بوادر لنظام اقتصادي عالمي جديد في 2008 بعد أزمة الرهن العقاري
حظي عام 2007 بالعديد من السمات البارزة في المجال الاقتصادي العالمي، لعل أبرزها: تراجع قيمة الدولار عالميا، وتنامي الاندماج في قطاع الإعلام، وتراجع حركة الشراء والتملك في الربع الأخير، بسبب أزمة سوق القروض العقارية الأمريكية، كذلك دخول مستثمرين خليجيين حكوميين في ملكية مصارف عالمية كبرى، مثل "سيتي جروب" و"يو بي إس".
اندماجات اقتصادية عملاقة
شهد أيار (مايو) الماضي اندماجا بين العملاقين الإعلاميين "رويترز" البريطانية و"تومسون كورب" الكندية، في مقابل 17.2 مليار دولار، لتشكيل أكبر شركة معلومات في قطاع الأعمال عالمياً. وفي آب (أغسطس) الماضي استطاع رجل الأعمال الأسترالي الشهير، روبرت مردوخ، أن يقنع غالبية أفراد عائلة بانكروفت، ورثة مؤسسي شركة داو جونز وشركاه، بالموافقة على شراء المجموعة التي تعد أعرق شركات المعلومات المالية الأمريكية والعالمية، وتصدر صحيفة "وول ستريت جورنال"، إضافة إلى منشورات أخرى، في صفقة بلغت قيمتها 5.6 مليار دولار.
حركة كبيرة في القطاع المصرفي
تربّع على عرش العمليات المصرفية صفقة نفذها كونسورتيوم ثلاثي، يتألف من «رويال بنك أوف سكوتلاند» البريطاني و"فورتيس" البلجيكي «وسانتاندر» الإسباني، بشراء مصرف «إي بي إن أمرو» الهولندي في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، في أكبر عملية شراء في القطاع على الإطلاق، بلغت قيمتها الإجمالية 70 مليون يورو (أي 99 بليون دولار)، أو ما يوازي الناتج المحلي الإجمالي لمصر، بعد أشهر من التنافس الشرس عليه مع بنك باركليز البريطاني.
وبدورها، أعلنت مجموعة سيتي جروب الأميركية، التي سجلت خسائر مالية ضخمة متأثرة بأزمة القروض العقارية، في الأسابيع الماضية، عن دخول هيئة أبو ظبي للاستثمار الحكومية شريكاً فيها، من خلال إصدار خاص لحقوق أسهم، بقيمة 7.5 مليار دولار، لتصبح حصتها 4.9 في المئة من أسهمها.
وتلاها مصرف يو بي إس السويسري العريق في إعلانه منذ أسابيع دخول شريكين هما صندوق الاستثمار الحكومي السنغافوري ومستثمر خليجي (على الأرجح جهة حكومية)، لم يعلن عن أسمه. وأصدر أسهماً جديدة لزيادة رأسماله بلغت قيمتها 13 مليار فرنك سويسري (11.48 مليار دولار)، منها 11 مبيار فرنك لمؤسسة الاستثمار السنغافورية التي أصبحت تملك 9 في المئة من أسهمه وملياري فرنك لمستثمر من الشرق الأوسط.
وفي القطاع الصناعي، أعلنت شركة داو كيميكال الأمريكية وشركة الصناعات البتروكيماوية التابعة لمؤسسة البترول الكويتية إقامة مشروع مشترك للبتروكيماويات تبلغ مبيعاته المستهدفة 11 مليار دولار. وستحصل «داو» على 9.5 مليار دولار من شركة الصناعات البتروكيماوية التي ستصبح مساهماً في خمس من وحداتها العالمية، تبلغ قيمتها نحو 19 مليار دولار، وستنتجان معاً البولي إثيلين والبولي بروبيلين. وسيكون مقر المشروع المشترك في الولايات المتحدة ويوظف أكثر من خمسة آلاف شخص في شتى أنحاء العالم.
