أبناء يقتلون آباءهم.. رد فعل للعنف الأسري أم تدهور أخلاقي؟
أبناء يقتلون آباءهم، هذه الجملة قد يعدها البعض مجازية تفيد إساءة بعض الأبناء لآبائهم عندما لا يتقيدون بتعليماتهم أو يحيدون عن المسار السليم، إلا أننا نقصد بالجملة التي أوردناها المعنى الفعلي للقتل! أي عندما يزهق الابن روح والده، وتكون جريمة قتل متكاملة الدوافع! سمع الكثيرون منا عن مثل هذه الحوادث الشاذة عن مجتمعنا، ولأنها شاذة فإن تناقلها سيكون أكثر يسرا وسهولة على الناس ونسيانها صعب، إلا أن هذا الأمر عندما يتكرر فإنه يقلق، وهذا ما جعلنا نأخذه كقضية لنا هذا الأسبوع. إذ شهدت المنطقة الشرقية قبل فترة بسيطة ثلاث حوادث قتل لآباء بأيدي أبنائهم، في فترات زمنية متقاربة لا تتجاوز الشهر!
ثمة آراء متباينة وجدل دائر في الأوساط الاجتماعية والثقافية كافة حول ما يحدث من جدل وصراع دائم بين الآباء والأبناء، هل اتسعت الهوية الثقافية والاجتماعية بين الآباء والأبناء؟ هل تغيرت العلاقة نوعا ما؟ ما تأثيرات هذا التغير في الواقع الاجتماعي الذي نعايشه؟
قضية هذا الأسبوع نناقشها بصوت مسموع، نسلط الضوء على ماهية العلاقة بين الآباء و الأبناء من خلال رؤية علمية وتربوية واجتماعية شارك فيها مجموعة من المسؤولين والمختصين في علم النفس الاجتماعي وأساتذة تربويون، نتعرف منهم بأسلوب علمي ومنهجي بسيط عن أهم الأسباب والدوافع، ونبحث معهم وبرؤية شاملة أهم التصورات والمقترحات.
أجمع عدد من الأساتذة والباحثين في علم الاجتماع وخبراء علم النفس الاجتماعي ورجال دين في الشرقية على أهمية رعاية الأبناء رعاية متكاملة في النواحي المعيشية والتعليمية ومتابعتهم متابعة دقيقة في مراحلهم العمرية كافة، والعمل على رصد سلوكياتهم كافة وتحليلها تحليلا دقيقا وضرورة متابعة ردود أفعالهم نحو كل ما يحدث من أفعال تجاههم، مشيرين في ذلك إلى أهمية وجوب آلية للثواب والعقاب واستخدامها استخداما تدريجيا وفقا لأعمارهم، لافتين إلى أهمية عدم استخدام العقاب البدني والحد من مشاهدتهم أفلام العنف التي تعرض على شاشات التليفزيون مع تدريب الأطفال على ممارسة ردود أفعال غير عنيفة لتفريغ الشحنات السلبية التي تولدت لديهم نتيجة العنف الذي شاهدوه أو مورس عليهم، مؤكدين أهمية تعليم الأطفال سلوكيات إيجابية بحيث تمكنهم من التحكم في موجبات الغضب والمشاعر السلبية.
التوجيه الدائم
حث الشيخ عبد المحسن العبيكان عضو مجلس الشورى ومستشار وزارة العدل الأبناء بضرورة الاقتداء بالرسول، صلى الله عليه وسلم، في حسن المعاملة وأدب الحوار، وأشار العبيكان إلى أهمية أن يقوم الآباء بمعاملة الأبناء بلين ورفق وعدم استخدام أي من وسائل العنف في معاملة الأبناء مع التوجيه والإرشاد الدائم لهم، مؤكدا أن الإسلام حث على الرفق، حيث قال الرسول، صلى الله عليه وسلم "ما كان الرفق في شيء إلا زانه, وما نزع من شيء إلا شانه"، مشيرا إلى أهمية وجوب آلية للثواب والعقاب لعدم تكرار ذلك.
