الرعي الجائر يحوّل مناطق برية في المملكة إلى صحراء جرداء

الرعي الجائر يحوّل مناطق برية في المملكة إلى صحراء جرداء

كشفت سلسلة تحقيقات ميدانية أجرتها "الاقتصادية"، أن هناك عددا من المناطق البرية في السعودية أصبحت شبه خالية من بعض النباتات الرعوية التي كانت سائدة في المنطقة وأخرى بدت مهددة بالانقراض، وذلك بسبب الرعي الجائر الذي قضى على مساحات هائلة من المراعي الطبيعية وحولها إلى صحراء جرداء.
وتبين من خلال التحقيقات التي ركزت ـ في مجملها ـ على قضية الرعي الجائر وأثره في البيئة من واقع الوقوف الميداني على الوضع المتردي للمراعي، أن ضعف إمكانية السيطرة على الأعداد الهائلة من الماشية المستوردة من الخارج وتربيتها في البراري المحلية والتي يفوق حجمها لدى البعض عشرات الآلاف، أديا بدورهما إلى القضاء على عدد من النباتات البرية التي كانت تشتهر بها المملكة، وهو الأمر الذي ينذر بتبعات سلبية على التوازن البيئي مستقبلا.

في مزيداً من التفاصيل:

تسبب عدم وجود نظام واضح للرعي في السعودية في تفاقم مشكلة الرعي الجائر وكرّس لدى البعض من أهل البادية روح الاعتداء على المراعي من خلال استيراد كميات كبيرة من الأغنام "النعيمي" التي حولت نعمة الماشية إلى نقمة تغتال البيئة بعدما أصبحت غالبية الأراضي الرعوية في السعودية صحراء جرداء.
وكشفت جولة لـ "الاقتصادية" شملت عددا من مواقع الرعي ضمن حدود منطقة الصمان (360 كيلو مترا) شمال شرقي الرياض، أن ضعف إمكانية السيطرة على الأعداد الهائلة من الماشية المستوردة من الخارج وتربيتها في البراري المحلية والتي يفوق حجمها لدى البعض عشرات الآلاف، أديا بدورهما إلى القضاء على عدد من النباتات البرية التي كانت تشتهر بها المملكة، وهذا الأمر له تبعاته على الإخلال بالتوازن البيئي مستقبلا.
وفي الوقت الذي لم تتوافر فيه دراسات وأبحاث علمية دقيقة تثبت ما نوعية تلك النباتات البرية التي فقدتها البراري السعودية، إلا أن الجولة الميدانية التي أجرتها "الاقتصادية" تشير إلى أن المناطق البرية في السعودية أصبحت شبه خالية من بعض النباتات الرعوية التي كانت سائدة وأخرى بدت مهددة بالانقراض والتي من بينها: العرفج، الروثا، الأرطى، والغضا.
وتبين من الجولة أيضا وجود تغيير واضح في الغطاء النباتي وظهور نباتات جديدة ـ وصفها بعض أهل البادية ـ بأنها نباتات غازية وشوكية بعضها سامة وقليلة الاستساغة بالنسبة للمواشي مثل: الشنان، إضافة إلى تأثر بعض المناطق البرية نتيجة انجراف التربة وتشكيل كثبان رملية في بعض المناطق التي كانت في السابق مواقع رعوية.
"الاقتصادية" تواصل طرح قضية الرعي الجائر وأثره في البيئة من واقع وقوفها الميداني على الوضع المتردي للمراعي لتنقل من هناك تفاصيل ما تعانيه المناطق المتدهورة. إلى التفاصيل:

إن أول ما طالب به المهتمون بحماية المراعي الطبيعية هو إيجاد تشريعات تنظم الرعي الذي وصفوه بـ "المبيد" وليس الجائر، وكذلك التقليل من استيراد الأغنام من الخارج، و"النعيمي" تحديدا، لما لها من تأثيرات سلبية في البيئة بشكل عام والمراعي بشكل خاص، وتشجيع تربية الأغنام النجدية، على اعتبار أنها تتناسب مع البيئة الرعوية المحلية.
هذا ما توصلنا إليه من خلال الجولة، حيث كان هناك اتفاق من قبل البعض من أهالي البادية والمهتمين بالبيئة البرية بأن عدم مناسبة الأغنام المستوردة "النعيمي" للبيئة السعودية، هو الأمر الذي أدى إلى إتلاف مساحات شاسعة من المراعي، خاصة أن أرض المراعي السعودية تحتاج إلى وقت طويل كي تعود إلى طبيعتها التي كانت عليها في السابق.

شجيرات وأعشاب موسمية

يعتقد الكثير من المهتمين بحماية المراعي الطبيعية أن طريقة رعي الأغنام "النعيمي" لا تتلاءم مع مراعي المملكة خاصة منطقة نجد، لأن هذه المناطق لا يوجد فيها إلا شجيرات وأعشاب موسمية وهذا النوع من الأغنام يبدأ بأكل هذه الأعشاب من جذورها وبعد أسبوع واحد من خروجها من الأرض، مما لا يعطي أي فرصة للنباتات أن تكبر وتنتج البذور.
وتساءلوا عن دور وزارة الزراعة في حماية الغطاء النباتي من الرعي الجائر، كما تساءلوا عن مصير الدراسات التي سبق أن أعلنت عنها وزارة الزراعة بالتعاون مع الهيئة الفطرية لوضع تنظيم للرعي في المملكة.

أغنام النعيمي

ليس المقصود أن أغنام النعيمي لا تشارك أنواع الأغنام الأخرى في الرعي، وإنما المقصود أن كل منطقة لها نوعية من الأغنام التي تناسبها ولو كانت جميع المناطق مناسبة للأغنام بأنواعها لكانت تربية "الحري" قبل 50 عاما في نجد و"النجدي" و"العوارض" في المنطقة الجنوبية، لكن لكل منطقة ما يلائمها من الأغنام، إذ إن "النعيمي" يحتاج رعيه إلى غطاء نباتي كبير وكبير جدا وفي ضوء ذلك انتشرت تربية هذا النوع من الأغنام في سورية والعراق والأردن منذ القدم وإيران وتركيا وغيرها.
لذا فإن جلب أغنام النعيمي من موطنها بهدف تربيتها في أراضي الرعي المحلية، يعد تدميرا للأرض فمنذ أن تسللت "النعيمي" إلى مناطق المملكة، خاصة إلى منطقة نجد والصمان تحديدا أصبحت الأرض مقفرة، إضافة إلى انتشار الأمراض والأوبئة المتعلقة بالأغنام.

إيجاد جهة مسؤولة عن المراعي

إن الحل الأولي لحماية المراعي المحلية يتمثل في وجود جهة محددة مسؤولة عن الحفاظ على تلك المراعي وأن تعطى ميزانية وصلاحيات خاصة تمكنها من القيام بعملها بالشكل المطلوب كي تتولى حماية المراعي وتنظيم استغلالها وتوفير الإمكانات اللازمة لها.
يقول سعد الخالد ـ مهتم بالبيئة الطبيعية ـ إنه بالفعل بدأت هذه الأيام تنحسر المراعي بشكل متسارع وأصبحنا نرى الأمطار دون أن يتبعها ظهور أعشاب حتى في تلك الأماكن التي اعتبرت من المراعي المشهورة على مر التاريخ، خاصة بعدما أصبحنا نشاهد في السنوات الأخيرة ظاهرة تربية الأغنام والإبل حتى بين أبناء الحاضرة وأبناء الذوات، وبعض القطعان تصل إلى 20 ألفاً وأكثر.
ويصف الخالد الوضع قائلا: "من يرى تلك القطعان من الأغنام التي تغطي مساحات شاسعة من الأراضي البرية لا يجزم أن تلك المناطق سيكون فيها عشب مستقبلا إلا ـ برحمة الله ـ وذلك يعود لسبب عدم وجود البذور التي لم تترك نباتاتها لتكبر وتثمر وتجف وتنشر بذورها في الأرض، وأضاف: "لا بد أن يكون للجهات ذات الاختصاص القول الفصل في هذا الأمر".

وضع حد لكثرة المواشي

ودعا الخالد الجهات المعنية إلى ضرورة وضع حد لأعداد المواشي المتزايدة التي تستوردها المملكة سنويا ولا توجد مراع تستوعبها، وعدّها أحد أهم أسباب تناقص المراعي وانعدامها، مطالبا بتوفير الحماية لمناطق المراعي، وذلك عبر تنظيمه وتقنينه.

ينزل المطر ولا تنبت الأرض!

