمرار، ولدى التثبت من هذا العدد لم أجد سوى خمسة وسبعين دولاباً ولكن الحق يقال، إنه عند الضرورة يمكن وضع مائة دولاب". ويذكر هوبر أن الوفرة المائية في تيماء قد رفعت سعر العقارات إلى سقف لم يشهد له مثيلا في الأماكن الأخرى. ومن تيماء زار هوبر كلا من مدائن صالح والعلا وخيبر وقدر أعداد سكانها مجتمعة بأربعة آلاف نسمة. وكانت خيبر تابعة للأتراك العثمانيين، وفيها حامية مكونة من 120 جندياً نظامياً ويديرهم رئيس يدعى عبد الله الصيروان، بقي هوبر في ضيافته 12 يوماً.
وظل هوبر في تيماء وما جاورها حتى 15 كانون الأول (ديسمبر)، وعثر في تلك الأثناء على حجر تيماء الأثري الشهير، الذي يعود تاريخه إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وقد كتب باللغة الآرامية بواسطة أحد الكهنة، ويروي قصة جلب إله جديد إلى تيماء. وأودع هوبر هذا الحجر القيّم عند الأمير محمد الرشيد في حائل، وغادر إلى فرنسا، وعرف هناك أن الحجر الذي عثر عليه ثمين جداً، فعاد إلى حائل في حزيران (يونيو) 1883 وأخذ أمانته، وسافر إلى جدة وسلمه للقنصلية الفرنسية، التي بعثته إلى فرنسا، حتى استقر في متحف اللوفر وما زال يعرض إلى الآن، أما هوبر فكانت فصول حياته قد شارفت على الانتهاء بعد تسليم الحجر في جدة، إذ قتل أثناء توجهه من جدة إلى دمشق وتحديدا في مدينة العلا في 29 تموز (يوليو) 1884. وعمدت الجمعية الجغرافية الفرنسية إلى نشر تفاصيل رحلته هذه، في نشرتها، في العام نفسه الذي توفي فيه.
وللاستزادة ومعرفة كثير من التفاصيل يمكن الرجوع إلى كتاب المستكشف: (رحلة في الجزيرة العربية الوسطى 1878 – 1882)، وهو متوافر في المكتبات.

الأكثر قراءة