وفي قطاع التعدين وصناعاته، نشطت محاولات التملك والشراء، وهي ظاهرة متكررة في الفترة الأخيرة، نظراً إلى تعزز الطلب على هذا القطاع الذي تدخل منتجاته في صناعات مختلفة وفي القطاع العقاري. ودخلت مجموعتان متنافستان، هما "بي إتش بي بيليتون" و"ريو تينتو» في صراع، بعد أن تقدّمت الأولى بعرض شراء عدائي من الثانية التي رفضته كان لينتج عنه (لو نجح) عملاق مناجم وتعدين برأسمال سوقي يفوق 350 مليار دولار. وأصبحت «ريو تينتو» محطّ الأنظار بعد شرائها شركة ألكان الكندية للألمنيوم، بـ 38 مليار دولار، في تموز (يوليو) الماضي، لتتحول إلى أكبر منتج للألمنيوم عالمياً.
وكان أبرز مثال على تراجع سوق صفقات التملّك والشراء، بعد الأزمة المالية العقارية العالمية، تراجع صندوق دلتا 2 القطري الحكومي بعد أشهر من المفاوضات عن عرضه شراء سلسلة متاجر ســينزبري البريطانية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عازياً السبب إلى «تضافر عوامل أدت إلى تدهور أسواق الائتمان العالمية".
وكانت وكالة رويترز قد نقلت عن صحيفة "ميل" البريطانية في آب (أغسطس) الماضي أن مصارف (هي "دريسدنر" و"كلينوورت" و"سي إس إف بي" و"إيه بي إن امرو") كانت قد تعهّدت بتقديم قرض لـ «دلتا 2» لتمويل جزء من عرض شراء بقيمة 10.4 مليار جنيه استرليني (21 مليار دولار) لمجموعة "سينزبري"، قد تتراجع عن عرضها بسبب اضطراب الأسواق المالية.
واشتدت المنافسة على صفقات تملك بورصات عالمية للسنة الثانية على التوالي، ودخلت بورصات عربية في السباق. وكانت شركة "أو إم إكس" للبورصات الاسكندنافية محطّ الأنظار، إذ تنافست مجموعة قطر القابضة الحكومية وبورصة دبي العالمية على شرائها منذ أيار (مايو) الماضي. وجرى الاتفاق أخيراً على أن تشتري بورصة دبي و"ناسداك" الأمريكية "أو إم إكس"، بعد موافقة السلطات المالية السويدية، بـ 4.9 مليار دولار، على أن تذهب ملكيتها إلى «ناسداك» وتحصل بورصة دبي على 20 في المائة من الكيان الجديد الذي يتوقع إتمام شرائه في الربع الأول من العام المقبل. وانسحبت قطر من السباق، واتفقت على مقايضة 10 في المئة من أسهم تملكها في "أو إم إكس"، بحصة 14 في المئة من "بورصة لندن"، تملكها بورصة دبي.
صعود للشركات الروسية والصينية
أدى النمو الاقتصادي القوي وارتفاع إيرادات الصادرات النفطية إلى ازدهار أعمال الشركات الروسية. وأصبحت السوق الروسية إحدى الأسواق الرئيسة الصاعدة عالمياً. لذلك، تتهافت الشركات العالمية للحصول على حصة في قطاع الصناعة الروسي، لضمان دخول سوق الاستهلاك المحلية الواعدة.
وفازت «رينو» الفرنسية في الأسبوع الماضي بحصة تبلغ 25 في المئة من «أفتوفاز» المصنّعة لسيارة لادا الروسية الشهيرة، علماً أن "جنرال موتورز" كانت تسعى إلى الدخول في شراكة معها.
من جهة أخرى، تربّعت الشركات الصينية بحسب إحصاءات شركة تومسون فاينانشال هذه السنة على عرش الشركات العالمية التي أدرجت أسهمها للمرة الأولى في بورصات عالمية، من خلال إصدارات أسهم 195 شركة صينية، بإيرادات إجمالية بلغت 87.3 مليار دولار، حتى تشرين الثاني الماضي.
وفي هذا السياق، كان لافتاً إطاحة شركة بترو تشاينا النفطية الحكومية العملاقة نظيرتها الأمريكية «إكسون موبيل» عن عرش أكبر شركة عامة في العالم، بعد أن أدرجت أربعة ملايين سهم من أسهمها في بورصة شانغهاي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وارتفعت قيمتها السوقية الإجمالية إلى نحو 800 مليار دولار في بداية تداولها في البورصة.