رأي قانوني
أوضح المحامي الدكتور عبد الرحمن الفالح أن غالبية أهل العلم (أبو حنيفة والشافعي وأحمد) قد اتفقوا على أن من موانع القصاص أن يكون القتيل جزءا من القاتل، لما روي عمر بن الخطاب وابن عباس من أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يقتل والد بولده"، وقوله صلى الله عليه وسلم "لا يقاد الوالد بولده"، كما اتفقوا على الاقتصاص من الابن لقتل والده ويدخل تحت لفظي الوالد والولد كل والد وإن علا وكل ولد وإن نزل، وقد عللوا تلك التفرقة في الحكم بين الوالد والولد أن الحاجة إلى الزجر والردع في جانب الولد أكثر منها في جانب الوالد، لأن الوالد يحب ولده لولده وليس لنفسه بينما يعلل البعض ذلك في التفرقة في الحكم بأن الوالد كان سببا في إيجاد الولد فلا يصح أن يكون الولد سببا في إعدامه, وأشار الدكتور الفالح إلى أن معظم الفقهاء اتفقوا على أن من شروط تطبيق القصاص على الجاني أن يكون بالغا، فإن كان صبيا فلا قصاص عليه لقوله، صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل", مؤكدا أن المراحل السنية فيما يتعلق بالمسؤولية الجنائية هي ثلاث مراحل, المرحلة الأولى من الولادة وحتى السابعة ويسمى الصغير في هذه المرحلة بالصبي غير المميز فلا يعاقب جنائيا ولا تأديبيا وإن كان بالإمكان مساءلته مدنيا, أما المرحلة الثانية وهي من السابعة وحتى البلوغ والذي حدده الفقهاء بخمسة عشر عاما وهي مرحلة الإدراك الضعيف فلا يسأل الصبي في هذه المرحلة العمرية جنائيا ويسأل مسؤولية تأديبية فقط أما المرحلة الثالثة والأخيرة فهي مرحلة البلوغ وفي هذه المرحلة يكون الإنسان مسؤولا جنائيا عن جرائمه أيا كان نوعها كما نصت اللائحة التنفيذية لنظام الإجراءات الجزائية، والتي تنص على أنه لا يجوز توقيف الأحداث دون سن الخامسة عشرة إلا في الجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف وبأمر من المحقق ومصادقة رئيس الدائرة على ذلك، ولا يجوز توقيف من هم دون سن الحادية عشرة مطلقا.
تصورات ومقترحات
أكد عبد اللطيف الأفندي مساعد مدير عام الإدارة العامة للشؤون الاجتماعية في الدمام أن الإدارة تقوم ببذل جهود كبيرة للإسهام في حل الكثير من النزاعات التي تصل إلى الشؤون الاجتماعية، وقد احتوت الكثير من النزاعات والمشكلات التي وصلت إليها. أضف إلى ذلك وجود لجان للحماية الاجتماعية تهدف إلى الحد من عمليات الاعتداء والعنف الأسري بشكل عام من خلال توافر لجان مختصة بهذا الشأن وتعمل على وضع العديد من الأطر والبرامج لتوفيق أوضاع الخلاف وتسوية النزاعات التي تنشأ بين أفراد الأسرة المختلفة ككل بمشاركة مجموعة من الإخصائيين الاجتماعيين والأطباء النفسيين للتعرف على أبعاد المشكلة ومعرفة أسبابها ومن ثم الإسهام في حلها، وأشار الأفندي إلى طبيعة الاعتداءات التي تصل إلى الشؤون الاجتماعية، والتي تكون في غالبية الأمر اعتداءات جسدية بها، وفي غالب الأمر يتم حل معظم القضايا والخلافات الأسرية بتدخل الأعمام أو الأخوال لحماية الأبناء وإبعادهم عن محيط العنف الذي قد يعرضهم للخطر.
القدوة والمعاملة الحسنة
وأكد محمد عباس جامع إخصائي الطب النفسي بمستشفي أسطون العام عضو الجمعية الأمريكية الأوروبية للطب النفسي في الدمام أهمية عرض الأشخاص الذين يعانون أمراضا نفسية إلى الطبيب المختص لإيجاد العلاج المناسب، وشدد جامع على ضرورة تقديم الاستشارات النفسية والاجتماعية للأفراد الذين ينتمون إلى أسر تعرضت للعنف الأسري وأضاف أهمية الإسراع في علاج الأشخاص الذين يتناولون المسكرات والمخدرات مع توفير وسائل الرعاية والأمان.
الأسباب والدوافع
قال محمد الرفاعي باحث اجتماعي في الدمام إن صلة الأبناء بالآباء في وقتنا الحاضر تعرضت للاهتزاز وشابها كثير من الأزمات، خصوصا في وقتنا الحاضر نتيجة العديد من المتغيرات الثقافية والاجتماعية التي طرأت على حياتنا بشكل سريع، مشيرا إلى أن متطلبات الأبناء في السنوات الأخيرة كثرت ولا يستطيع رب الأسرة تلبية احتياجات الأسرة كافة، وتطلعات الشباب المستمرة في تحقيق كثير من الأهداف الاجتماعية والاقتصادية حتى أصبحت تشكل حائلا في ظل وجود حالة من البطالة سادت قطاعا عريضا من الشباب.
وأشار الرفاعي إلى وجود عوامل أخرى أوجدت بيئة غير مهيأة للشباب تمثلت في نقص المنشآت الرياضية والترفيهية والثقافية أثرت تأثيرا مباشرا في أخلاقيات الشاب وأضعفت الوازع الديني والأخلاقي الأمر الذي يضع الشاب في زوايا الانحراف الخلقي، وقد يتجه البعض إلى رفقاء السوء، وقد يصل الأمر إلى تعاطي المخدرات. وهنا تكمن الخطورة الأمر الذي يشكل انعكاسا خطيرا على المجتمع فالفرد جزء متكامل من المنظومة الاجتماعية لأي كيان اجتماعي أو مؤسسي، وبالتالي تؤثر في تصرفات الشاب وسلوكياته تأثيرا سلبيا على حياته اليومية وقد يصبح هذا السلوك سلوكا عدوانيا لا يستطيع أحد تفسيره وقد يتجسد في فعل ما أو في صورة من صور العنف أو الجريمة، وقد يمتد إلى أي من الأقارب أو من أفراد المجتمع المحيط به لسبب ما أو لإشباع رغبة أو لتحقيق هدف غير مشروع. ويضيف الرفاعي أنه يوجد بالفعل أبناء فقدوا كل آليات التواصل مع ذويهم ويشكلون خطورة كبيرة على أسرهم. وعلى المجتمع ألا يظل ساكنا وأن يبذل الجهود كافة وبمشاركة من المؤسسات المعنية والفاعلة في المجتمع كافة لاستثمار طاقات الشباب الاستثمار الأمثل والصحيح في مسارات التنمية الشاملة كافة والعمل على توفير مناخ ثقافي ورياضي يستوعب الطاقات الموجودة في المجتمع كافة.
