عائدون من الموت يروون حكاياتهم.. الأمل في العلاج
طارق عبد العزيز مهندس مصري، منذ أقل من شهر كان يمارس عمله الطبيعي في شركة خاصة بأعمال المقاولات في الرياض، والآن يرقد في حالة أشبه بالغيبوبة مع بعض الاختلافات. محسن حسين عامل بنجلاديشي لم يكن يتخيل أن يكون مصيره راقدًا على سريره يتحرك بصعوبة إن أراد دخول دورة المياه. محمد دلال مياه عامل بنجلاديشي أيضًا كان مثل أقرانه منذ شهر، والآن يرى الأشياء مزدوجة فيضطر إلى وضع رباط طبي على إحدى عينيه ليرى بالأخرى. ما الذي يجمع بين طارق ومحسن ومحمد؟ .. باختصار: ثلاثة أسرًة بالمستشفى الوطني في الرياض ورعاية طبية فائقة وحرص تأميني مؤكد على أن ينالوا حقوقهم بعد ما تعرضوا لتلك الأحداث أثناء العمل.. أما التفاصيل فهي قصة أخرى.
سقوط من علو 6 أمتار
محسن حسين عامل بنجلاديشي لم يكمل 27 من عمره، توجه إلى عمله في حي الازدهار في ذاك اليوم الذي لم يكن يختلف بداية عما مر من أيام، وبعد أن تم توزيع العمال على أماكنهم انطلق يقطع المسافة الفاصلة بين الأرض ومكان عمله على ارتفاع ستة أمتار ليواصل أعمال السباكة التي بدأها في اليوم السابق، ولسبب ما اختل توازنه ودوت صرخة في المكان تنبئ أن صاحبها يصافح الأرض بعنف، تجمع العمال فوجدوا زميلهم محسن ملقى على الأرض بلا حراك، وعلى الفور نقل إلى المستشفى الوطني في الملز، وشخصت الحالة على أنها كسر في فقرات الظهر، ومع بدايات دخوله المستشفى كان الكل يسمع صرخاته الشديدة من الألم الذي يشعر به كلما لمس أحدهم جزءًا من جسمه، فيما يبدو عاجزًا تمامًا عن تحريك أعضائه.
من فوق الكوبري
كان اليوم عاديًا جدًا.. أنهى محمد دلال مياه عمله في الشركة التي يقوم عمالها بأعمال البلدية، واستعد لركوب سيارة العودة مع 15 عاملاً آخر من زملائه، لم يفكر أحدهم في النظر إلى الخارج حيث يبدو الطريق محفوظًا بعد سنوات من العمل، وفي خضم أحاديثهم المعتادة فوجئوا بالسيارة يختل توازنها وتصعد ثم تهبط والسائق يحاول إعادتها إلى الطريق فيفشل ليجد محمد نفسه طائرًا في الفضاء، ثم تسود الدنيا تمامًا ولا يرى شيئًا.
لمدة ثلاثة أسابيع كاملة ظل محمد دلال مياه راقدًا في غيبوبة تامة، لا يميزه عن الموتى سوى صدره الذي يعلو ويهبط دليلاً على أن القلب ما زال يعمل، لكن صاحبه في عالم آخر، ثم عاد إلى عالم الأحياء وهو يشعر بصداع شديد مع وجود كدمات شديدة بالرأس والعينين.
حادث رهيب
من المؤكد أن الذين يرون المهندس طارق عبد العزيز الآن لن يتعرفوا عليه جيدًا، فالشاب الممتلئ حيوية ونشاطًا لا يعرف كيف وجد نفسه في تلك الحالة، حتى أنه ربما لا يتذكر الحادث الرهيب الذي تعرض له أثناء عمله، وكل صلته بالعالم أنبوب بلاستيك ينقل له الغذاء عبر الأنف وأحيانًا الفم، وضمادة كبيرة تغلف يده اليمنى، وشلل شبه تام بالجانب الأيسر، وتهتك بالمخ وعدم قدرة على الكلام.
جراحة.. وتحفظ
الشيء الثاني الذي يجمع بين الحالات الثلاث السابقة هو الدكتور محمد المتعافي استشاري جراحة المخ والأعصاب في مستشفى الوطني وصاحب الباع الطويل في علاج الحالات المستعصية، وكثير منها ترفض علاجها جهات طبية أخرى، كما أنه المشرف على الحالات الثلاث ومن تابعهم جراحيًا وإشرافيًا منذ دخولهم بوابة المستشفى.
بالنسبة للمصاب الأول محسن حسين الذي سقط من «سقالة» على علو ستة أمتار، يقول د.المتعافي إنه بدأ الحركة في اليوم الرابع من دخوله المستشفى بعد أن أجريت له أكثر من عملية في عملية واحدة كان الهدف منها إزالة الضغط عن النخاع الشوكي ومعالجة الفقرات التي حدث فيها الكسر من خلال تثبيت دعامات ومسامير تعمل مع الوقت على التحام الفقرات المصابة بمثيلاتها الطبيعية في الجسم، مشيرًا إلى أنهم في المستشفى حمدوا الله أن محسن لم تحدث له إصابة في النخاع الشوكي وإلا كان تعرض لشلل تام، لكن الآن صار بمقدوره التحرك والمشي بمساعدة خفيفة، ويمكنه بعد الخروج ممارسة عمله الطبيعي دون إجراء علاج طبيعي.
