نفحة من الماضي .. التأميم يعود من جديد

نفحة من الماضي .. التأميم يعود من جديد

التأميم صيغة اتسم بها القرن الماضي، لكنه كالعديد من الممارسات القديمة بدأ يعود إلينا. ويأتي آخر ظهور له في المملكة المتحدة التي تهدد حكومتها بنقل ملكية بنك نورثرن روك إلى القطاع العام، ما لم يعمل القطاع الخاص على إنقاذ البنك المنهار الذي يعمل في مجال الرهن.
وأمم هوجو شافيز، رئيس فنزويلا الشعبوي، ما تبقى من كبريات الشركات الخاصة العاملة في مجالي الاتصالات والكهرباء في العام الماضي. وفعل الرئيس إيفو موراليس الشيء نفسه في صناعة الغاز الطبيعي في بوليفيا. وأقدمت نيوزيلندة التي كانت من أنصار حرية السوق، على السيطرة على شركة الخطوط الجوية الوطنية فيها قبل ست سنوات. وحتى الولايات المتحدة، أممت صناعة أمن المطارات التي يديرها القطاع الخاص، وذلك في أعقاب هجمات 11 أيلول (سبتمبر).
على أن المشكلة بالنسبة لبريطانيا هي أن قلة من المصرفيين وصانعي السياسات ممن هم دون سن الـ 50 لديهم أية خبرة في التأميم. ولذلك تراهم يقلبون صفحات كتب التاريخ كي يعرفوا كيف يمكنهم أن يؤمموا أحد البنوك.
وأخبر مسؤول حكومي "فاينانشيال تايمز" في الشهر الماضي قوله: "هناك أناس ينظرون في كافة تفاصيل هذا الموضوع. لكن لم يحدث شيء من هذا القبيل على الصعيد العملي من قبل، ولذلك لا توجد سوابق ترشدهم".
وربما يتفاجأ قراء "فاينانشيال تايمز" من الشباب إذا علموا أن هناك قدراً كبيراً من السوابق على صعيد تأميم الشركات - ولا يقتصر ذلك على البلدان التي استولى الشيوعيون فيها على زمام السلطة. فبعد الحرب العالمية الثانية قام العديد من الدول الأوروبية بتأميم قطاعات العمل الرئيسية كخطوة أولى نحو إعادة بناء الاقتصاد.
فقد أقدمت حكومة كليمنت أتلي العمالية التي تشكلت بعد الحرب، مثلا، على تحويل ملكية العديد من كبريات الشركات الممسكة بزمام الاقتصاد البريطاني إلى القطاع العام - بما في ذلك شركات الفحم، والصلب، والسكك الحديد، وبعض شركات النقل البري وشركة توماس كوك المشهورة للسياحة والسفر. وفي سبعينيات القرن الماضي أممت إحدى حكومات حزب المحافظين شركة رولز - رويس، وفعلت الحكومة العمالية التي خلفتها الشيء نفسه بالنسبة لكبريات شركات صناعة السفن والطائرات.
ولم يكن التأميم طريقاً باتجاه واحد قط. فبعد تأميم صناعة الصلب البريطانية في 1951، أعيد تخصيصها في 1953، ثم جرى تأميمها مرة أخرى في ستينيات القرن الماضي. لكن قدوم مارجريت تاتشر إلى 10 داوننغ ستريت أطلق موجة من عمليات التخصيص لبيع معظم الشركات المملوكة للدولة، العاملة في مجال الصناعة التحويلية بما فيها بالطبع شركات الصلب. ولحقت بها شركات المنافع، كالغاز والكهرباء والماء، التي كان يعتقد البعض أنها احتكارات طبيعية ومن الأفضل أن تظل مملوكة للقطاع العام.
وسرعان ما تمت العودة عن التأميم حول العالم. وأعادت فرنسا، مثلا، بعض الشركات التي جرى تأميمها في أوائل ثمانينيات القرن الماضي إلى ملكية القطاع الخاص قبل نهاية العقد. ومنذ عهد قريب بدأت الحكومات تسعى إلى إشراك القطاع الخاص في الخدمات العامة الأساسية، كالرعاية الصحية، التعليم، وحتى الدفاع.