الأسرة.. ونقاط الضعف
فيما أكد حسن مقبل خبير اجتماعي أنه توجد مجموعة من نقاط الضعف في الأسرة السعودية يرى أنها أسباب مباشرة ولابد من تلافيها تتمثل في قلة النشاطات الاجتماعية بين أفراد الأسرة فتجد كل فرد مشغولا بمجموعة من المهام يعمل على تحقيقها ويترك الأبناء دون رقابة، ناهيك عن المبالغة في تلبية احتياجات الأبناء سواء بالتفريط فيها أو الحد منها وقلة إلمام الأبناء بأشغال الآباء والعكس، أضف إلى ذلك قلة معرفة الآباء أصدقاء أبنائهم في المدرسة أو الجامعة، إضافة إلى الآثار النفسية التي تتركها البيئة السكنية الفقيرة لبعض الأسر وانعكاساتها على سلوك الابن، وأشار مقبل إلى أن كل هذه النقاط يمكن حلها والتغلب عليها بتوعية الآباء من خلال عمل برامج إعلامية وترفيهية مدروسة ومركزة يتم توجيهها عبر وسائل الأعلام. أما الأخيرة والخاصة بالبيئة السكنية فيمكن حلها بمشاركة الجهات المعنية والمتمثلة في أمانة المنطقة الشرقية والأمارة وغيرها من جهات الاختصاص.
الترف و العولمة
وأوضح محمد عاشور مرشد اجتماعي في الخبر أنه توجد عوامل متعددة وأسباب مباشرة ساعدت الشباب بشكل مباشر على تغير سلوكياتهم تجاه الآباء، وأعاد ذلك إلى التحول السريع في وتيرة الحياة الاجتماعية التي نعيشها الآن بفضل التطور التقني والمعلوماتي والطفرة الاقتصادية التي شهدتها كثير من دول العالم، خصوصا الدول الخليجية، الأمر الذي ساعد على وجود فجوة اجتماعية شديدة بين شرائح المجتمع، وأثرت بشكل عام في النواحي الاجتماعية للأسرة كافة، ومن صور هذا التطور الإنترنت والستالايت والمحمول وغيرها من أدوات الترف الاجتماعي، كل هذا أسهم في تغيير ثقافة الأبناء وهم النسيج الأكبر في المجتمع.
وأكد أن كل هذه الأدوات أضعفت الكثير من القيم الاجتماعية لدى أبنائنا وتركت آثارا سلبية عليهم نتيجة تصفح الكثير من الأبناء مواقع الإنترنت الخليعة، إضافة إلى الغزو الفضائي المستمد من الآخر بثقافة غربية وعنيفة أمدنا إياها عبر وسائله الإعلامية المختلفة من دراما وبرامج تحمل فكره ومذهبه، وشدد عاشور بالمؤسسات العاملة في المجتمع على أن تتبنى آليات إعلامية تقوم بترسيخ القيم والمبادئ في المجتمع.
وقائع
قال بدر الصالح ولي أمر يوجد بالفعل عقوق للوالدين من الأبناء، وقد شهدت بنفسي في أحد الأسواق الشعبية في الدمام واقعة اعتداء، حيث قامت أم باصطحاب ابنها للتسوق في السوق، وعندما انتهت من التسوق ذهبا سويا إلى السيارة وأثناء سيرهما شاهد الابن زملاءه في السوق فاستوقف أمه جانبا وتحدث مع زملائه، ولما تأخر الابن في محادثة زملائه استكملت الأم تسوقها، فما كان من الشاب إلا أن سحب أمه من المحل وقام بصفعها على وجهها ودفعها بقوة إلى السيارة، وعبر الصالح عن استيائه مما شاهده من اعتداء سافر وتطاول واضح وعقوق متناه من الابن تجاه أمه، مشيرا إلى أن الأم لم ترتكب أي فعلة تعاقب عليها من الابن، وطالب بضرورة أن تقوم المؤسسات التعليمية بمختلف مراحلها وبمشاركة المؤسسات الدينية في مواقعها كافة، إضافة إلى مشاركة فعالة من وسائل الإعلام بمختلف نوافذها المرئية والإذاعية والمقروءة في العمل على تكثيف دورهم الاجتماعي والتوعوي في إقامة ندوات وفعاليات في مختلف المؤسسات المهنية والتعليمية لمناقشة الظاهرة والعمل على معرفة الأسباب وتدارسها ومعالجتها.