وتعليقًا منه على الحالة بشكل عام ينصح د.محمد المتعافي بأهمية وجود توعية صحية من أصحاب العمل للعمال، وكذلك العامل نفسه أثناء الأعمال التي تتطلب الصعود إلى علو شاهق من خلال اتخاذ سبل السلامة المهنية كارتداء الخوذة الواقية للرأس، وألا يعمل قبل تناول فطور جيد حتى لا يتعرض للدوخة ثم السقوط، وأن يربط نفسه بشيء ما يربطه بما يقوم بإنجازه حتى يتجنب السقوط، وألا يكون مريضًا بأمراض من نوعية ضغط الدم والسكري وما شابهها.
منطقة صعبة
أما محمد دلال مياه الذي دخل في حالة غيبوبة تامة فيقول عنه د.المتعافي إنه أصيب بكسر منخسف في الجمجمة، والمشكلة أن المنطقة التي أصيب فيها تمتاز بالصعوبة الشديدة كونها عبارة عن تجمع دموي يعد كالمخزن في المخ، وبالتالي كانت المشكلة الأكبر في التدخل الجراحي، حيث الخوف من حدوث نزيف لا يمكن إيقافه، وتكون النتيجة الوفاة السريعة.
اتخاذ القرار هنا كان صعبًا وحرجًا لكن بدأ المريض يتحسن، ولذا كان الأنسب إجراء العملية، وبعدها بدأ يتعافى جيدًا ويمشي ويتحرك، ولم يبق عنده سوى مشكلة في الرؤية وهي من تأثيرات سقوط السيارة، حيث لا يرى إلا إذا أغمض أو حجب إحدى عينيه لكنها مسألة تحتاج إلى الوقت فقط ثم تعود الأمور إلى طبيعتها.
وبالنسبة لحادث المهندس طارق عبد العزيز فيقول إن الحادث تم تشخيصه في البداية على أنه: إصابة شديدة بالرأس ونزيف في الصدر نتيجة الحادث الذي تعرض له وأدى إلى غيبوبة تامة، وبسبب حالته الصعبة رفض أحد المستشفيات استمرار علاجه به لعدم وجود الإمكانيات اللازمة، فتم تحويله إلى المستشفى الوطني، وعند الكشف لاحظ د.المتعافي وجود تهتك قوي بالمخ إضافة إلى بعض الكسور، وكان الحل أن يتم علاجه تحفظيًا أي أن تقدم له الرعاية الكاملة على أن يتم حجزه بالعناية المركزة ومنح الجسم فرصة العودة التدريجية إلى نحو متقدم يمكن التعاطي معه طبيًا، ومع الوقت بدأ المهندس الفاقد للحياة يتكلم بكلمات وجمل بسيطة للغاية، فيما صار بوسعه إدراك من حوله والتعاطي مع طبيبه والممرضات أيضًا صار بإمكانه تحريك جانبه الأيمن وتعاطي العصائر والمشروبات الخفيفة عن طريق الفم إضافة إلى الأنف، وما يشير إلى تقدم في حالته يوشك أن يصل إلى درجة متقدمة خلال الشهور القادمة وهو ما يعد إنجازًا في حد ذاته.
وخلال الجولة التي قمنا بها على الحالات الثلاث بدا إبراهيم الرشيدي رئيس قسم الإصابات في المستشفى متفائلاً إلى أقصى حد رغم صعوبة بعض الحالات، ربما لأنها ليست المرة الأولى التي يعالج فيها المستشفى الوطني مثل هذه الحالات وإن كان أبدى ضيقه من عدم التزام بعض العمال وأصحاب العمل بأساسيات السلامة المهنية التي من شأنها بمشيئة الله تجنب الكثير من الحوادث والإصابات الصعبة والخطرة.
ولفت الرشيدي إلى أن المؤسسة العامة للتأمينات تحرص جيدًا على الحفاظ على العامل أو الموظف المصاب، ولا تدخر جهدًا أو نفقات في سبيل علاجه ورعايته طبيًا بالشكل اللائق حتى يستعيد عافيته، ثم لا تجد مانعًا من متابعة علاجه عبر نوع آخر من العلاج الطبيعي للمساهمة في إعادته إلى كامل لياقته البدنية.
ولا تمانع المؤسسة من العلاج الطويل للمصاب حتى لو اقتضى الأمر أن يظل المصاب في المستشفى لمدة عام أو أكثر، وهي في ذلك تتحمل جميع النفقات المطلوبة للعلاج، كما تخاطب جهة العمل حتى لا يتم التخلص من العمال المصابين بترحيلهم إلى بلادهم ما يعني عدم اقتصار دور المؤسسة على العلاج فقط.
أيضًا يلفت الرشيدي إلى أن بعض المصابين يتعجل الخروج بنفسه ربما لأنه لا يطيق الجلوس في المستشفى رغم توفير المؤسسة والمستشفى له الرعاية الكاملة، وحدث أن خرج أحد المصابين قبل تكملة العلاج الطبيعي، ووقع على الخروج بنفسه بسبب حالته النفسية السيئة بعدما تعافى قليلاً، لكنه عاد مرة أخرى وكان القرار في هذه الحالة بتر ساقه لأنه تعجل المغادرة وعدم إكمال العلاج دون أن يجبره أحد على الخروج.