ماذا لو حدث انخفاض كبير ومفاجئ في حجم الطلب على النفط؟
" في ظل الأجواء الغائمة التي تبدو للوهلة الأولى غير مشجعة لأي جهد بشري، تطوف هذه الزاوية كل أسبوع ببقاع متفرقة دون أن تتقيد بحدود جغرافية لترصد اختلالات متنوعة تدرسها وتعالجها أملا في أن يكون الخلل مفتاحا للصواب".
إن للارتفاع الشديد الحادث اليوم في أسعار النفط والتي بلغ فيها سعر برميل النفط ما يقارب 100 دولار للبرميل الواحد أثرا كبيرا في مستويات الإنفاق الحكومي في جميع القطاعات الاقتصادية، وعلى التغيرات الجذرية التي حدثت وما زالت تحدث في خصائص وسمات المجتمع السعودي. هذا الارتفاع كان سببا في إحداث توسع كبير في بعض القطاعات الاقتصادية كقطاع الخدمات على حساب قطاعات اقتصادية أخرى كالزراعة والصناعة ذات الحجم الصغير. ونتيجة لعدم قدرة الاقتصاد السعودي على استيعاب العائدات النفطية الكبيرة، تم توجيه جزء كبير من هذه العائدات إلى الخارج في شكل استثمارات أجنبية معظمها بالدولار. ولقد أشرنا في مقالات سابقة إلى أن الاقتصاد السعودي بسبب اعتماده الكبير على النفط ونتيجة للتقلبات شبه المستمرة التي تحدث في أسعار هذا المنتج في الأسواق العالمية، معرض للخطر وعدم الاستقرار.
السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الزاوية هو ماذا لو حدث انخفاض كبير ومفاجئ في حجم الطلب على النفط ووصل سعر البرميل إلى مستوى متدن وبالتالي حدث انخفاض كبير في العائدات النفطية؟ ما مدلولات وانعكاسات هذا الانخفاض على الوضع الاقتصادي في المملكة؟ وهل هذا الانخفاض سيأخذ طابعا إيجابيا، أم أنه سيكون مؤلما ومأساويا؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست من السهولة بمكان لا سيما أن تصور انخفاض حجم الطلب على النفط ربما يكون تصورا غير مقبول اقتصاديا لدى البعض خاصة في الأجل القريب، ونحن هنا لا نهدف إلى إبداء الرأي حول التوقعات المستقبلية لأسعار النفط فهذا ليس الهدف المراد الوصول إليه في زاوية اختلالات لهذا اليوم. ومع ذلك فإن الآلية التي اعتمد عليها هذا التصور هي آلية مألوفة وبسيطة، فدخول الاقتصاد الأمريكي إلى مرحلة الركود الاقتصادي في الأشهر القليلة الماضية، والارتفاع المطرد في أسعار النفط لا بد أن يقلصا من حجم الطلب العالمي على الطاقة الذي يمثل النفط العنصر الأساس فيها. كما أن تنامي الحديث عن استخدام مصادر بديلة للنفط والنمو الكبير في حجم الإنفاق البحثي لإيجاد مصادر طاقة متجددة عاملان آخران من المتوقع أن يؤثرا تأثيرا مهما في حجم الطلب على النفط. عامل آخر يضاف إلى هذه العوامل هو نمو إنتاج النفط في الدول غير الأعضاء في "الأوبك" نتيجة لارتفاع الأسعار وبالتالي قدرة هذه الدول على تحمل تكاليف الإنتاج المرتفعة مقارنة بدول "أوبك".