وعكس الحماس الذي تأجج أخيرا للتخلص من التأميم توجهات فكرية، خاصة النظام الاقتصادي الفتي المتمثل في نظرية الاختيار العام. وقال أنصار الملكية العامة إن أنظمة السوق ودافع الربح تتقاطع مع الخدمات العامة اللازمة على صعيد توفير الرعاية الصحية والتعليم والمنافع الأساسية كالطاقة والمياه. وأشار الذين يؤمنون بنظرية الاختيار العام إلى أن السياسيين وموظفي القطاع العام، والناخبين الذين يعتبرون رؤساءهم في النهاية، لهم مصالحهم الخاصة، الأمر الذي يعمل على إيجاد الحوافز التي يمكن أن تعمل ضد تقديم خدمات جيدة المستوى.
فالذين يعملون في قطاع الخدمات العامة، مثلاً، ليسوا أقل اهتماماً في الدفاع عن أجورهم ووظائفهم من العاملين في القطاع الخاص، حتى لو كان ذلك على حساب الذين يستخدمون خدماتهم. في هذه الأثناء، يمكن أن تؤثر جماعات الضغط والسياسيون على اتخاذ القرارات التي تخدم الصالح العام من أجل مصالحهم الضيقة في غياب نظام التنافس الذي توفره الأسواق.
وفي النهاية، تتحرك جميع البندولات في الاتجاه الآخر، وتعكس حالات التأميم القليلة التي شهدتها اقتصادات البلدان المتقدمة في السنوات الـ 20 الماضية تشكك الجهات الرسمية في صلاحية الملكية الخاصة وملاءمتها. فقد جرى تأميم شركة الخطوط الجوية النيوزيلندية لأن الحكومة ارتأت أن العلاقات الجوية مع العالم الخارجي لها أهمية استراتيجية حيوية بالنسبة إلى بلد صغير وبعيد.
وتواصل البلدان النامية تأميم مواردها الطبيعية اعتقاداً منها أنها تستطيع التحكم بمصائرها بصورة أفضل والحصول على مزيد من الثروة المتأتية منها. وعاودت روسيا سيطرتها على جزء كبير من مواردها النفطية والغازية والمعدنية، ومثلها فعلت البلدان الأخرى التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي السابق والحكومات الشعبوية في أمريكا اللاتينية.
لكن السبب الأعم للتحول إلى التأميم في بقية أنحاء العالم يظل الأزمات المصرفية، كالأزمة التي أدت إلى انهيار بنك نورثرن روك. فقد عمدت المكسيك والبلدان الاسكندنافية والآسيوية، كإندونيسيا، إلى السيطرة على بنوكها منذ عام 1990 من أجل إعادة هيكلة ميزانياتها العمومية في أعقاب الأزمات التي مرت بها - وفي العادة تعاد البنوك إلى الملكية الخاصة بالسرعة الممكنة بعد ذلك.
ومن المحتمل أن نشهد مزيداً من تدخل الحكومات مع استمرار حالة الفوضى التي تعم الأسواق العالمية في تقويض الميزانيات العمومية للبنوك وتهديد الاستقرار المالي. لكن التطور الملحوظ في هذه الأيام هو أن البنوك أخذت تتجه إلى الحكومات الأجنبية لدعمها.
ولم يصدف حتى الآن أن تعرض أحد البنوك الغربية الكبيرة إلى الاستحواذ من جانب صناديق الثروة السيادية التي تنمو بسرعة، والتي تملكها البلدان الغنية بالموارد الطبيعية، أو التي تجني أرباحاً طائلة من صادراتها. لكن العديد من الحكومات تملك الآن حصص أقلية كبيرة في هذه البنوك، مثل حكومات أبو ظبي، والكويت، وسنغافورة، والصين.
والتأميم الآن ليس هو التأميم الذي عهدناه في القرن الماضي. لكن إذا ترك حصصاً مسيطرة في الاقتصادات الغربية بأيدي حكومات لا تخضع لقواعد السوق، فيمكن أن تكون العواقب كتلك التي شهدناها في القرن الماضي.

الأكثر قراءة