أما يوسف العتيبي ـ الناشط في مجال الحفاظ على البيئة البرية ـ فهو يقول كم هي جميلة أرض الصحراء بعدما يحل موسم نزول المطر وتنبت الأرض زرعا وتكسوها خضرة عذراء، لكن كم هي قبيحة تلك الأرض عندما يأتي علينا زمن ينزل فيه المطر في "موسمه" ثم لا تنبت الأرض. وأضاف قائلا: "ببساطة إن مثل هذا الأمر يمكن أن يتحقق حينما لا يوجد في الأرض بذور للنباتات البرية بسبب الرعي الجائر الذي له أضرار بالغة على البيئة، فهو يؤدي إلي تدهور الغطاء النباتي وتعرية التربة وانجرافها".
ويشخص العتيبي الحالة التي يسببها الرعي الجائر للأرض بأنه يقضي على بذور النباتات البرية الموجودة في التربة، إذ إنه في كل موسم حينما ينزل المطر تنبت هذه البذور لتخرج لنا العشب، وهي تعيش دورة نباتية يقوم فيها هذا النبات بإنتاج بذور تسقط على الأرض للموسم الذي يليه وهكذا.

تصحر من انعدام البذور

أما الذي يحصل حاليا ـ والحديث للعتيبي ـ أن الأعداد الكبيرة من الماشية ترعى هذه النباتات قبل اصفرارها واستواء بذورها، إنها تأكل نموها الخضري الغض الذي لم ينتج بذراً، وهي بذلك تقضي على تلك النبتة مدى الحياة. وقال: "إن ما نعيشه في هذه الحقبة من الزمن لم تعتد عليه تلك المراعي منذ أن أوجدها الله. إن عدد الماشية وثقافة الرعي الحالية غير صحية ومنافية لما توارثه أهالي البادية في هذه البيئة".
وتابع: "إن التصحر ليس من قلة الماء فقط، بل من انعدام البذور أيضا ما يعني أنه في حالة انعدام البذور، فلن يكون هناك نبات حتى لو تم سقيها بالآبار وليس بالأمطار".

لماذا الاستمطار؟

ويواصل العتيبي حديثه: "إن الحكومة قامت بعد الشعور بخطر التصحر نتيجة لقلة الأمطار بالاستعانة ـ بعد الله سبحانه وتعالى ـ بالعلم الجديد وهو "الاستمطار"، لكن ما فائدة الاستمطار والماء إذا كانت الأرض خالية من البذور؟ وتابع: إن أنواعا كثيرة من النباتات البرية انقرضت، وقد أصبح أهل البادية يبشرون بعضهم بعضا في المجالس في حالة رؤيتهم شيئا منها، بل تصل بهم المرحلة إلى أن يلتقطوا لها الصور للذكرى .. ويصف ضاحكا: "ربما تكون هذه الصور كي يثبتوا للأجيال المقبلة أن أرضنا كانت تحتوي على هذا النوع من النبات".

نريد مشروعا لإكثار البذور

ويقترح العتيبي أن تطبق وزارة الزراعة السعودية ما قامت به بعض الدول المجاورة بإقامة مشروع لإكثار البذور بالتعاون مع المراكز البحثية الزراعية بهدف توفير المراعي الجيدة، وذلك بزراعة أجزاء من الأراضي بالاشتال الرعوية، وتقوم بحماية هذه المراعي لمدة معينة بهدف نمو الشتلات الرعوية، على أن يكون في داخل الأراضي الرعوية آبار لتخزين مياه الأمطار لسقاية الأغنام خلال موسم الرعي.

لا تنسوا التخييم والتحطيب

ونبّه العتيبي في نهاية حديثه إلى أن هناك عددا من المظاهر التي لها أضرار بالغة على البيئة من بينها: التخييم غير المنظم الذي بدأ ينتشر في الفترة الأخيرة، وعدم استعمال الطرق المعروفة للدخول والخروج من وإلى المناطق الخضراء في الصحراء، فضلا عن اقتلاع الأشجار مثل الطلح والسدر والرمث، كما يحدث في بعض الأودية والشعاب، وكذلك سباق السيارات "الرالي" الذي بدأ بعض المناطق بتنظيمه، معتبرا أن الأخير يعد واحدا من أكثر أعداء البيئة.
وزاد: "إن عدد الماشية في كثير من المناطق يفوق قدرة المرعى وطاقته فيتم الرعي الجائر، هناك أنواع من الماشية لديها قدرة لانتزاع جذور تلك الأعشاب من باطن التربة". وأضاف:"إن سباق الرعاة إلى أي أرض تظهر فيها بدايات اخضرار أمر خطير على مستقبل تلك الأماكن".

دراسات ميدانية

وفي الجولة نفسها تحدث لنا الحميدي الحربي (55 عاما)، بقوله: إن الاهتمام بالنباتات البرية مطلب ضروري، ذلك كونها تشكل المصدر الأساسي للرعي بالنسبة لنا، لكن الأمر يحتاج إلى دراسات ميدانية من قبل الجهات المعنية لمعرفة حجم المشكلة والخروج بحلول لها تراعي حاجة أبناء البادية الذين يشكل الرعي لهم مصدر الدخل الوحيد.
وأشار الحميدي ـ وهو أحد أهالي البادية في منطقة الصمان ـ إلى أنه لا بد أن تكون هناك طريقة تبقي الموارد الطبيعية متجددة لتوفير الغذاء لنا وللمواشي، لذا فهو يطالب الجهات المعنية بضرورة تنظيم عملية الرعي وإعادة زراعة المراعي المتدهورة وإنشاء العديد من السدود الترابية لتوفير المياه اللازمة لاستمرارية نمو النباتات في هذه المناطق، خاصة تلك التي بدأت تعاني بالفعل اختفاء كاملا للنباتات ونالت منها مظاهر التصحر.

اخرجوا من مكاتبكم

وكرر الحربي الذي يملك 420 رأسا من الأغنام النجدية، مطالبته لوزارة الزراعة بسرعة التدخل وإيجاد حلول عملية للسيطرة على قطعان الماشية ذات الأعداد الهائلة التي يربيها البعض من "الأغنياء" من باب المباهاة فقط دون الحاجة إليها "فهم لا يستفيدون منها أبدا".
وقال الحميدي: "إنني أدعو مسؤولي وزارة الزراعة أن يخرجوا من مكاتبهم إلى البراري ويشاهدوا بأم أعينهم ذلك الكم المخيف من قطاع الماشية المنتشرة في الأراضي، أكثرها مستوردة من الخارج جاءت بناء على تصاريح استيراد ضخمة إما بهدف التجارة وإما التربية والتسمين.

شاحنات "النعيمي" المستورد

ويشير الحميدي إلى أنه مع اقتراب مواسم الأعياد ـ خاصة عيد الأضحى ـ نجد أعدادا كبيرة من الشاحنات تتجه نحو الشعاب والوديان لتفريغ حمولتها الضخمة من الأغنام المستوردة "النعيمي" القادمة من سورية والأردن، ومن ثم تسريحها في الصحراء لعدة أيام لحين حلول موعد بيعها في الأسواق، أو يبقى بعضها يرعى في الصحراء لسنوات.

ظهور أعشاب سامة

وقبل عودتنا من جولة "الصمان" التقينا محمد السبيعي ـ وهو أحد مربي الماشية ـ الذي قال إن الأغنام ثروة نملكها نحن المواطنين وتشكل أهم مصادر المنتجات الحيوانية، أما المراعي فهي ثروة للقطاع العام "مشاع" وتستخدم كمراعٍ مجانية. واعترف السبيعي بأن عدم وجود نظام يحمي المراعي سمح بتطور أعداد قطعان الأغنام التي أصبحت تقدر بالملايين لتتجاوز طاقة المراعي وبالتالي استنزافها تدريجيا.
ونبّه السبيعي إلى قضية قد تكون بالغة الخطورة تسبب فيها الرعي الجائر الذي هو زيادة الماشية علي المرعى، وتتمثل هذه القضية في تسبب الرعي الجائر في القضاء علي العشب المفيد وبقاء النباتات غير المفيدة والسامة أحيانا.
ويعتقد السبيعي أن بعض هذه النباتات تأتي مع سماد هذه الماشية أثناء الرعي، خاصة أن معظم الرعاة يعلفون ماشيتهم من الشعير أو أعلاف أخرى مستوردة من الخارج ولها أضرار علي التربة. واستند السبيعي في حديثه إلى ملاحظة البعض وجود نباتات غريبة بدأت تنبت في الصحراء خلال السنوات الماضية وهي نباتات غريبة، وقال: "ربما تكون مضرة على الماشية".

الأكثر قراءة