لا شك أن انخفاض حجم الطلب على النفط وبالتالي انخفاض العائدات النفطية سيكون له تأثير سلبي ليس فقط على المملكة العربية السعودية وحسب وإنما أيضا على الدول ذات الاعتماد البسيط وغير المباشر على النفط. فالنمو الاقتصادي في هذه الدول سيتباطأ وقد ينطوي الوضع على تحديات كبيرة في بعض بلدان المنطقة الخليجية. ويمكن أن يؤدي الانخفاض في أسعار النفط إلى فرض ضغوط على ميزانية الدولة وزيادة في العجز المالي مما سيؤثر في حجم المشروعات وحجم الإنفاق الحكومي المتنامي. وقد يسهم ذلك في دفع الدولة وتشجيعها على البحث عن بدائل لإيرادات النفط وهذه نقطة إيجابية إذا ما تمت. ولا شك أيضا أن الزيادة في العجز المالي ستؤدي إلى إلغاء عدد كبير من الالتزامات والاعتمادات التي تم تخصيصها في ميزانية الدولة، وقد ينعكس ذلك على الحركة الاقتصادية في بعض القطاعات كقطاع التشييد والبناء. كما سيتأثر القطاع البنكي بهذا الانخفاض، حيث سيكون هناك انخفاض في حجم السيولة وبالتالي صعوبة في تقديم الضمانات والقروض بأنواعها والتي تعدها البنوك السعودية المحرك الأساسي لنموها. ومن ينظر إلى المؤشرات الاقتصادية الأساسية في الاقتصاد السعودي سيجد أن القطاعات كلها مرتبطة بشكل وثيق بالنفط وأسعاره، وبالتالي سيكون هناك إضعاف وقتي للقدرة الاقتصادية لهذه القطاعات ومعدلات النمو المتحققة فيها.
من زاوية أخرى وهي الأهم من وجهة نظرنا هو أن الانخفاض في حجم الطلب على النفط سيكون له مدلولات وانعكاسات إيجابية كثيرة. إن الزيادة المفاجئة الحادثة اليوم في أسعار النفط تسببت في حدوث الكثير من التوترات وعدم النضج في كثير من القرارات الاقتصادية التي تم اتخاذها، إلى جانب ذلك فإن هذا الازدياد المفاجئ قد تسبب أيضا في حدوث تغييرات اجتماعية سريعة أفقدت أفراد المجتمع السعودي القدرة على الاستيعاب والتكيف. لقد تغيرت مواقف الناس تجاه بعضهم البعض واتجاه العمل والعلم وطريقة امتلاك الثروة. إن انخفاض الطلب على النفط وتراجع العائدات النفطية ربما يساعد في إعطاء الإدارة الاقتصادية في المملكة مزيدا من الوقت لتحسين أدائها للوصول إلى الأهداف الاقتصادية المراد تحقيقها بطريقة أكثر كفاءة. لقد تبين خلال السنوات القليلة الماضية أنه من الصعب على الإدارة الاقتصادية في المملكة استيعاب الزيادة المفاجئة في العائدات النفطية مما تسبب في حدوث العديد من الظواهر الاقتصادية غير الحميدة كالتضخم والمضاربات في الأسهم والعقارات. واتضح أيضا أنه من الصعب على متخذ القرار في المملكة معالجة هذه الظواهر أو التغلب عليها. لقد رأينا وسنرى مشروعات استثمارية عملاقة حجم الاستثمار فيها بالمليارات تتم إقامتها لأغراض معنوية واستهلاك مظهري غير مبرر. كما تجلى الهدر في مشروعات استثمارية كثيرة في القطاعين الحكومي والخاص لم يكن الوقت كافيا لأي منهما لدراسة الجدوى منها والتأكد من أن تلك الاستثمارات ستحقق عوائد إيجابية مقبولة. إذن يمكن القول بأن الانخفاض في حجم الطلب وبالتالي في العائدات النفطية إذا ما تحقق فهو حسنة يمكن أن يساعد متخذ القرار الاقتصادي في المملكة ـ إذا رغب في ذلك- على إعادة النظر في الكثير من القرارات وتوجيهها الوجهة السليمة من أجل تحقيق تنمية كفؤة وغير تضخمية وهادئة. كما قد يوفر هذا الانخفاض مجالا لالتقاط الأنفاس من قبل أفراد المجتمع للتفكير جديا فيما خسروه من مكتسبات أصيلة ذات أبعاد ثقافية واجتماعية.