4.35 تريليون دولار قيمة صفقات الاندماج العالمية عام 2007
ذكرت تقارير اقتصادية، أخيراً، أن حجم صفقات الاندماج في العالم سجّل مستوى قياسياً خلال العام الحالي رغم أزمة السيولة النقدية الناجمة عن خسائر القروض عالية المخاطر في قطاع التمويل العقاري في الولايات المتحدة. حيث بلغت قيمة صفقات الاستحواذ والاندماج في العالم خلال العام الحالي 4.35 تريليون دولار بزيادة نسبتها 20 في المائة على العام الماضي. في الوقت نفسه فإن صعوبة الحصول على تمويل لصفقات الاندماج نتيجة أزمة السيولة، أدّى إلى تراجع صفقات الاندماج بمقدار الثلث خلال النصف الثاني من العام الحالي.
معدل قياسي لبيع الشركات الأمريكية
استغل المستثمرون الأجانب تراجع الدولار الأمريكي، خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام المنصرم، للاستحواذ على شركات أمريكية بأسرع معدّل منذ عقد على الأقل. وشكّلت مشتريات مستثمرين من مناطق تمتد من دبي إلى هولندا نسبة 46 في المائة من أصل ما قيمته 230.5 مليار دولار من عمليات الاندماج والاستحواذ الأمريكية، التي أعلن عنها خلال الربع الرابع من عام 2007، وهي أعلى نسبة منذ عام 1998. وبحسب" بلومبيرج"، فقد تجنّب المستثمرون الأجانب خلال عام 2007 الجدل السياسي الذي أحاط بصفقة "موانئ دبي العالمية" عام 2006. وقال إيفان شلاجر، المشارك في مؤسسة "سكادين وسليت وميجر وفلوم" بواشنطن: "في مرحلة ما بعد صفقة (موانئ دبي العالمية) شهدنا سنتين تحوّلتا إلى سنوات قياسية بالنسبة إلى الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة".
بوادر نظام اقتصادي عالمي جديد في 2008
شهد عام 2007 مجموعة من الأحداث والتطورات التي تهيئ للعام المقبل 2008 لأن يصبح عام تحولات اقتصادية كبرى، قد يكون لها في المدى الطويل آثارها السياسية أيضا. ولأن كان عام 2001 هو العام الأهم حتى الآن في هذا القرن نظرا لما أفرزه من أحداث سياسية كبرى، إلا أن التغيرات الاقتصادية التي يتوقع أن يشهدها العام المقبل ستؤدي إلى تغيرات سياسية أعمق نظرا لما للاقتصاد من دور محوري في عالم اليوم. لعل أهم ما شهده عام 2007 هو انخفاض سعر الدولار الأمريكي إلى مستويات قياسية، ولكن هناك تطورات جوهرية أخرى يشهدها الاقتصاد العالمي. وأهم هذه التطورات هو صعود دور الصناديق الاستثمارية الوطنية وخصوصا تلك العربية والآسيوية منها، ولا يمكن فصل التطورات عن بعضها، فضعف الاقتصاد الأمريكي (هبوط سعر الدولار وأزمة القروض العقارية الأمريكية) من جهة وتنامي دور الصناديق الاستثمارية الجديدة من جهة أخرى تسببا في قبول السياسة الأمريكية أموراً لم تكن لتقبلها حتى وقت قريب. فأصبحت تقبل هذه الاستثمارات التي كانت تتحفظ عليها حتى وقت قريب. وهناك تغير شبيه لذلك في أوروبا، من حيث تقبل هذه الصناديق، وتراجع الداعين للحماية ضدها. والأمر لا يقتصر على جانب الاستثمارات الآتية من الشرق في الاقتصادات الغربية. فحتى استثمارات الغرب في الدول العربية المصدرة للطاقة أصبحت تتعرض لمنافسة روسية وصينية قوية، كل هذه التحركات، قد تعني تغيرات استراتيجية كبيرة عالميا، فاستمرار الأمر على هذه الوتيرة قد يعني أنّ الغرب ممثلا بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يفقد بعض أدواته الاقتصادية التي كان يؤثر بها سياسيا في العالم. وليس الأمر مقتصرا فقط على الأمور التي ذكرت في هذا التحليل، فهناك أيضا موضوع المساعدات التنموية التي أصبحت روسيا والصين يقدمانها خصوصا في دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا.